خيار الكاظمي الوحيد انهاء المليشيات المسلحة في العراق

د. ماجد السامرائي

مثلما كان متوقعاً فقد وصلت المليشيات المسلحة المدعومة من طهران عام 2020 الى نقطة تهديد الحكم في العراق إن لم يخضع رأس الحكومة لمشروعها التخريبي في تعويق قيام دولة عراقية ذات سيادة وأمن قادرة على توفير الخدمات للمواطنين العراقيين. فقد قدمت الأحزاب الإسلامية المهيمنة على الحكم جميع التسهيلات السياسية والقانونية لتلك المليشيات لكي تكون حامية لها ولسرقاتها التي تعُد بمليارات الدولارات لتتحول فصائل هذه المليشيات الى قوة عسكرية منافسة لقوة السلطة العسكرية (الجيش والأجهزة الأمنية والاستخبارية) لدرجة امتلاكهم أسلحة ثقيلة من دبابات وصواريخ وحتى دخلوا القوة الجوية حين أعلن رئيس تلك المليشيات أبو مهدي المهندس قبل مقتله بداية هذا العام عن الاستعدادات لتشكيل قوة جوية شبيهة بقوة الحرس الثوري الإيراني.

ساندت واشنطن تلك المليشيات قبل خروجها عام 2011 رغم إن قيادة الاحتلال الأمريكي ساعدت على سن الدستور عام 2005 الذي حرّم وجود السلاح خارج الدولة، لكن المنظمات المليشياوية مثل منظمة (بدر) المدعومة من ايران التفت على القانون فانضمت ببساطة إلى قوات الأمن الاتحادية بأعداد كبيرة في عملية عُرفت باسم  »الدمج«. ونتيجةً لذلك أَنشأت الفرقة الخامسة التابعة للجيش العراقي في ديالى فرعاً كبيراً لفيلق بدر وزرعت الجماعة (البذور الأولية) لعناصر الميليشيات داخل وزارات رئيسية وأجهزة المخابرات في الحكومة الاتحادية.

توسعت أعداد المليشيات تنظيمات وأعداد حيث وصلت عام 2020 الى 150 ميليشيا منها 100 ميليشيا غير رسمية وتأتمر بأوامر ولي الفقيه (خامنئي) في طهران وفق ما ذكر رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي.

وتشير التقارير العراقية الى وجود مكثف لفصائل المليشيات داخل المنطقة الخضراء حيث يتواجد في المنطقة حالياً عناصر من 3 ألوية مسلحة تابعة لفصائل مختلطة، منها بدر والعصائب والخراساني وحزب الله العراقي والنجباء موزعة على شكل مكاتب تابعة لتلك الفصائل ومقرات ونقاط من جهة الجسر المعلق ووزارة التخطيط وساعة بغداد. وهي أكثر المناطق أهمية داخل المنطقة الخضراء. وقد استولت قيادات المليشيات على غالبية المباني والعقارات الحكومية الرسمية للدولة السابقة أو التابعة لأصحابها الأفراد من مسؤولي النظام السابق.

ارتبطت المليشيات في مرحلتها الأولى بالحرب الطائفية ضد العرب السنة، ففي عام 2006 تم استغلال تفجير مرقد الأمامين العسكريين في سامراء المدبّر وفق تصريحات الجنرال الأمريكي بترايوس لشن حملات قتل واختطاف أكثر من 30 ألف مواطن بريء في مدن سامراء وديالى والأنبار والبصرة، وعملية تهجير أهالي مدينة جرف الصخر قرب بابل واحداً من الأمثلة التي لم يحصل مثيلاً لها في العهد النازي، وتمت عمليات التهجير والإبادة تحت عناونين الحرب على الإرهاب والتغيير الديموغرافي، بتعاون وثيق مع قوات الاحتلال الأمريكي في ذلك الوقت.

كان التغلغل المليشياوي مبرمجاً وكانت المرحلة الأخطر في توسعها استغلال الحرب على  »داعش« التي احتلت ثلث مساحة العراق عام 2014 بثلثمائة مقاتل متطرف دخلوا من الأراضي السورية الى مدينة الموصل ومحافظات الأنبار وصلاح الدين وديالى وكركوك. فاستثمرت فتوى السيستاني بإعلان  »الجهاد الكفائي« الذي لم يقل بالحشد الشعبي الذي مرر قانونه عام 2016. وأخذ هذا التغلغل الخطير جانباً سياسياً في دخول قيادات ميليشياوية للبرلمان العراقي.

كان طبيعياً أن يدعم رؤساء الحكومات (إبراهيم الجعفري، نوري المالكي، حيدر العبادي) من زعامات حزب الدعوة ما بين عامي 2005-2019 تلك المليشيات، بل إن نوري المالكي تفاخر في أكثر من مناسبة بأنه  »أبو الحشد الشعبي« ومؤسسه الأول قبل فتوى السيستاني عام 2014. وكان متوقعاً أن تنكسر شوكة تلك المليشيات بعد السقوط المدّوي لحزب الدعوة في انتخابات عام 2018 إلا أن تلك الأحزاب قدمت بديلاً يبدو للواجهة بأنه غير حزبي (عادل عبد المهدي) لكنه من أشد الموالين لطهران وكان المساعد الأول لباقر الحكيم وأخيه عبد العزيز قبل عام 2003 وبعدها، ففي عهده تصاعدت الاحتجاجات والمظاهرات وسط وجنوبي العراق خصوصاً في مدينة البصرة فيحاء العراق التي لاقت كغيرها من محافظات الجنوب العراقي الإفقار والذل وامتهان الكرامات، ولهذا تحوّلت البصرة الى مركز ثورة الشباب ضد الظلم والاحتلال الإيراني فقدمت قوافل من الشهداء الى جانب مدينة الناصرية ومركز العاصمة بغداد. وبدلاً من دعم الحركة الشبابية الاحتجاجية المدنية نفذ عادل عبد المهدي مشروع إبادة ممنهجة للشباب بأدوات حكومية عسكرية الى جانب المليشيات الموالية لطهران إنتقاماً من الشباب الذين طالبوا بطرد الوجود الإيراني. لقد تحولت هذه الاحتجاجات من مطلبية للعمل وحقوق الناس الى دعوات وطنية لرحيل الأحزاب الفاسدة وظهيرها الخارجي.

لقد أصبح عام 2019 زمناً مفصلياً للإنتقال من الاحتجاجات الموسمية الى ثورة متصاعدة سلمية رغم مسلسل حمامات الدم في القتل والاختطافات لعدد كبير من الشباب لا مجال لذكر أسمائهم. ثم انتقلت المليشيات الى مرحلة تحدي الحكومة خصوصاً بعد إسقاط حكومة عادل عبد المهدي بفعل ضغط الثورة ومجيء مصطفى الكاظمي والذي يفترض إنه نتاج للثورة الشبابية. ورغم عدم تحقيقه المطالب الرئيسية بالكشف عن قتلة الثوار وإحالتهم للقضاء، لكنه وفى بوعده في الانتخابات المبكرة، لكن في عهده هذا تصاعد الصراع ما بين قوتي الفوضى وعدم الدولة وما بين قوى النظام والدولة الذي أخذ يقوده الكاظمي في جملة من الإجراءات والقرارات على صعيد إعادة تأهيل المؤسسات المنية والعسكرية وهو العارف بحيثياتها حيث اشتغل رئيساً للمخابرات قبل مجيئه للحكم. وأمامه فرصة حيوية لإنقاذ العراق.

لقد تحوّل العراق عام 2019 وهذا العام الى ساحة للصراع الإيراني الأمريكي وهو خلاف سياسي طارئ وليس صراعاً من أجل البقاء أو الفناء كما يقال. فمنذ مجيء ترامب للبيت الأبيض فتح أبواب سياسة خارجية جديدة تعتمد على تعزيز المصالح الاقتصادية للولايات المتحدة ونبذ الحروب وتقليص أعداد القوات الأمريكية في المنطقة خصوصاً افغانستان وسوريا والعراق تحت شعار  »أمريكا اولاً« والعمل على تحجيم دور إيران في المنطقة ومخاطرها على العراق والخليج. ولهذا خرج من الاتفاق النووي ضمن تلك السياسة التحجيمية للنظام الإيراني، ولأن طهران موجودة ومتغلغة في العراق، فقد عززّ سياسة تقليص دورها في هذا البلد عبر سلسلة قرارات العقوبات الاقتصادية رغم قدرة النظام على التحايل والالتفاف على تلك العقوبات بطرق كثيرة. ثم حركّت أدواتها في العراق  »المليشيات« لإزعاج الأمريكان عبر سلسلة ما سمي بهجمات  »الكاتوشيا« على المصالح والمواقع العسكرية والديبلوماسية الأمريكية كانت نتيجتها عملية قتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني ورفيقه أبو مهدي المهندس في ضربة جوية دقيقة في القرب من مطار بغداد الدولي بداية هذا العام، مما صعد الحملة المليشياوية ضد الوجود الأمريكي في العراق، والإيعاز للنواب الشيعة في البرلمان لاستصدار قرار يوصي بإخراج القوات الأمريكية من العراق رفضه السنة والأكراد.

هذا التطور التصعيدي جعل المشهد وكأنه حافة الحرب على الساحة العراقية. لكنه تصعيد متقن الأدوار ما بين طهران وواشنطن، فكلا العاصمتين يعلمان إنهما يسعيان للجلوس على طاولة المفاوضات هذا ما قاله ترامب في أكثر من مناسبة وردده الزعماء الإيرانيون، لكن الضحية هو شعب العراق المبتلى.

في الأيام الأخيرة هددت واشنطن بإغلاق سفارتها ببغداد إن لم تتخذ حكومة الكاظمي إجراءات واضحة في تحجيم ومنع المليشيات المسلحة في العراق، وتصاعدت الحملات الديبلوماسية على الكاظمي الذي يبدو إنه في أصعب ظروف القرار السيادي القوي والشجاع. المسؤولون الأمريكان وضعوا ملف غلق سفارتهم ببغداد كأحد جوانب الضغط على حكومة بغداد، لأن قرار غلق سفارتهم سيتبعه غلق السفارات الأوروبية وأصدقاء أمريكا وهذه انتكاسة خطيرة للحكم العراقي. قال مساعد وزير الخارجية الأمريكي ديفيد شينكر في احدى تصريحاته  »واشنطن لن تتهاون مع هجمات الميليشيات الموالية لإيران في العراق، وإن بلاده لن تتردد في التحرك لحماية الجنود الأميركيين في العراق وأن الميليشيات المدعومة من إيران بالعراق مشكلة كبرى« مقابل وعود من حكومة بغداد بحماية البعثات الديبلوماسية تتزامن مع مسلسل إطلاق الصواريخ على المنطقة الخضراء والمقصود بها  »السفارة الأمريكية« لدرجة استهداف مدينة أربيل شمالي العراق بذات الأسلحة وبنفس الأسلوب مما يبعث رسالة من إيران ووكلائها بأنهم سيلاحقون المراكز الأمريكية حتى لو انتقلت الى أربيل..

لكن يبدو إن التلويح الأمريكي بغلق السفارة واقترانه بعقوبات استهداف لرؤوس قادة المليشيات على طريقة مثال أبي مهدي المهندس وقاسم سليماني تلوح على الأبواب، قد أرعبهم وأرعب طهران من ورائهم حيث تسارعوا ببيانات الاستنكار والبراءة من تلك الهجمات  »الكاتوشية« إضافة الى إدانة ايران الرسمية عبر المتحدث باسم خارجيتها سعيد طيب خطيب زادة في بيان رسمي.

 لم يعد الوضع العراقي يحتمل المرونة في التعاطي مع المليشيات المسلحة الموالية لإيران ذلك إن أصعب الخيارين قائم الآن ما بين التسليم لتلك المليشيات سياسياً وعسكرياً، وبذلك يتحقق الولاء الكامل لطهران وتختفي معالم الدولة العراقية تدريجياً، أو خيار المجابهة القوية الشجاعة خصوصاً إن رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي قد صرح في مناسبة الذكرى الأولى لثورة (أكتوبر) العراقية إن حكومته هي نتيجة خطة طريق الاحتجاجات، وهذا يفرض عليه التزاماً سياسياً وأخلاقياً لتنفيذ المشروع العاجل لإنهاء دور المليشيات المسلحة الموالية ايران في العراق والا فسينظم وفق شباب الثورة الى قائمة رؤساء الوزارات العراقية المنبوذون من شعب العراق منذ 2003.

العدد 110 / تشرين الثاني 2020