أدب الوباء، هناك معنى مهما حلُكت الرؤيا

نسرين الرجب- لبنان.

كيف ينتهي الوباء فجأة مثلما أتى، وكيف يواصل الناس بعده!

في بحثه عن المعنى يسعى الأدب إلى تجسيد التجربة الإنسانيّة حتى لا يتآكلها الفناء وتُنسى كأنّها لم تكن. ونحن اليوم أمام ظاهرة تبدو دراماتيكيّة جدّا وتراجيديّة في الكثير من فصولها المتمثّلة بوباء كوفيد 19 أو ما اصطُلح على تسميته بـ »كورونا«،  الذي يتهدّد حياة الكثيرين في العالم كلّه، بالمرض والموت وفراق الأحبة من دون أن يملك المرء خصوصيّة وداعهم بما يليق، ويفرض نفسه على حياتهم فرضًا تامًا فيُعطل روتينهم اليومي ويحصُرهم في هاجس واحد هو الصحّة وكيفية تأمين القوت اليومي، ويصيب الكثير منهم بويلات نفسيّة كالاكتئاب والخوف الشديد والحذر ويشكّل هاجسًا إضافيًّا في حياة الذين يعانون من الوسواس القهري، فصول سوداء تعايشها الكثير من الدول اليوم، والكثير من شعوب العالم كلّ بإيمانه ومسلكه الفكريّ يتناول الموضوع مسبغًا عليه من اعتقاداته المتنوعة المشارب.

 يتناول هذا المقال الحديث عن روايات، تحدثت عن الوباء منها متخيّل ومنها قابل للحدوث، وفي جزئيته يتحدّث عن رؤية هؤلاء للوباء وكيف ينتهي فجأة مثلما أتى، وكيف يواصل الناس حيواتهم بعده، جاهدين لإيهام أنفسهم أن كلّ شيء سيكون على ما يُرام. ويختم بالحديث عن رواية كابوسيّة الأحداث تصوّر مصير العالم إذا ما حكمته طبقة أصحاب النفوذ الحاكمين باسم المال ؟!

العمى، جوزيه ساراماغو

تتحدّث الرواية عن وباء العمى الأبيض الذي يصيب في البدء ثلة من الناس فجأة، ينتقل المرض بالعدوى من شخص لآخر، تتحرك السلطات لنقل المصابين إلى الحجر الصحي في مستشفى مهجور، بينهم امرأة طبيب ادّعت إصابتها كي تبقى إلى جانب زوجها -هي الوحيدة التي تظلّ مبصرة – يعايشون هناك أصعب الأوقات، لا تخبر أحدًا بحقيقتها إلّا في النهايات ومع ثُلّة مقربة من الأشخاص الذين كانوا من أوائل المصابين وهم رجل (الأعمى الأول) وزوجته، الصبية ذات النظارة السوداء، طفلٌ بلا والديه، رجل يضع عصابة سوداء على إحدى عينيه. تساعدهم قدر استطاعتها وتشهد الكثير من التجارب والمواقف القاسية والأحداث المصيرية التي يرسمها المؤلف بعناية رمزية شديدة الأثر.

يصل الوباء إلى ذروته، ويكتشف المحجورين عند توقف الدولة عن تقديم المعونات الغذائيّة لهم، أنّ جميع من في المدينة أصيبوا بالعمى، يعرّي المؤلف في السياق حقيقة الحضارة البشريّة والقشرة الواهية مما يسمى مدنيّة، يهيج الناس باحثين عن الطعام فيسرقون ويقتلون ويُقتلون في سبيل الحفاظ على حياتهم والحصول على حاجاتهم ويحتلون بيوتًا ليست لهم.

 تصل زوجة الطبيب بهم إلى بيتها لا يجدون ماء ولا غذاء فتذهب إلى المستودع كي تأتي بالطعام، في الليل تمطر تغتسل النسوة في مشهديّة رمزية بماء المطر، وفي اليوم الثاني زوجة الطبيب تذهب لاحضار الطعام، وفي طريقها إلى المخزن تجد أن الناس هناك جُثث متعفّنة للحاقهم بها في المرة السابقة وقد أففلوا باب المخزن وراءهم .. يغلبها الإعياء فتطلب من زوجها أن يأخذها للكنيسة، ونقع على مشهد اللوحات والتماثيل المغطاة الأعين والذي يلاقي استنكارا من قبل الناس، تدريجيًا يستيعيدون في بيت الطبيب الرؤية، يتخلون عن تعهداتهم السابقة كما في قصة الفتاة والرجل العجوز  »أما المثاليات العاطفيّة، الانسجامات الزائفة فهي في جزيرة نائية، انتهت«. يتفرقون لتبقى المرأة وزوجها وكلب الدموع، يقف المشهد على زوجة الطبيب التي تصاب بكآبة  »إنها كحبل انقطع، كنبع لم يعد يحتمل الضغط الذي كان خاضعًا له باستمرار ..«  يتساءل الطبيب:  »لا أعرف لماذا عمينا، ربما نكتشف الجواب ذات يوم..«، ترد عليه:  » … لا أعتقد أننا عمينا بل أعتقد أننا عميان، عميان يرون بشراً عميان يستطيعون أن يروا، لكنهم لا يروون«.

بينما الناس يحتفلون غناءً وصراخًا باستعادة النظر وسط القاذورات التي تشهد على هياجهم الأعمى،  تحمل الرواية في رؤيتها الكثير من الحكمة والكثير من المعاني الرمزيّة التي تحيل إلى مواضيع مختلفة، فالمؤلف لم يعن بذكر الأسماء واكتفى بالدلالة على الشخصيّات من خلال صفات ظاهرة، ولم يسم المدينة ولا الزمن الذي حدثت فيه ولكن حرص على تحديد خصوصيّات المدينة المعاصرة.

يختم المؤلف الرواية:  »نظرت إلى الشارع في الأسفل المليء بالقاذورات إلى الناس الذين يصرخون. يغنون… رفعت بصرها إلى السماء فرأت كل شيء أبيض إنّه دوري فكرت.. جعلها الخوف تخفض بصرها بسرعة.. فرأت المدينة لا تزال في مكانها«.

الطاعون، ألبير كامو

 تجري أحداثها المتخيّلة في  مدينة وهران الجزائريّة،  »مدينة عادية ليست أكثر من مقاطعة فرنسيّة على الشاطئ الجزائري«.  يتحدّث الناس عن خروج الجرذان وموتها بأعدادٍ كثيفة في الطرقات وأمام مداخل البيوت. يُضرب الحجر الصحي، يلقى الكثير من الناس حتفهُم في المستشفيات.

يسرد الراوي وقائع الأيام التي تمر على الناس، وكيف يسحق الحدث نفوسهم ويحرمهم من أبسط السعادات.   »والحق أن عيد ميلاد ذلك العام  كان عيد جهنم… لم يكن شيء ليذكّر بأعياد الميلاد الماضية. .. وكانت الكنائس ملأى بالشكاوى بدلا من أعمال الخير..«.  »لم يبق في قلوب الجميع إلا أمل قديم جدًا وكئيب جدًا، هو نفسه ذلك الذي يمنع الناس من الذهاب إلى الموت. والذي ليس هو إلا مجرد إصرار على الحياة.« إصرار الناس على التمسك بالأمل والحياة يدفعهم نحو ترقب كل جديد، ليعاودوا حياتهم الطبيعية:  »يتحدثون عن الطريقة التي ستنظم بها الحياة مرة أخرى بعد الطاعون، وإن كان الحديث يتخذ لهجة اللامبالاة. كانوا مجمعين على التفكير بأن رغد الحياة السابقة لن يعود دفعة واحدة، وبأن الهدم أيسر من البناء …« بعد مرور أشهر  »هبطت الأرقام هبوطًا عظيمًا«، بعد أن يكون المرض قد أهلك قسما كبيرًا منهم، يبدأ الناس بالتعافي،  »صحيح أنّ الطاعون لم يكن قد انتهى بعد، وكان عليه أن يبرهن عن ذلك ولكن الجميع أخذوا يتخيّلون قبل بضعة أسابيع القطارات تسير وهي تصفر على سكك لا نهاية لها.«.

الطبيب برنار ريو وهو البوصلة التي تتوجه أحداث وشخوص الرواية من خلاله، يفقد زوجته وصديقه في المراحل التي يبدأ فيها الطاعون بالانحسار، وشيئًا فشيئًا يتعافى المرضى . لذا تبدو رؤيته -لمظاهر وأصوات الصخب البشري والفرح عبر إطلاق المفرقعات- غير معنية، ويبدو لا منتميًا لكلّ ذلك الجو الصاخب.  فيصف الرواي ذلك من خلال رؤيته العدميّة:« كانوا يرقصون في جميع الساحات، وكان السير في الطرق قد تضاعف بقوّة بين ليلة وضحاها«.  »انهم ينفقون في هذا اليوم الذي يشبه يوم بعثهم مؤونة الحياة التي ادّخروها طوال طوال تلك الأشهر الماضية. التي انقضى فيها كل منهم نشاطه وغدًا ستبدأ الحياة..«

بعد انتهاء الحجر ينسى الناس شقاءهم ويخرجون معلنين انتصارهم على الموت:  »منتصرين ظاهرًا على الطاعون، ناسين كلّ شقاء..«، وبعضهم يصل إلى هذا اليوم مرتجين الخلاص ولكن طاقتهم الشعورية قد استُنزفت، وراحوا يتحسسون آلامهم .  »لقد ودّ لو أنّه يعود لذلك الشخص الذي كان في أوائل الطاعون يريد أن يعدو دفعة واحدة  حتى خارج المدينة، ويهرع إلى لقاء من كان يحبها. ولكنه يعلم أن ذلك بات غير ممكن..«

دروز بلغراد (حكاية حنا يعقوب)، ربيع جابر

لم تتناول الرواية موضوع الوباء بشكل مباشر وإنما أشارت إليه في سياق الأحداث. الرواية تتحدث عن نفي مجموعة من الدروز، في القرن التاسع عشر شاركوا في الحرب الأهلية في جبل لبنان بين الدروز والموارنة بقرار من السلطنة العثمانية، إلى بلغراد ويكون بينهم حنا بائع البيض المسيحي، الذي ساقته الصدفة الماكرة ليكون بديلًا عن رجل درزي افتديَ  بعد وساطة،ُ يعايشون أسوأ تجارب بالسجن والتعذيب والتشرّد وسوء المعاملة  ويقضي الكثير منهم نحبه في أشدّ الوقائع مأساوية.

وهي رواية جديرة بالقراءة إذ تتناول مرحلة تاريخية مهمة وتنظر إليها من زاوية همجيّة السلطة وحكم ذوي النفوذ وخدعة الحروب المذهبية . أشار الكاتب إشارات دلاليّة إلى الوباء:  »الهواء الأصفر انتشر في اسطنبول وأدرنة«،  »حين ظهرت حالات حمى في القرية المجاورة كفّ نعمان عن جلب البيض من هناك. كان يبادله بفطر بريّ«، فالأخبار كانت تنتقل عبر القوافل:  »قافلة آتية من الشرق نقلت إليهم الخبر«، ضُرب الحجر الصحي، وهو أمر لم يمنع من استمرار انتشار الحمى:  »ضُرب الحجر الصحي على صوفيا لكن الهواء الأصفر تسلل مع الخضر والفواكه والحلويات المخبوزة في الريف«، فالكوليرا أشد بطشًا من الرصاص لأنها تقتل بلا رحمة وعشوائيًّا:  »الحمى والإسهال والغثيان الذي يخرج من الأحشاء فِرقًا من البلغم، مخلب الهواء الأصفر أشد بطشًا من الرصاص… سحقتهم الغربة في الأسبوع الثاني قضى خمسة«، ويبدو أن تغطية الفم والوجه وتجنب المصافحة والتخفيف من السلوكيات الاجتماعية هو أمرٌ ليس حديث النشأة ولا يحتاج ما نراه اليوم من مبادرات توعوية منفرة في بعضها:  »الميت الأخير في نهاية الأسبوع دفنوه على عجل. وهم يلفّون وجوههم بالقماش. لم يتبادلوا التعازي ولا الشدّ على الأيدي… خائفين من -حشرات سابحة في الهوا-«. وكما أتت تنتهي الكوليرا، بعد أن تتم مهمتها، في تغيير النفوس:  »لم يُعرف لماذا تراجعت الكوليرا بسرعة كما أتت لكن في هذه الأثناء لمس الموت النفوس برأس إصبعه وغيّرها«.

يوتوبيا، أحمد خالد توفيق

أسوأ ما يحدث بعد الوباء والحروب هو انقسام المجتمع انقسامًا بيّنًا حيث لا يوجد طبقة وسطى، طبقة الأثرياء من تجّار ومرابين، وطبقة الكادحين الذين لن يجدوا كفاف يومهم:  »ليس فقركم ذنبا… عندما كان أباؤنا يقتنصون الفرص كان أباؤكم يقفون أمام طوابير الرواتب في المصالح الحكومية، ثم لم تعد هناك مصالح حكومية.. لم تعد هناك رواتب. أنتم لم تفهموا اللعبة مبكرًا لهذا هويتم  من أعلى إلى حيث لا يوجد قاع…«.  وهو سيناريو سوداوي نقلته رواية  »يوتوبيا« لـأحمد خالد توفيق، يتحدّث الكاتب عن تحوّل المجتمع المصري إلى طبقتين، طبقة الأثرياء الحاكمة تحكم وتنظر إلى ما سواها من طبقة الفقراء نظرة دونيّة كنظرة البشري لما هو حيواني بل أضيق وأكثر ظلمة وطبقة الفقراء الذين يعيشون في عشوائيّات:  »فقط أذكر أن الأمور كانت تسوء بلا انقطاع.. وفي كلّ مرة كان الفارق بين الوضع أمس واليوم طفيفًا، لذا يغمض المرء عينه كلّ ليلة، وهو يغمعم: أهي عيشة! ما زالت الحياة ممكنة ما زال بوسعك أن تجد الطعام والمأوى وبعض العلاج… إذن فليكن غدا.. ثم تصحو ذات يوم لتدرك أنّ الحياة مستحيلة، وأنّك عاجز عن الظفر بقوت غد أو مأواه ..«  نشاهد مجتمعًا ملوثًا بالنرجسيّة، والمخدرات وحب السيطرة والاستملاك يستغل كل ما هو إنساني وروحي، ويرذل الضعفاء. واليوم وفي ظلّ الأزمات الاقتصاديّة الحاكمة التي أوجدتها طبقة أصحاب النفوذ والمال نأمل ألّا تتحقق هذه السيناريوهات البائسة.

عندما يتحدّث الراوئيون عن انتهاء الوباء يكشفون حقائقه المرّة وهي أن النفس البشريّة قابلة للانزلاق إلى الأسفل، الحضارة والمدنيّة قابلة للتقهقر عندما تصطدم بهرم الحاجات الأساسيّة.  فمشهد تسارع الناس جماعات لاقتناء المواد الغذائية يشبه مشهد العميان في رواية  »العمى«، وهم يتدافعون بقذارتهم وعفنهم للحصول على كلّ المواد القابلة للاستهلاك.. المفارقة هنا بـ (كل)، فهم لا يأخذون حاجتهم فقط وإلّا لما تدافعوا بمثل هذا الغباء.

 أدب الوباء كما قال أحد الكُتّاب:  »وسيلة للتذكير بأن العقل لا يزال موجودًا.. وفي مكان ما ثمة معنى  ».   فلا بدّ أن تنتهي هذه الأزمة، ويستنفذ الوباء قواه العدائيّة، ويستيقظ العالم من غفلته، في العالم اليوم الكثير من المبادرات والعطاءات الخيّرة التي تعكس حقيقة أن الجمال لم ينتهِ من العالم، وأنّ رحمة الله أوسع من ضيق أفق الناظرين .

العدد 104 – أيار 2020