التحرُش الجنسيّ بالنساء، ناجيات ولسن ضحايا

نسرين الرجب- لبنان

لقد اعتاد المجتمع على نمطيّة التفكير فيما يخصّ موضوع التحرش بالنساء؛  كالتعميم ( المرأة هي التي تفتح المجال)، وإطلاق الأحكام ( أبصر شو كانت لابسة)، والتبسيط (يصحلِك يطّلع فيك)، والتخويف (استري حالك)، والتكذيب حين تتمنّع المرأة وتعبّر عن رفضها (يتمنعنّ وهنّ الراغبات)، لذا ولمرحلة غير بعيدة  كان من الصعب أن تتحدث النساء عن تعرضهن لهذه المواقف المؤلمة وغير السعيدة.

إلّا أنّ تحوّلاً ملحوظًا حدث وعلى مراحل مُتتاليَة وطويلة من النضال والجهود ومنها ما ظهر في الآونة الأخيرة على مواقع التواصل الاجتماعيّ تحت هشتاق “أنا كمان” حيث تم فيها فضح أحد المؤثرين الناشطين والذي اتضح أنه متحرِّش، وتضمن هاشتاق “إفضح متحرّش” قصصًا لنساء تحدثن عن تعرضهن للتحرُش انطلاقًا من واقع فضح المُعتدي وإنصاف الناجيات وكشف المستور، لقيت هذه المنشورات تضامنًا من قبل البعض واختلط الأمر على البعض الآخر، حتى وصل الأمر إلى نشر البعض لمحادثات تعارُفية لا تتضمن أي إيحاء جنسي ووصفها تحرُشًا، وعلى المقلب الآخر استهان آخرون بتصريحات الناجيات من التحرُش ووصمهن بالكذب والتضليل.

        يعرض هذا الموضوع لقضيّة التحرُش بالنساء من وجهة نظر نسويّة -على اعتبار أن النساء هن الفئة الأكثر استهدافًا-، ودور القوانين والجمعيات الداعمة للنساء في الحماية وفي الحدّ من هذه الظاهرة، لذا كان للحصاد هذا الحوار مع مسؤولات في منظمة “أبعاد”: الأستاذة دانيال الحويك محامية وعضوة مؤسِسة، الأستاذة زهراء الديراني مسؤولة الإعلام في وحدة الإعلام والمناصرة والتواصل، والسيدة ليلى حمدان مشرفة إدارة الحالات المتعلّقة بالعنف القائم على النوع الاجتماعي.

        ما هو التحرُش؟

        تُشير المسؤولة عن الإعلام في وحدة الإعلام والتواصل والحملات في منظمة أبعاد، الأستاذة “زهراء الديراني” إلى أنّ “هناك تعريفًا موحدًا ومحدّدًا للتحرش فهو صيغة لمجموعةٍ من الأفعال والكلمات ذات الطابع الجنسيّ التي تنتهك جسد أو خصوصيّة أو مشاعر شخص ما، ذكرًا كان أم أنثى، وإشعاره بعدم الارتياح، التهديد، عدم الأمان، الخوف، قلّة الاحترام، الترويع، الإهانة، الإساءة، الترهيب، الانتهاك، والتعامل معه على أنّه مجرد جسد”.

وتُوضح أنّ التحرش هو: ” أي سلوك مسيء متكرّر خارج عن المألوف، غير مرغوب فيه من الضحيّة، ذو مدلول جنسيّ يشكل انتهاكًا للجسد وللخصوصيّة أو للمشاعر يقع على الضحية في أي مكان وُجدت فيه، سواء تضمنّ أقوالًا، أفعالاً، إشارات، إيحاءات، أو تلميحات جنسيّة أو إباحية وبأي وسيلة كانت، بما في ذلك الوسائل الإلكترونية. “

وعن التحرُش من وجهة نظر نسويّة، تُضيف: ” إنه ذلك الفعل المركّب الذي يقوم به فرد ذو سلطة معنويّة أعلى على فرد ذو سلطة معنويّة أدنى، وعادة ما يكون الرجل هو ذلك الفرد ذو السلطة العليا لأنّ النساء -بشكل عام- لم تعتد أن تلمِّح أو تكون الشخص الذي يبادر في العلاقات الجنسيّة على وجه التحديد، كوننا نعيش في نظام أبوي يدعم كل خيارات الرجل وتصرفاته خصوصًا فيما يتعلق برغبته بالنساء/الفتيات.”

في السياق نفسه تذكر أن الوعي حول هذا الموضوع عند النساء/ الفتايات هو وعي نسبيّ ” إذ أنه في الماضي كان فعلاً عاديًا ومفروضًا وفي بعض الأحيان مرغوبًا به، إلى حين بدأت حملات التوعيّة والمناصرة حول أهمية الحماية من هذه الممارسة العنيفة والمُسيئة، ومن ثمّ إقرار قانون يحمي من التحرش الجنسيّ ويؤهّل ضحاياه”.

        الحماية من التحرُش

         صادق لبنان على قانون تجريم التحرُش رقم 205 تاريخ 30/12/2020، وهو قانون يرمي إلى تجريم التحرُش الجنسي وتأهيل ضحاياه، واعتبرت منظمة هيومين رايتس أن هذا القانون لا يستوفي المعايير الدولية، لا سيما لجهة عدم مصادقته على اتفاقيّة منظّمة العمل الدوليّة بشأن القضاء على العنف والتحرُش. أمّا الجمعيات النسويّة وعلى رأسها منطمة أبعاد، فصرّحت على لسان المحامية “دانيال الحويك”: “برأينا أنّ هذا القانون بصيغته الحالية لا بأس به والأهم تطبيقه وبدل مقارنته بقوانين أخرى نفضل التركيز على الشقّ الإيجابي، وحثّ الضحايا على اللجوء الى القضاء لوقف التحرش ومعاقبة المتحرشين، خاصة وأن هذا القانون يطال مروحة كبيرة من أشكال التحرُّش ونحن كلنا ثقة بأنّه سيكون هناك العديد من الاجتهادات الرائدة والتي من شأنها المساهمة في تسهيل وتسريع التعديل لاحقًا سواء كانت عبر المطالبة بذلك من قبل الجمعيات أو الجهات المختصة”.

                التحرش سلوك جُرميّ

        لقد تم الترويج للتحرش من خلال الأفلام والمسلسلات وحتى الإعلانات العربية القديمة والحديثة في بعضها كسلوكٍ طبيعي، من خلال مشهديّات يتم التركيز فيها على مفاتن الجسد الأنثوي وإظهار انفعالات الرجل التعبيرية والكلاميّة بأسلوب سوقيّ متهاون، وهو أمر لطالما عكس الكثير من معتقدات المجتمع الخاطئة والتي صنفتها الأستاذة “زهراء الديراني” كنوع من الخرافات التي يُبرّر فيها المجتمع التحرُّش، فيتم التحدّث عن المتحرّشين وكما يُقال في التعبير المحكيّ “كأنهم مش شايفين شي” ويوصفون بأنهم مكبوتون ويعيشون الحرمان الجنسيّ، وبهذا يتم تجاهل فئة كبيرة منهم والذين يكونون أصحاب مناصب اجتماعيّة وإداريّة وأكاديميّة مهمّة ليسوا محجوبين عن رؤية ومخالطة النساء، وهؤلاء لمكاناتهم يتم تغافل الحديث عنهم إمّا لخوف الضحية من تكذيب المجتمع لها، وإمّا لضعف موقف الضحيّة وشعورها بأنّه قد تم استغفالها على قاعدة أنّ “القانون لا يحمي المغفلين”، أو لعدم فهم الضحية واقعًا بأن ما يحدث لها هو تحرش وليس سلوكًا منفتحًا.

          ساهم ذلك في تثبيت سلوكيات التحرش كأمر طبيعي في المجتمع، فلم يكن مفهومًا لدى الكثيرين كجُرم يستحق العقاب، وبعد جهود امتدت لسنوات من التوعيّة والحملات الإعلاميّة الهادفة قامت بها الجمعيات النسائيّة والناشطة على أرض الواقع،  تنبّه المُجتمع إلى أنّ التحرُش جُرم، وانتبهت النساء أن بإمكانهن الرفض وبإمكانهن فضح من تُسوّل له نفسه أذيتهنّ، فأصبح الصوت الخافت أكثر وضوحًا.

وتلفت مسؤولة الإعلام في منظمة أبعاد إلى : ” أنّ من يُحدّد التحرش هم الأشخاص أنفسهم الذين يتعرضون للمشاعر غير الآمنة أو بالأحرى من يشعرون بالتحرّش نفسه، ومن حق أي شخص أن يشعر ويعبّر عن إحساسه بعدم الأمان إن كان في المنزل أو في العمل أو في الشارع”.

وتُضيف: “على القبول أن يكون واضحًا وصريحًا، بمعنى أنه أذا أراد أحدهم التودّد أو التقرب من الآخر يمكن لذلك أن يحصل من دون العبث بالمساحات الخاصة للأشخاص واختيار الصراحة والشفافيّة مقابل الإيحاءات.”

        ندعم ونصدق الناجيات

        على الرغم من أنّ تعريفات التحرّش واضحة، والدلائل عليه كثيرة ومُحدّدة، إلّا أنّ هناك نوع من الخلط حوله، شأنه ككلّ الموضوعات التي تُطرح لإنصاف فئة مُعرضة للخطر، تبدّى ذلك مع ارتفاع الشكاوى والتبليغات عن جرائم الابتزاز الإلكتروني ذات الطابع الجنسي، إلى قوى الأمن الداخلي وخاصة أثناء مرحلة الحجر الصحيّ.

        وعن تحديد ضوابط الفضاء الإلكتروني وعالمه وقوانينه في ظلّ سهولة الوصول اليها من قبل الجميع تُشير الأستاذة زهراء  إلى أنّ ” الفضاء الإلكتروني اليوم هو فضاء شبه عام تحدّد قوانينه كل دولة بحسب أنظمتها وقوانينها. إلا أنّه إذا أردنا ربط مواقع التواصل الاجتماعيّ وما تُحدثه من تأثير وثورة على صعيد فضح المتحرشين فإنّ من يحدد هذه الضوابط هم الأفراد أنفسهم والمبادرات التي تخرج عن المجموعات المنظّمة أو غير المنظمة. على سبيل المثال هناك صفحة على موقع Instagram  تفضح كل متحرّش يقوم بالتعرض للفتيات والسيدات وغيرهن من الفئات المهمشة وهذه الصفحة التي تدعى pervsoflebanon تشكل ضوابطها الخاصة وفقّا لمعايير محددة وضعها القيِّمين على الصفحة نفسها، ومنهم أحد المؤثرين ، أما على صعيد منظمتنا، نحن ندعم ونصدق الناجيات.”

        لسْنَ ضحايا..

        تلفت الأستاذة “زهراء الديراني” إلى أنّه: ” المرأة لا تكون دومًا ضحية بل نحن نطلق عليها إسم ناجية وصاحبة حق”، وتستدرك إلى أنّه “إذا أردنا أن نتحدث بشكل عام فالمرأة تعد ضحيّة للأنظمة الذكورية والأبوية التي تفرض عليها أن تكون فردًا معدوم الفعاليّة والإنتاجيّة في بعض الأحيان وفي أحيان أخرى سلعة جنسيّة معرّضة لشتّى أنواع العنف، أمّا بشكل خاص فإنّ المرأة التي تتعرض للعنف أو الإساءة أو التحرّش من دون أن تحصل على حقّها في محاسبة الجاني قد تعد ضحيّة في هذه الحالة”.

وبحسب المنظمة ” يكمن دور المرأة في الحدّ من ظاهرة التحرش عبر التبليغ عن الحوادث المسيئة التي تتعرض لها، وهذا التبليغ يمكن أن يبدأ من خلال التحدُث إلى صديق، وصولًا إلى تبليغ الجهات الأمنية سواء عبر خدمات التبليغ الهاتفيّة أو الإلكترونيّة، بالإضافة إلى التبليغ للجمعيات الداعمة كمنظمة أبعاد التي تملك خطًّا ساخناً وآمنا للسيّدات والفتيات”.

وتوضّح:  ” على النساء أن يعينَ أنهن لسن ضحايا، هن صاحبات حقوق وعلى الفضاء العام والخاص حمايتهن وتأمين المساحات الآمنة لهن ليس لأنهنّ فئات ضعيفة بل لأنهنّ أفراد ذوات حقوق وواجبات لا تقل أهميتهن عن غيرهن من الفئات المجتمعيّة”.

        الأمن والتوعية

        تقوم الجمعيات والمنظّمات النسويّة العاملة على المطالبة بتحقيق المساواة بين النساء والرجال، في مجال التحرّش والعنف، على تقديم الحماية والوقاية والتوعيّة وذلك عبر قنوات مختلفة وأساليب ومقاربات متنوّعة.

        وفي ذلك توضّح الأستاذة “ليلى حمدان” مشرفة إدارة الحالات المتعلّقة بالعنف القائم على النوع الاجتماعيّ:  “نحن في منظمة أبعاد نعتمد على مقاربة تتمحور حول خيارات الناجيات survivor center approach  ، ولذلك عند الاتصال بنا أو اللجوء إلى خدماتنا  تكون أولوياتنا هي سلامة السيدة/ الفتاة  والتأكد من أنها بخير ولن تتعرض لخطرٍ قريب، من ثم نقوم بتقييم حالتها، وعلى أساس هذا التقييم نتّخذ التدابير المباشرة ونرسم خطّة عمل بالاستعانة بأشخاص متخصصين وهم:  مديري/ات الحالات، المرشدين/ات الاجتماعيين/ات، الأخصائيين/ات النفسيين/ات.  فيما يتعلق بإدارة الحالة نقوم خلالها بوضع خيارات متنوعة من الخدمات أمام السيدة أو الفتاة وهي تشمل خدمات دعم نفسي اجتماعي ودور آمنة واستشارات اجتماعيّة ونفسيّة مجانية، وتأمين مساحات آمنة وخط آمن للشكاوى، بالإضافة الى التنسيق المباشر مع الجهات الأمنيّة والرسميّة للعمل على مساندة النساء”.

        وتتحدث الأستاذة زهراء عن الدور الإعلامي للمنظمة،  من خلال القيام  بنشر حملات التوعية حول التحرّش بالإضافة الى حملات الضغط والمناصرة من أجل تغيير السياسات. وغيرها الكثير من المشاريع المتعلّقة بالتوعية حول التحرّش الجنسي بالشراكة مع جهات مختلفة. وفي هذا المضمار أطلقت منظمة أبعاد عدّة حملات توعويّة  نذكر منها: “مين الفلتان” في العام 2018 والتي هي استكمال لجهود المنظمة في التصدي لجريمة الاغتصاب والتي بدأتها منذ العام 2016، مع حملة “الأبيض ما بيغطي الاغتصاب، ألغوا المادة 522 من قانون العقوبات اللبناني”، والتي انطلقت من تجربة اجتماعية هدفت إلى الضغط باتجاه تشديد العقوبات وتسريع المحاكمات  بحق المعتدين في حالات العنف الجنسي والاغتصاب، وتغيير النظرة المجتمعية التي توصم المرأة المغتصبة بالعار وتدفعها إلى التستر على الجريمة.

 ولعلّ  أكثر الحملات إثارة للجدل كانت حملة ” أنا مش بقلاوة” في العام 2020، حيث ارتكزت على فيديو غنائي، قامت بالأداء فيه الفنانة “ريمي عقل” بالتعاون مع مؤسسة “أبعاد”، أرادت من خلاله توصيل فكرة عن المجتمع الأبوي حيث طالبت بضرورة إعطاء الأمان للفتيات اللواتي لا يشعرن بالأمان مع رجالهن، من أشقاء أو آباء وأزواج.

        أثار الفيديو مجموعة من ردود الفعل الأوليّة بين مؤيد ومعارض، واعتبر البعض أن الفيديو يُسطح قضية المرأة بشكل عام، ويتعامل مع الموضوع بحساسيّة عالية، فالرجال اعتادوا أن يقولون بقلاوة وقشطة للنساء كنوع من التغزّل.

 وعن هذه الحملة تشرح الأستاذة زهراء : “في كل حملات المناصرة يكون هناك مؤيّد ومعارض ومحايد وفي كل عمل أكان فنيًا أو حقوقيًا هناك وجهات نظر مختلفة. ونحن في هذا المضمار  نحترم ونقدّر كل الآراء والنقد البنّاء الذي يسعى الى تطوير مقارباتنا وحملاتنا والفيديوهات التي تنتج عن منظمتنا أمّا النقد الهدّام فهو ليس إلا خطاب كراهية اعتدنا على سماعه خصوصًا عند عرضنا لمواضيع حساسة”.

وتذكر الأستاذة زهراء: ” أن العمل المصوّر حصد جائزة الأسد الذهبية وأكثر من 5 ملايين و700 ألف مشاهد وتربّع مصطلح “البقلاوة” الترند مطلقًا صفّارة الآراء محورها المرأة في العالم العربي، كما أنّه بعد أن مضى 15 يومًا من  إطلاق الفيديو تمّ الإعلان عن قانون يرمي الى تجريم التحرّش الجنسي وتأهيل ضحاياه في لبنان في 30 كانون الأول 2020، ما يجعلنا فخورين/ات بهذا الإنجاز”.

أمّا عن أحدث الحملات، فتُضيف: ” قمنا حديثًا بنشر حملة حول التحرش الجنسي داخل أمكنة العمل مع الجامعة الأمريكيّة في بيروت وهيئة الأمم المتحدة للمرأة في لبنان في يوم المرأة العالمي الذي يوافق الثامن من آذار من كل سنة، وحملت الحملة توجه واسم “بعدها مش بسيطة” وفيها تم نشر معلومات حول القانون 205.”

        في الختام: يرتبط موضوع  التحرُش بالفساد، فساد النظرة وفساد الحكم على الآخر، لا يمكن لأيّ أحدٍ أن ينكر أننا نعيش في مجتمع غير واضحة فيه بعض المفاهيم، وفيه الكثير من الخلط في المضامين، مع غياب ثقافة احترام الآخر، فالمتحرّش هو شخص يدرك ما يفعله ولكنه يستهين بفِعلَتِه، ومن هنا يأتي دور المجتمع والقيّمين عليه من أفراد وجمعيات وقوانين في تنميّة الوعي الاجتماعي وتحديث المفاهيم لتتماشى مع كرامة وإنسانية الإنسان.

العدد 120 / ايلول 2021