غياب ثريا جبران ود. حسن عطية: من السماء الغائمة إلى الظلال النائمة

عبيدو باشا

لم أجد حسن عطية جباناً، وهو يقف خلف العنبر الملكي لما يراه الأكاديميون ملكياً، لا يقاسمهم أحد ملكيته : الأكاديمية. الأخيرة حانته الصباحية وروح صوته الصادح بين طلابه. الأكاديمية عيده، خياره. ولو أنها متهمة لدى فئة من المسرحيين بأن أصحابها ذات وجوه طلية. أي أنها وجوه تقف خلَّف المرآة لا أمامها. يموت الأكاديمي واقفاً عند جذع روحه الأكاديمية، يجد في استمرارها تكريماً للمسرح والمسرحيين. حين يراه الكثيرون صوت الغياب في الحضور. إنها على شكل موجة قديمةبحسب هؤلاء، إلا أنهم في تصريحهم هذا، لا ينتبهون إلى أن الموجة حين يأخذها الجزر تعود موجة جديدة حين يعيدها المد إلى الشاطئ. لا أعتقد أن الرجل غالى في وقوفه على الأكاديمية، لأنه جعلها تسيل على عدد من الأسماء الواعدة، البارزة في المسرح المصري وفي المسارح العربية الأخرى. وجد د. حسن عطية مغدوراً لمَّا لم يغدر أحداً. لا غدر لأحد، ما دام يمارس النقد بالكثير من التناسق مع النفس. الكفاءة كفاءة والخبرة خبرة. إلا أن الشغل على النقد في مجتمعات مسلمة أمورها للمنظومات السائدة، منظومات دينية واجتماعية وإقتصادية، عملية مستحيلة. حيث ناس المسرح عشائر، في معظمهم. حيث ناس المسرح جزء من المنظومة البيروقراطية في التسلسل الهرمي للبيروقراطية. لم يفشل الرجل في التعامل مع المنظومة، حين وجد هوامشه الخاصة، هوامش عبر من خلالها إلى حياته الخاصة. حتى وجد نفسه شخصية محسوبة، شخصية دربت نفسها على وظائفها، بعيداً من التحكم بها، ما وفر له إمكانيات التقدم. أدركت، بعيداً من التحقيقات، أن حسن عطية حقق منصبه وسط جماهيره لا في المكاتب، إذ رحت أعلن لا توافقي مع إجراءات تشغيل حضوره في النقد وفي مساحات أخرى شغلها الرجل، أمام بعض معارفه وتلاميذه، من حيد أشغالهم عن التأثيرات الأعتباطية والمسيسة. ثلاثة من الأسماء

د. حسن عطية

المحسوبة أجاب أصحابها بأن الرجل موجة بيضاء، حين إتهمته أمامهم بالغموض وبخوض معارك صامتة بصمت الصحارى وبالإستعصاء أمام غير المسجلين على الداتا الخاصة كرئيس للمهرجان القومي في مصر. يضع جدوال الحضور وجداول الغياب بالوقت ذاته. جاء جواب من أجاب بأن واحدة من المعاضل السائدة بالعالم العربي أن كثيرين يعطفون أمن مهرجاناتهم على أمنهم وبالعكس. إلا أن حسن عطية في عمله الأكاديمي لا يقلب سحنته من سحنة إلى سحنة. وأنه لا يوقع طلابه في نزق المعاني هو استاذ نظريات الدراما والنقد بأكاديمية الفنون والعميد الأسبق للمعهد العالي للفنون المسرحية والمعهد العالي للفنون الشعبية. لم تتخبط الألسنة وهي تؤكد على شغله مهامه الأكاديمية، بعيداً من الإبتلاءات السائدة بالعالم العربي. مروى مهدي عبيدو( ناقدة واستاذة أكاديمية ومترجمة من مصر، تعيش وتعلم في المانيا ) زهرة المنصور ( ناقدة من البحرين) بشرى عمور ( ناقدة من المملكة المغربية ). ثلاث سيدات معتبرات، صاحبات آثار تعلقت بي حتى تتبعتها، لا عبر الإجراءات المفروضة بين الأصدقاء ولا القواعد، عبر الإستجابات التلقائية وتشكيلات البيئات الإجتماعية والثقافية الطيبة. تصدت الصديقات الثلاث لتصنيف الرجل الهادئ. لم أجد فيه رجلاً هادئاً ولا صاحب شخصية ذات ناتج يشبه شخصيته. حين وجدنه مؤسس كيان، وجدنه مؤسس طريقة وأسلوب. لم أخرج من التقصيات إلا على كلام الصديقات، من جمعتهن علاقات أكاديمية وشخصية بصاحب الشخصية ذات السمة الواحدة غير العجلة بإبداء الرأي،وغير القريبة من السباحة في بحور من الزقزقة الكلامية.

حين إنحازت السيدات الثلاث إلى الرجل في الكلام، تخصص الرجل عندي بالتوافق، بعد أن وجدت أن هدوء الرجل هدوء مريب، لا هدوء على أبواب المهبات. ثم، لم يلبث حضوره أن تمأسس أمامي على امتداد، يقوم على معطيات روحية واجتماعية ووظيفية، أثمرت بعض الأسماء المقيدة على قيد الحياة بكفاءة خارج حروب المسرح وداخل حروب المسرح.

بعدها، إرتقى الرجل بنموذجه، من عبثية النظرة إليه، إلى قراءة حضوره في بناه الفوقية وبناه التحتية. بنى شرعية شرعت حضور المسرح في منأى عن القراءات الإحتكارية لبعض الأسماء. قراءات ذات طابع عربي وهوى غربي. ما اتاح له أن يتقدم ويستمر على هوادج النقد بوعي حدوده ومتطلباته وتحولاته، وعلى إدارة بعض مطورات الثقافة في بعض المهرجانات المسرحية. هكذا، ارتبط حضوره بشكل عضوي، بالنقد بشكل مباشر ومن خلال ممارسة النقد بإدارة مؤسسات مسرحية.

أظهرت التحقيقات أنه على حق، ولو أنني وجدت أنه لا على حق في ممارسته أحد أنواع النقد دون غيره : النقد التطبيقي. وهو نقدٌ جار ٌللنقد المدرج في خانات الواقعية الإشتراكية. كشف مستور البنى المسرحية على هذه الطريقة، كشف لا يجذب الأنظار إلى إستثمار النقد برحابة النقد، لا بحفاظه على قواعده وقوانينه المكررة. نقد لا ليبرالي، يقوم على إقتصاده الجمالي، لا إقتصاد المسرح الجمالي. للمسرح حقوق يغيبها النقد في احيان. حسن عطية، لم يسيطر على نقده إلا من خلال السيطرة على النقد بمنهج النقد الجاهز. مادة تقوم على قوانين جاهزة، عاشت مع الدكتور عطية مع ذلك، ماتوجب تسجيل الأمر في صالحه كإنجاز. إنجاز من امتلك رقم هويته في سجلات النقد المسرحي، ومكان إقامته في النقد، وعناوين المراسلة الخاصة به( له العديد من الإصدارات : الثابت والمتغير، دراسات في المسرح والتراث، فضاءات مسرحية… ).

حفظ مستندات تجربة الدكتور حسن عطية، توقف أمام الشخص المعني لا أمام شخص آخر. هذه واحدة من مميزاته. لأنه رجل عصامي صنع حضوره بنفسه لا بأيدي الآخرين ولا بإلزام المسؤولين ولا عبر هيكلة التلقائيات. وفَّر الرجل ظروفه، وضع تطبيق أنظمة إمتثال، إلا أنه ربح عمليات تحسين الحضور النقدي، بحيث سيذكر على الدوام كأحد المصادرالثابتة له.

لم يترك الرجل عقاراً فارغاً برحيله. على العكس، ترك مريدين ومحبين وطلاب، لا يزالون يحفزون الآخرين على هدى ما ترك. حسن عطية اليوم بالتخفي، إلا أنه سيبقى قيمة مضافة على ظاهر، على ظواهر الحياة المسرحية في مصر المحروسة وعواصم العالم العربي.

غياب الممثلة ووزيرة الثقافة ثريا جبران

لا يحتضر الإنسان كما تحتضر الكلمات. لأن الكلمات تعود وتقوم بعكس الإنسان. ما عدنا نستطيع أن نرصد الكثير من الأسماء اللامعة كما جرى الرصد منذ آواخر ستينيات القرن الماضي. واحدة من من رصدهم الكشافون والمواطنون العاديون، ثريا جبران، من بدت كشفرات الطواحين وهي تدور مولدة حضورها الآسر أولاً، ثم مختلف الصفات الموجودة في المعاجم. برزخ حي في تجربة المسرح المغربي، إلا أنها بقيت تنتظر صوت القيامة، حتى خرجت من صدفة المسرح المغربي، بعد أن دفعت جزيةالحضور فيه على مدى سنوات طويلة. ذلك أن تجربة المسرح المغربي، تجربة مغلقة، تجربة كتابة نصوص وترجمة، حتى جاء نفر من أصحاب السجالات العميقة مع غوايات المسرح القديمة. الطيب الصديقي على وجه الخصوص، لا الحصر. إسمها السعدية قريطيف، ولدت بالعام 1952 في الدار البيضاء في المغرب، المدينة الصناعية الابرز على خارطة المملكة المغربية. أخذ محمد الشناوي، المخرج المغربي المعروف، بيدها في بداياتها، حين وجد وشك المسرح على يديها وفي قلبها. وإذ رآها واهبة

ثريا جبران

حضورها إلى منصة المسرح المشطورة بالضوء، رفعها من العدم إلى قصيدة الصعود. ثم، فعل المخرج الراحل فريد بن مبارك ما فعله الشناوي وأكثر، بعد أن وجد أن الهواية سوف تواريها في سوأة المسرح، ليستوي بها في الإحتراف وفي مفاهيم الإحتراف البعيدة عن الأقدار المائعة للهواية.

بقيت ثريا جبران، بلونها النحاسي الفاتح حتى اللحظة الأخيرة في ما رآه فيها محمد الشناوي : نبرة خاصة، نبرة بائع حلوى، لا تخسر مع تلقائيتها. الأخيرة عرسها. أخذها بن مبارك، استاذ المسرح، إلى معهد المسرح بالرباط، لتنحاز منذ الدراسة إلى أحوال المهمشين الباحثين عن الرجاء والخلاص وسط تعقيدات الأوضاع اليومية. إلا أن نذرها بقيت تتبخر على المنصات المغربية الأقرب إلى العيش في الظل أو في قدر المسرح المغربي الأجوف حتى السبعينيات من القرن العشرين، حين راحت التجارب المغربية تنزرع في الأرحام العربية، بالمعنى الواسع للكلمة، وتولد فيها. نهت التجربة مع الطيب الصديقي عن الغرق في ماء المسرح المغربي، حين نادى الفتاة النحيلة حتى تشارك في مسرحيتي  »ديوان عبد الرحمن المجذوب« و »الإمتاع والمؤانسة«. بذلك، أخذها من النوم على نافذة المسرح المغربي، إلى الإستيقاظ على جغرافيا المسرح العربي. أخذها الأسطورة المغربية من عرج المسرحية المغربية إلى قمر المسرحية المغربية فوق الأرض العربية. بدأت تتكلم هناك، في الأجواء الإحتفالية، الطقسية، البريشتية (التغريبية ) لتصعد على إيقاع المجذوب الصوفي والمقامات العربية في  »الإمتاع والمؤانسة«. كأن حضورها الناقص، إكتمل بضربة واحدة بدرز الأهلة المشقوقة بين المسرح المغربي والمسارح الأخرى في البلاد العربية الأخرى. أضحت صوتاً، بعد أن وحدها المشاهد العربي كصدى الصوت وهي تتواتر حضوراً على المنصات في المملكة المغربية.

الكلام على بعد المسرح المغربي عن المسرح المغربي، لا علاقة له بالكلام على الفرق بين الماء والجمر. الكلام على سويعات الندى المؤجلة في المسرح المغربي. لأن الأخير لم يلبث أن إمتلك سر المتاهة، بحيث أضحى قامة هبوب في المسرح العربي، مع دزينات من أسماءالممثلين والمخرجين والكتاب المغاربة، أبرزهم عبد الكريم برشيد في طرحه الإحتفالي المتقدم، إلى اسماء أخرى : محمد بن قطاف، عبد الواحد العوزري، فوزي بن سعيدي، محمد البسطاوي،عبد الطيف خمولي، محمد خيي، عبداللطيف اللعبي، وآخرون كثر. جعلتها المسرحيتان ندية في العيون العربي، حين أضحت جزءاً من أغنية، راح الجمهور العربي يردد أبياتها بدون أن يتوه عن حضورها التلقائي البلاإدعاء، حضور مينيمالي لا يقترب من البهرجة ولا الإستعراض على الإطلاق. بدا أنها في المسرحيتين، أنها تقول الكلام وتقول الصمت بحس لم يعد يحيا إلا عند بعض غرباء المسرح.

لم تجئ ثريا جبران من الممر المجهول إلى ممرات مسرح الطيب الصديقي. لم تجئ من آدميتها وحدها، بل من آداء لا يؤدي إلا إلى ممرات النور. ثم، لم تلبث أن التحمت بواقع المشاهد العربي والمسرحي العربي، في مسرحية  »ألف حكاية وحكاية من سوق عكاظ« مع الطيب الصديقي نفسه، حين ندهته نضال الأشقر، حتى يتمطى على أوراق جديدة غير أوراقه السارية روائحها في العروق. صعدت فكرة المسرحية من الجرف إلى صوت الموجة، صوت البحر، مع مجموعة من الممثلين المختارين من مجموعة من البلدان العربية : رفيق علي أحمد من لبنان، عصام عبجي من سوريا، ثريا جبران من المغرب وغيرهم من الممثلين من من لم تتعبهم قوافي المسرح القديمة( نص وليد سيف). إلا أن التجربة هذه لم تلبث أن سقطت في مدار النار وسط الخلافات العربية في تلك المرحلة، مرحلة معقدة لا تستطيع حل عقدها إلا عرافات الغيب. المهم، أن المشاهد العربي راح يقتفي أثر ثريا جبران مذ شاهدها في مسرحيات الطيب الصديقي، في مهرجان دمشق المسرحي أو في مهرجان قرطاج. أو على الخشبات الأخرى، ذات الأشعاعات الواضحة أو الخفية.

بدأ مسار ثريا جبران الكبير مع الطيب الصديقي. إثرها، رسمت المرأة النحيلة، الهادئة، الجذابة، خطوط سير قوافلها الأخرى على أجنحة راحت تغزل رقص الكائن المحدوف من سماء بعيدة إلى أرض المسرح. ساهمت في تأسيس مجموعات مسرحية أبرزها فرقة مسرح اليوم، مع زميلها عبد الواحد العوزري، من أضحى زوجها فيما بعد. معاً قدما مجوعة من الاعمال المميزة على اللوعة لا الهوج : حكايات بلا حدود، سويرتي مولانا، البتول، الجنرال، نركبو الهبال، عباس تيمورلنك، الشمس تحتضر، أربع ساعات في شاتيلا. الأخيرةمونودراما ضمت تراتيل المسارات الفلسطينية في حمى العويل العربية. مونودراما إرتجالية، لم تفزع من سيرة الشهداء وهي تتلو عليهم لوعاتها،مشيرة إلى جزاريهم لا إلى جن أرقط، راحت وسائل الإعلام العدوة تشير إلى مسؤوليته وحده عن المجزرة.

ولأن هذه السيدة تستحق أكبر التحايا، من عملها السياسي في المسرح وعملها السياسي المباشر في حزب الإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية المعارض، وجدت المملكة المغربية أنه حان قطاف من هجم بوله دائم على قضايا الناس، بعيداً من إثارة الغبار البريء أو الغبار الخبيث، حان قطاف هذه السيدة المحاربةكوزيرة للثقافة بالعام 2007، غير أنها لم تلبث أن طلبت أن تعفى من هذه المهمة بعد أن إشتد عليها المرض، بعد سنتين من شغلها منصبها. ما إستغلته في خدمة الفنان والمثقف المغربي، باستصدار قوانين وتشريعات حماية خاصة بالقطاعين الثقافي والفني. منذ أيام، أصبحت ثريا جبران على منعطفات الذكرى، بعد أن إنتهت معركتها الفاتنة مع الموت بالإستسلام للموت. أخذها الموت، بعد أن أخذها المسرح. وجد الأخير فيها جزءاً من عمره، كما وجدت فيه كل عمرها. أكدت الممثلة المسرحية وممثلة التلفزيون والسينما الأمر في كلمة يوم المسرح العربي، من تنظيم الهيئة العربية للمسرح وبتكليف منها، حين جاء في كلمتها : منحت العمر للمسرح. ما قضيته من سنوات على الخشبات، في المسارح المغربية والعربية والأجنبية، أكثر مما قضيته في بيتي وبين أفراد اسرتي الصغيرة. إتخذت المسرح مسكناً وأهل المسرح أهلاً.

تقف ثريا جبران اليوم على منعطفات الذكرى والذكريات، وارفة الحضور في مساحات الغياب والعزلة، كقبة من قبب المزارات، بعد حياة حافلة بسير المحاربة، من عملها في المسرح إلى خطوها الواثق في شوارع السياسة، حيث توزرت وحيث تنمر عليها وزير الإعلام في حكومتها ( خالد الناصري ) حين تعجرف على عملها كممثلة لا تزال دراماتها ومسرحياتها وأفلامها السينمائية تعرض على الشاشات وهي في الوزارة وزيرة حكيمة لم تصلب فمها إلا من أجل الزملاء في مهنة  »الخبز الحافي«. وحيث اختطفتها جماعة مجهولة، يروي البعض أنها من السلطة ويروي البعض الآخر أنها من الأصوليين، حلقوا شعرها وعذبوها، قبل أن يرموها على مزبلة. كرمتها الحادثة، عكس ما أراد منفذوها. لم تتكلم ثريا جبران عنها، لأنها أسلمت ثغرها للقضايا لا الحكايا. إنها اليوم تعتلي شقوق الرؤى في فضاء رحب بعيد من فضاء المتاعب. لن تتوه بعد، لن تصبغها غصة بعد.

العدد109 /تشرين2020