خطوط التجليات الفلسفية والفكرية أزاء كورونا

المنتصر في الحرب على كورونا هو الذي سيكتب التاريخ

د. ماجد السامرائي

الاستطلاع الذي أجرته مجلة فورين بوليسي الأمريكية يوم 23-3 يتضمن محاولة لاستشراف المستقبل في مقال موسع بعنوان  »كيف سيبدو العالم بعد وباء فيروس كورونا« رد فيه 12 من كبار القادة والمفكرين من مختلف أنحاء العالم على هذه السؤال وكان أبرز هذه الملامح كما لخصتها المجلة بالآتي:

– فشل الولايات المتحدة والغرب بشكل عام في قيادة العالم وتحول الدفة إلى الصين ودول جنوب شرق آسيا.

– النظام العالمي وتوازن القوى سيتغيران بشكل كبير

– انتهاء نظام العولمة الاقتصادية والاعتماد المتبادل والبحث عن سلاسل توريد محلية.

– نسف القواعد الحالية لعمليات التصنيع والانتاج العالمية.

– فشل المؤسسات الدولية في القيام بدورها الذي كان متوقعا في التحذير والتنسيق للحد من الأزمة.

– توقع تفكك الاتحاد الاوروبي بعد فشله في مواجهة الأزمة على مستوى أعضائه.

-مزيد من الانكفاء إلى الداخل وتراجع القضايا الدولية ذات الاهتمام المشترك

-تقوية مفهوم الحكومة المركزية وتعزيز قبضة الحكومات دون معارضة.

-قوة الروح الإنسانية ونجاحها في مواجهة الخطر

– المنتصر في الحرب ضد كورونا هو الذي سيكتب التاريخ ويحدد المستقبل بشكل كبير.

-سيكون العالم أقل انفتاحا، أقل حرية، أكثر فقرًا

التاريخ السياسي والاجتماعي العالمي وضع إشارات متباينة حول الأوبئة الجائحة في درجة تأثيرها على حياة وفناء البشر بالترافق مع البحوث العلمية، وعلى تجديد التحولات في نظم قيادة العالم في جدلية الدين والحياة ثم الاقتصاد والحياة. كانت الأوبئة امتحاناً  »لمجتمع وحقبة« كما يرى مؤرخ العلوم لوران-هنري فينيو من جامعة بورغوني الفرنسية. حيث يوضح بأن الوباء يهدد الروابط الاجتماعية ويطلق العنان لشكل خفي من حرب أهلية يكون فيها الجميع حذراً من جاره.

أحدثت الأوبئة عبر العصور تغييراً في الأنظمة الصحية حيث أنتجت مفهوم الحجر الصحي وابتكار أساليب التعقيم. ويشير بعض المؤرخين الأوربيين الى أن من ردود الفعل على الطاعون الذي اجتاح أوروبا 1347 -1352 التعبير عن حياة اليوم الواحد فاندفع كثيرون للملاهي والحانات وعاشوا كل يوم كما لو أنه الأخير كما يقول الباحثان وليام نافي وأندرو سبايسر في كتابهما  »الطاعون الأسود« لكن هذا الوباء كان مقدمة لنهاية نظام العبودية الذي قام عليه مجتمع القرون الوسطى.

صموئيل هينتكون

الصدمة الكبيرة حول وباء كورونا تنبأ بها العالم البريطاني مارتن ريس في كتابه الصادر عام 2003 بعنوان  »ساعتنا الأخيرة« والذي عرضه الباحث العربي هشام طالب في كتابه (بناء الكون ومصير الانسان)الذي تنبأ بحصول خطأ بايولوجي يقضي على مليون شخص سنة 2020 متحدثاً عن الإرهاب البيولوجي وتدخلات العلماء في التعديل الوراثي للأحياء والاستنساخ البشري والحيواني ويقول ريس  »التوقعات بحدوث كارثة تدمر العالم ارتفعت إلى 50 بعد أن كانت 20 قبل مائة عام. وهذا سيتم بتدبير من أشرار أو نتيجة خطأ بشري، غير أن العام 2020 سيكون عام الخطأ البيولوجي الذي يتسبب بقتل مليون إنسان«.

هناك مقاربة بين الأوبئة التي تجتاح العالم وبين نظريات الفكر الفلسفي والسياسي في أوروبا الحديثة. وباء كورونا يعكس بعضاً من معالم هذه الجدلية الاستشرافية، اكتفى المفكرون والكتاب العرب بنقل فصولها وسط دهشة لم تصل بعد الى مرحلة الانحياز الى أي من قطبي النزاع الفكر الرأسمالي والاشتراكي اليساري هم منحازون.

زعماء استراتيجيون ومفكرون من المعسكر الشرقي الروسي والصيني ومعهم الماركسيون واليساريون في العالم يفسرون جائحة كورونا وفق المنهج المعادي للولايات المتحدة الأمريكية، بعضهم يفسرالوباء بأنه مؤامرة إمبريالية. والبعض الآخر يعتبرها نتاجاً للفكر الإمبريالي. العقيد في الجيش الروسي فلاديمير كفاتشكوف يقول في مقابلة صحفية  »هذا كله كذب، يجب أن يُفهم على أنه عملية خاصة استراتيجية وعالمية شاملة. هي مناورات لقيادة هيئة الأركان العالمية القابعة وراء الكواليس للسيطرة سيطرة كاملة على الإنسانية وتقليل سكان العالم«.

يرى الباحث اليمني قاسم المحبشي أن الفلسفة الصينية تقوم على أساس أولوية المجتمع على الأفراد، وتقديس النظام العام والالتزام الصارم بالتعاليم العامة والإحساس العالي بالمسؤولية المجتمعية، واعتماد العلم الوضعي والتكنولوجيا أداة ووسيلة أساسية في التنمية المستدامة وعلاج الأزمات وعدم الإيمان بالخرافات والأساطير السحرية. تلك التقاليد الراسخة في الثقافة الصينية هي التي مكنتها من السيطرة على وباء فيروس كورونا بكفاءة وجودة عالية وفي مدة قياسية.

رواد الفكر الأمريكي والأوربي وفلاسفة النظام الإمبريالي أكثر تعبيراً عما يحصل من انتقالات عميقة على مستوى البشرية ويضعون للأوبئة الكونية مكانة في تغيير شامل لمجرى التاريخ وليس فقط في الجانبين الإقتصادي والإجتماعي.

المؤرخ الإنجليزي المشهور  »جفري باراكلاف« من جامعة اكسفورد يكتب تحت تأثير الإحساس العميق بالأزمة:  »إننا مهاجمون بإحساس من عدم الثقة بسبب شعورنا بأننا نقف على عتبة عصر جديد لا تزودنا فيه تجاربنا السابقة«.

في أمريكا يتجدد شعور معظم الفلاسفة والمفكرين والكتاب بأن العالم هو تحت قبضة الولايات المتحدة وحتمية انتصارها في المعركة الحالية ضد كورونا ويسخرون من تعاطي أوروبا مع هذه الأزمة. فقد سخر الداعية الأمريكي دافيد روثكويف من فرنسا وكندا قائلا:  »إن هذه الحكومات هي سليلة الملك  »كاتوت« الملك سيء الصيت الذي أقام عرشه على شاطىء البحر وأمر الأمواج أن تعود القهقري. وتعود أسباب سقوط الاتحاد السوفيتي – كما يقول – في جانب منها أن المجتمعات المغلقة لا يمكنها أن تنافس في عصر المعلومات وسيكون مصير هذه البلدان هو الأسوأ. إن نبرة دافيد لا تخلو من الإنفعال العاطفي بالفرح المنتصر، وهو هنا يصور العولمة كأسطورة طبيعية يستحيل ردها كما يستحيل رد أمواج البحر من التدفق باتجاه الشاطئ.

المفكرون الأمريكان يستعيدون اليوم نظريات صراع الحضارات ونهاية التاريخ فيقدمون نظرية جديدة تجعل من  »المعرفة« أساساً للمرحلة المقبلة فيما أطلق عليها الفيسلسوف توفلر بالجيل الثالث في كتابه  »الموجة الثالثة« متوقعاً بدء موجة جديدة من الصراع. هناك مقدمات جديدة للموجة الثالثة في بعدها التقني والعملي في الممارسة الاجتماعية والسياسية لا يفسرها الإفراط في استخدام الكمبيوتر أو مجرد المناورات المالية للتأثير في الأسعار، وإنما في الفوران الهائل في القاعدة المعرفية الى المجتمع ما بعد الصناعي.

وفق توفلر كل شيء في حياة الإنسان أخذ يتغير بعنف، وكل من سيقدر له أن يعيش على ظهر هذا الكوكب في هذه اللحظة المتفجرة سيشعر بالصدمة الكاملة للموجة الثالثة في حياة هذا الجيل التي ستجييء بأسلوب حياة جديدة تماماً يتأسس على  »مصادر للطاقة متنوعة ومتجددة وأساليب إنتاج تجعل خطوط الإنتاج في المصانع أشياء عتيقة انتهى زمانها، وولادة مؤسسة من نوع جديد يمكن تسميتها (الكوخ الإلكتروني) ونرى مدارس وشركات ونقابات مختلفة مستقبلية تختلف عن المألوف حالياً اختلافاً جذرياً، وقواعد جديدة للسلوك ترسمها الحضارة الجديدة بدلاً من أن نتصدى لها كأجزاء متفرقة«.

في تقديرتوفلر ستقوم أمم المعرفة باعتبارها القوة والسلطة في الموجة الثالثة ببيع المعلومات والإعلام والمبتكرات والإدارة والثقافة الرفيعة والفنون الشعبية والتكنولوجيا المتقدمة والسوفتوير للكومبيوتر والتعليم والتدريب المهني والرعاية الطبية والخدمات المالية وغيرها للعالم. ومن بين تلك الخدمات الأخرى يمكن أن تقدم أيضاً الحماية العسكرية القائمة على امتلاكها لقوات عسكرية متفوقة. لكن نظريته هذه لا تعير إهتماماً لمشكلات الفقر والتخلف والأمية والقيم الاستهلاكية وتفكك المجتمع والتفسخ الأخلاقي ونتائج العلم والتقنية لا سيما في الثورة البيولوجية وعلم الوراثة والاستنساخ على حياة الإنسان وغيرها، وهي المشكلات التي يرى فيها آخرون أمثال (روجيه جارودي) وجاك دريدا وناعوم توشوفسكي تهديداً قوياً للحضارة الغربية الأمريكية.

المفكرون والمثقفون العرب لهم قصة أخرى في التعبير عن مواجهة أزمة كورونا تنطلق من العقلية السائدة. الكاتب محمد عرفات حجازي يرى أن العرب يعبرون عن تشفيهم بالحضارات دينياً وتحويل مشاعر العجز والفشل إلى كراهية للآخر، وتفاقم وسواس المُؤامرة والجهل المُقدّس بالأسباب العلمية واستفحال الفكر الخُرافي وبروز الكهنة المُتاجرين بآلام الناس ومخاوفهم جعل  »كورونا« الفيروس يفضح أمراضنا العربية.

أكثر ردود الفعل الفكرية والثقافية سرعة في العالم العربي ذات طابع أدبي شعري فما زال المفكرون والمثقفون تحت هول الصدمة وهم الموصوفون بالميل الى العاطفة الشاعرية. فقد عبر الفيلسوف العربي أحمد نسيم برقاوي في رسالة أدبية ذات مدلولات فلسفية نشرها ووجهها الى كورونا  »أخفتنا، أخفتهم أجمعين، أصفرهم وأبيضهم، وأسودهم وأسمرهم، كبيرهم وصغيرهم، غنيهم وفقيرهم، سيدهم وعبدهم، حاكمهم ومحكومهم، ملحدهم ومؤمنهم، مليشياتهم وأحرارهم، عنصريهم وإنسانيهم، جاهلهم وعالمهم، بنوكهم وعسكرهم وآلاتهم، دولهم وإماراتهم وإمبراطورياتهم وسلطناتهم. لم يبق كائن بشري لم تخفه، أنت الموت وقد تمثل لهم فيروساً، ذكرتهم بالموت الذي يتناسون. ورحت تعبث بمالهم ومأكلهم ومشربهم ومجلسهم، يا من لا ترى بالعين المجردة ما ذا فعلت بهم؟وحدتهم في عدائك، واحتفظوا بعداواتهم، قاوم ولا تستسلم لهم، ربما تمنحهم وقتاً لكي يفكروا كي يتأملوا ضعفهم ويصنعوا قوة لوجودهم الحر«.

الكاتب العراقي علي الصراف يحكي عن تضارب القيم في هذه اللحظة التاريخية فيقول  »التضارب بين القيم الفردية والقيم الاجتماعية ظاهرة يمكن لكل من يعيشون في هذه البلدان أن يروا كم أنها ظاهرة دموية. تذهب الطائرات الأميركية مثلا لتقصف فتدمر مدنا بكل من فيها، فتظهر الصحف في اليوم التالي لتحكي قصة قيام جندي بإنقاذ طفل من الركام، أو معاناة كلب سائب، إنها «ثقافة«. إنها  »رؤية« من منظار خاص للعالم. إنها فلسفة تحترم الإنسان (إذا احترمته فعلا) ولكنها لا تحترم الإنسانية. قد تبدو غنية جدا بما تملك من مال، وقوية جدا بما تملك من أسلحة. إلا أن غناها فقر، وقوتها تهديد. يغنى فيها أفراد وتفقر الأكثرية. وتقوى لكي تهدد أمما أخرى بالموت والدمار في الصراع على المصالح والأرباح. وليس يهمها أن يموت الملايين في أرجاء الأرض بالجوع والمرض«..

الكاتب العراقي كاظم المقدادي يمزج ما بين الأدب والسياسية فيرى إن الخيول الجامحة لولا لجامها لكانت قد اطاحت بفرسانها حالها حال العلوم المتسارعة والتي لا تقف عند حد وتطرق أبوابا جديدة وخطيرة خدمة لمصالح قوى سياسية واقتصادية، وبنوك عالمية مؤثرة تتحكم بمصائر الاقتصاد العالمي. إن العلوم حقا بحاجة الى لجام اخلاقي يوقفها عند حدود العلم وعند حدود المعرفة التي تجلب الخير للانسان علوم تبني ولا تهدم، تسعد ولاتحزن.

العدد 104 – أيار 2020