لبنان بين مطرقة الواقع وصخرة الأمل المجهض

الكتابة ورتق الوشم أدبيّا

ليندا نصار

تعدّ الكتابة فعلا قويّا يمنح للذات القدرة على إنتاج الأثر عبر جعل التجربة الإنسانية ذاتية ثم فتحها على العالم، ويصير بذلك الأدب شكلا من أشكال مقاومة البشاعة التي من حولنا، وتحويلها إلى صور تسائل حضورنا الوجودي في أقصى لحظات هشاشته وموته. إن الأدب يعيد اكتشاف مناطق غامضة في علاقتها ليس بذواتنا فحسب، وإنما في قدرة هذه الذات على تمزيق كلّ مسلّماتها عن طريق نقد القوالب الجاهزة وإبداع ما هو جديد. وهذا ما يجعل الحالة شكّا وقلقا ومحاولة اختراق كما تحدّث عنها بورخس في كتابه  »صنعة الشعر«؛ وكأنّ الأديب هو حفار القبور، وباعث مآسي العالم، ومنقذنا من التلاشي داخل هذا الفضاء المضطرب، ليستنبط ما يخدم نصّه مستعينا بالتخييل وبرؤى جميلة

الشاعر عباس بيضون

خاصة في تعدديتها التي تشكّل بصمة تميّزه عن غيره. وهكذا إذا التفتنا إلى تمثلات موريس بلانشو في كتابه  »أدب الفاجعة« نلمس أنّه يعبّر عن انفتاح الأدب وأنّ غاية الكتابة ليست فقط لنفسها بل هي داخل هذا الفضاء الرحب المبني على التشابكات بين العالمين الداخلي والخارجي وارتباكاتهما. إن هذا النوع من الكتابة اختلف عن الأنواع الأخرى لكونه يترجم صرخة مدوية نابعة من مجاهل الألم، ويعيد ترميم الصوت المبحوح الآتي والصاعد من الأنقاض.. إنها صرخة من وسط الدمار ومن داخل الحدث بأسلوب جميل ولغة شفافة تهمس علنا لكي تحاصر الشظايا.. كل ذلك يؤسس لهذا النوع من الأدب الذي سيبقى قادرا على  »كتابة الفاجعة« ولو بعد حين.

ماذا وقع كي يتحول الزجاج المخطط بخطوط الحياة إلى سكاكين تجرح المعنى في الماء الذي صار دما حارقا تشتعل شظاياه في كل الاتجاهات، تلك كانت حالة بيروت وهي ترتعد من شدة الخطر المحدق بها أمام هذا العالم وكأننا صرنا  »فرجة« لمن ليس له الحق في أن يعيش لحظة هنيّة كما كنا نراها في شاشات هوليوود، وتحولت بقدرة قادر على مشهديّة بقدر ما أفجعتنا حوّلتنا إلى رماد مشتعل بالخيبات وصرنا نحضّر أنفسنا إلى فاجعة أخرى بعدما صارت الحياة هنا أرضا بكرا لكل أشكال الموت… هذا الانفجار الذي حوّل زهاء المدينة إلى نكبة حقيقة أثار ضجّة خصوصا وأنّ لبنان يمرّ بأزمة غير مسبوقة في تاريخه المكتوب باليأس المشمس دائما وأبدا… الضحايا، المصابون، الأمكنة التي تغيرت ملامحها، المفقودون كلّ الواجهات التي غيّرت وجه بيروت لم تغيّر قلبها.

لا يسير الأدب وحيدا بل يقترن بالإنسان وظروفه المكانية والزّمانيّة؛ فالكتابة عمليّة تأثير وتأثّر ولطالما ارتبطت ارتباطا وثيقا بمجريات الأحداث؛ ذلك أن الكاتب يستمدّ الأفكار من المشاهد وفق تصوّره الخاص فيساعد الإنسان على تخطّي الأزمات. ولعل الحديث عن أدب الفاجعة ليس بجديد ما دام الإنسان يرافقها منذ عصور وتجعله يستمد القوّة في التعاطي معها وتخطّيها. إن الفواجع قوّة تخطي الخوف مضافة للإنسان وهي تنقذه بعد السقوط الأوّل وتجعله حذرا من أيّة كارثة جديدة قد تحدث معه.

ها نحن نشهد زمن الصدمات في الكتابة وخارجها لا أحد يستطيع ابتلاع الحدث داخل ذاكرته، أو أن يسعى إلى توثيقها بعدسة اللغة الكاشفة والمكشوفة، فهل ما نتحدث عنه هو جنون التوثيق أو شهادة على ما لم يقع بعد في تاريخ الفاجعة أو هو الزمن النفسي العاجز عن فهم طبيعة الصورة؟

 »ثمّة أمر عظيم سيحدث« عبارة كرّرها اللبنانيون قبل انفجار المرفأ من دون أن يدركوا أنّ الكارثة ستكون بهذا الحجم. وليس غريبا على الأدباء وخصوصا اللبنانيين منهم أن نقرأ عندهم أدب الفاجعة فهؤلاء الذين عاشوا الأزمات عبر التاريخ مرورا بالحكم العثماني والانتداب الفرنسي وصولا إلى الحرب الأهلية وكل أشكال الاستعمار التي لم يلتقط بعدها اللبناني أنفاسه، جعلت من الأدب صورة لما يحدث وعندما ازدادت أسئلة الكتابة جاء الأدب في محاولة للإجابة عنها جزئيّا. من هنا كان السؤال إلى أي حد يمكن للأدب أن يكون متنفّسا للإنسان في أوقات الفاجعة؟ وهل يعدّ الأدب منبرا يعبّر فيه الشاعر عن ألمه؟ وإلى أيّ مدى يمكن للأديب الكتابة من داخل الحدث وتوثيق الأحداث إبداعيّا؟ وماذا عن الروايات التي كتبت في مرحلة الحرب اللبنانية؟ كيف تجلّت المدينة الخراب في كتابات الأدباء؟

من هنا حاولنا ترصّد بعض ما كتبه الكتاب والشعراء بين الماضي والحاضر  بما فيها حادثة مرفأ بيروت وذلك  من خلال الاطلاع على بعض ما نشر في المجلات أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

في رواية  »دنيا« للروائيّة اللبنانية علوية صبح نلاحظ أزمة المرأة وطريقة تعاملها مع الفاجعة بوصفها حالة محفّزة للكتابة فمزجت بين المرأة مسلوبة الحقوق في الحرب اللبنانية وبحثت في موضوع الإنسان وعلاقته بالعالم ومدى وعيه من خلال تبنّي فكرة الحرب وعرض ما خلفته من آثار. وكأنّ الكاتبة توثّق حالة المرأة في هذه المرحلة، وقد

الروائيّة علوية صبح

استطاعت من خلال رواية  »دنيا« توصيفها بهشاشتها وكلّ حالاتها النفسية والجسدية ومعاناتها وصراعها المزدوج بين قمعها من قبل السلطة الذكورية وظروف الحياة المكبّلة للإنسان الضعيف. فعبّرت عن هذه الحالات في السرد بما يحمله من أبعاد وانزياحات جعلت من المرأة تقول نفسها بل تقول ذاكرتها وطموحها المبتور وخوفها من المستقبل.

ولا يختلف الأمر بالنسبة للشاعر عباس بيضون الذي شهد الأزمات اللبنانية مرورا بالحرب الأهلية اللبنانية فديوانه المعنون  »بطاقة لشخصين« يعنى في مواجهة الإنسان لذاته وعلاقته بالآخر وحالة الحزن التي يعيشها فيصف الأشكال المتعددة للموت الذي يؤسس لفاجعة حقيقية. إنه الموت الذي يتجلى على شكل رؤى تعبر عن هذا الكمّ من الألم ويتغلغل في ثنايا الذات المتشظية بسبب الحنين إلى الماضي، إنه تأثير الموت على الإنسان. فبين الغياب والحضور قصائد رثاء من نوع آخر فيها استرجاع الماضي واستعادة العلاقة التي انقضت  بين الصديقين بسبب الموت. فما معنى أن تكون في حياة لا حياة فيها؟

إذا هذا الخراب الذي حلّ بالعاصمة بيروت يمكن أن يولّد أدبا لبنانيّا أو حتى عربيّا من نوع آخر مستمدّ من قوة الأحداث التي تعصف بالكتابة فحالة الضياع هذه تجعل الكاتب يطرح تساؤلات محاولا فهم ما يحدث. والكتابة هنا هي إعادة صياغة واستعادة للأحداث واستيلادها بأسلوب إبداعيّ.

تحيلنا حادثة انفجار المرفأ إلى قصيدة الشاعر الأميركي إليوت عن الأرض الخراب وما حدث من دمار بعد انتهاء

الشاعرة والإعلامية بروين حبيب

الحرب العالميّة وتجسّد على شكل رؤى بما فيها من توصيف لحالات الخوف والحزن وفقدان الأمل وكأنّها صورة عن المدن وسكّانها ما بعد النكبة كما هو الحال في العاصمة اللبنانية بيروت.

 يصوّر شوقي بزيع هذا الحدث وكأنه الجحيم نفسه مستشهدا بقصيدة للشاعر اليوناني أغاتيوس في رثائه مدينة بيروت حين تحدّث عن الزلزال الذي أزال معالم جمالها الرائع وتسبب في وداع الملاحين والقوافل التي كانت تأتي من وراء البحار وكأنّ التاريخ يعيد نفسه. في مكان آخر وعن ردّة فعله الأولى يقول شوقي أنّه في تلك اللحظة تملّكه هاجس الأب الذي يريد أن يحمي بناته، ويختم بأمل الخلاص وهو أنه لا بد للمدينة أن يعاد بناؤها.

الشاعرة والإعلامية بروين حبيب كتبت في  »القدس العربي« بأنّ علاقتها ببيروت علاقة توازٍ بين الزمان والمكان، إنها تحتفظ بذاكرة الطفلة التي رسمت صورة بيروت الجمال، وبيروت الحرب الأهلية، كذلك بيروت بالنسبة إليها تمثّل فيروز وصوتها ثمّ تصف الشاعرة تأثير الحادثة وصدمة الانفجار  فتقول  »بيروت حملت أوجاع العواصم

الشاعر شوقي بزيع

العربية المنكوبة كلها لملمت شتات المثقفين والهاربين من الموت«… وتنتقل في الحديث عن حرية المثقف ووعيه في هذه المدينة التي احترقت بجراحها وهي تحمل مأساتها.

يبقى من الحقّ أن نقول، إننا نكتب فقط لا لنحيا مجددا، بل لنرتق الوشم على جسدنا المرقّط بالزجاج المطحون في أعيننا كي لا نرى مجددا الفاجعة…

العدد 110 / تشرين الثاني 2020