انتخابات العراق المقبلة تكرار للفشل والفساد

د. ماجد السامرائي

لم يكن المقصود من مطلب شباب ثورة تشرين ( أكتوبر ) 2019 بالانتخابات المبكرة في العراق الى جانب مطالب أخرى أقصت على وقعها رئيس الوزراء عادل عبد المهدي من منصبه ومجيئ مصطفى الكاظمي 2020 , تقديماً بالمفكرة الانتخابية من أبريل 2022 الموعد التقليدي الى أكتوبر 2021 , بل كان مطلب الانتخابات المبكرة جزءاً من سلة مطالب سياسية مرتبطة الواحدة بالأخرى من بينها سن قانون انتخابي جديد وحل البرلمان والاعداد لتعديلات دستورية جوهرية تهيئ للانتقال السلمي لنظام سياسي جديد يستند على المعايير الوطنية الرافضة للطائفية والعرقية والمناطقية , وتحقيق بيئة انتخابية آمنة بعيدة عن هيمنة السلاح المنفلت .

التقطت أحزاب الإسلام السياسي التي شاخت وتخمت من الفساد مطالب ثورة الشباب هذه  وتعاطت معها بدهاء من الدولة الجارة المهيمنة على الوضع السياسي القائم والتي تتحسس أكثر من تلك الأحزاب من مخاطر تحوّل المطالب الشعبية الى برنامج سياسي وطني يزيح تلك الأحزاب وميليشياتها عن طريق المسؤولية وبالتالي يضعف تلك الهيمنة الخارجية ويعيد للعراق سيادته الوطنية الحرة .

كانت اللعبة الجاهزة للحفاظ على استمرارية الأحزاب القائمة في السلطة هي استيعاب الصدمة وتحويلها الى مشروع مُتقَن الأطراف والمعايير المُخادِعة في قبول مفردة ” الانتخابات المبكرة ” بعد افراغها من محتواها الثوري الشعبي الى جانب الحملة المسعورة ضد شباب ثورة أكتوبر بقتل ناشطيهم وتغييب البعض الأخر وتشويه صورتهم البيضاء النقية باتهامهم ” بالجوكرية وعملاء السفارات وأبناء الرفيقات ” إشارة الى الانتماء لحزب البعث المحظور من قبل الحكومة , وهي اتهامات ينفيها الواقع . الى جانب الحملة الإعلامية التعبوية لأنصار تلك الأحزاب والمليشيات في التخويف بأن هناك مؤامرة أمريكية الصناعة لإسقاط حكم الشيعة في العراق في تجاهل للحقيقة التاريخية بأن الأمريكان هم من سلموا السلطة للسياسيين الشيعة عام 2003 .

الآمال الشعبية عُقدت على مجيء رئيس الوزراء الجديد مصطفى الكاظمي بكونه من خارج الأحزاب الطائفية الشيعية , مع إنه منتمٍ فكرياً وليس تنظيمياً للخط الآديولوجي , فمسيرته التاريخية أشارت الى انتمائه السابق لحزب الدعوة الموالي لإيران . مع ذلك استقلاليته التنظيمية الحالية وخطابه الموضعي المستجيب لمطالب ثورة أكتوبر 2019 قد خلقت تعاطفاً ظرفياً معه اعتقد ناشطو الثورة بالإمكان التأسيس على بعض خطواته لإنجاز مشروع التغيير لإزاحة أحزاب الفساد وتخليص البلد من هيمنة ميليشيا القتل والطائفية.

للأسف توالت صدمات الخيبة من ضعف إرادة رئيس الوزراء الجديد السياسية المستقلة في أمثلة ميدانية كثيرة , فقد توالت عمليات قتل الناشطين دون تمكن الكاظمي من اتخاذ الإجراءات القانونية بمسك الجناة ومحاسبتهم عبر العدالة , وقدرته على إضفاء هيبة سلطة الحكومة في مناخ غيبة الدولة منذ سقوطها عام 2003 . أمثلة ذلك كثيرة من بينها عدم كشف وإلقاء القبض على المسؤولين عن جرائم قتل أكثر من 800 شاب وشابة وقرابة 30 ألف جريح ومعوّق , أبرزها سياسياً جريمة اغتيال الباحث هشام الهاشمي الذي دفع حياته ثمناً لصراحته في قول حقيقة سجل الفصائل المليشياوية في العراق وارتباطاتها الخارجية .

تم التراجع عن مواصلة التحقيق مع المتهم بأنه وراء اغتيال المغدور الهاشمي المدعو ( قاسم مصلح ) قائد الحشد الشعبي في الأنبار وإطلاق سراحه ” لعدم كفاية الأدلة ” بعد احتشاد مجموعة من المسلحين التابعين لإحدى الفصائل المليشياوية في ساحة مقر رئيس الوزراء ودوس صوره بأقدامهم في إهانة كبيرة لرمزيته كرئيس لحكومة العراق وبعد الضغوط الشعبية أُعلنت حكومة الكاظمي أخيراً عن اسم ضابط شرطة متورط بتلك الجريمة وهو منتمٍ لإحدى الفصائل الطائفية .

مفردات مشروع بقاء الأحزاب وتطويق المشروع الوطني الشبابي استهدفت تغيير مفوضية الانتخابات سيئة الصيت وادعاء ابتعاد التشكيل الجديد عن المحاصصة في حين إن الواقع عكس ذلك حيث جاءت بثوب جديد من المحاصصة . وإجراء تغيير شكلي لقانون الانتخابات من الدائرة الواحدة الى الدوائر المتعددة والانتخاب الفردي وليس للقائمة الانتخابية , وهي حالة لا تغيّر ولا تزيح الأحزاب القائمة بل تكرّسها بصيغ جديدة.

الهدف المركزي هو بقاء واستمرارية تلك الأحزاب في الحكم تحت شعارات مكررة منذ عام 2005 ولحد اليوم مثل القانون والعدالة والديمقراطية والبناء والاعمار والنازحين والشهداء والرخاء والخدمات والكهرباء والصحة , مضاف إليها شكلاً وتمويهاً بعض شعارات ثورة أكتوبر ( تشرين ) في الكشف عن قتلة المتظاهرين وإشاعة العدالة , تنتهي فعاليتها بعد إعلان نتائج الانتخابات وتوزيع الكعكة واختتام الصراع المرحلي المتكرر في كل دورة انتخابية حولها .

كان الحدث السياسي اللافت في مهرجان التحضير للانتخابات قرار الزعيم الشيعي مقتدى الصدر في مقاطعة الانتخابات منتصف يوليو الماضي , ذلك الإعلان الذي أحدث ردود فعل متباينة داخل الأوساط السياسية الشيعية في إشارة مخيفة الى احتمالات تصدّع البيت السياسي الشيعي واحتمالات أن يضيف هذا القرار مكسباً جديداً للثوار الذين أعلن معظمهم مقاطعة الانتخابات في مشروع ثوري جديد , فيما فسرت بعض الكتل والمحللين السياسيين الى أن قرار الصدر بالمقاطعة نابع من مخاوفه تراجع حجم الأصوات التي سيحصل عليها تياره في الانتخابات المقبلة بعد فضائح الفشل في وزارات الصحة والكهرباء التي قادها وزراء محسوبين على التيار الصدري , لكن ظهرت تأكيدات لسيناريو تراجعه في صفقة مع الأحزاب الشيعية , وهذا ما حصل أواخر شهر أغسطس الماضي تحت مبررات أعلنها الصدر تضمنتها وثيقة سميت بالوثيقة الوطنية وقعها قادة تلك الأحزاب إضافة الى القيادة الكردية, لكن هناك تسريبات اشارت الى ضغوط إيرانية أجبرت الصدر على التراجع .

هذه الوثيقة المسماة بالوطنية تنظم الى سابقاتها الانشائية الكثيرة منذ عام 2006 ولحد اليوم تظهر عادة مع بداية كل موسم انتخابي لا علاقة لها بما يمكن تسميته وفق التقاليد الديمقراطية بالمشروع الانتخابي الذي تتم المحاسبة الشعبية من قبل الناخبين حوله , فلو أُفترض جدلاً صحتها لما شاهدنا جميع تلك الأحزاب على الساحة السياسية العراقية بسبب الفشل والمسؤولية أمام معاناة شعب العراق .

يبدو إن مقتدى الصدر تلقى تطمينات من الأحزاب وكتلها ” الفتح ” الموالية لطهران وإصلاح حيدر العبادي وعراقيون التي يرأسها عمار الحكيم للعودة , وهي وعود سياسية قد تتبدل حسب الظروف الانتخابية , إلا أن هذه المناشدة عبر ما سمي بورقة ” الوثيقة الوطنية ” التي وقعتها قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني بعد الإصرار على تغيير النصوص المتعلقة بالدستور وتعديله , لا تعطي ضمانات باحتمال حصول كتلة مقتدى الصدر على ما سوّق له سابقاً بالحصول على رئاسة الوزارة . السبب الجوهري كانت هناك مخاوف من المرجعية الشيعية باحتمالات تأجيل أو إلغاء الانتخابات وهو أمر لا تقبله , وهناك تسريبات بأن المرجع الشيعي علي السيستاني أكد ضرورة قيام الانتخابات في العاشر من أكتوبر .

حاول الكاظمي في مناسبات عدة تقديم خطاب سياسي واعلامي بأنه يقود حكومة تحضّر للانتخابات ” المبكرة ” حيث أصبح هذا العنوان مُفرغاً من مضمونه الحقيقي, لذلك سعى الى تعبئة سياسية داخلية وسط انقسام ومخاوف بين الأحزاب حول جدوى تلك الانتخابات قبل ستة اشهر من موعدها الطبيعي ومآل تلك الانتخابات إذا ما توفرت عناصرها وبيئتها السليمة, نعلم إن مقتدى الصدر دعم مصطفى الكاظمي وما زال يدعمه وهو الطامح برئاسة جديدة بعد الانتخابات , مع إنه لا يمتلك كتلة انتخابية تدعمه معتمداً على الثقة وسط جو مشحون كاره له من قبل المليشيات الولائية التي يتصاعد نفوذها في العراق  .

اشتغل الكاظمي على المحيطين العربي والدولي لتحقيق دعم له أولاً من خلال الترويج لتحقيق الانتخابات رغم انسحابات بعض الكتل السياسية كأياد علاوي وصالح المطلق والحزب الشيوعي وبعض فصائل الحراك الشعبي . فقد حصل على موافقة كل من واشنطن وطهران على عقد الانتخابات في أكتوبر . كما نجح أواخر أغسطس في عقد مؤتمر لدول الجوار ببغداد كان مضطرباً في أغراضه ومهماته وحتى في تسميته إلا في التسويق للكاظمي نفسه بما يتجاوز هدفه الحكم لشهرين فقط إنما لمرحلة جديدة , كذلك التسويق لإيران بعد قيادة حكومة إبراهيم رئيسي ثم التسويق السياسي للرئيس الفرنسي ماكرون الذي يسعى لملء الفراغ الأمريكي في العراق والمنطقة مع انه فشل في مشروعه بلبنان .

هناك إصرار على عقد الانتخابات في شهر تشرين ( أكتوبر ) بعد استبعاد احتمالات تأجيلها بعد اشتغال الأحزاب ذات العنوان الطائفي الشيعي على حصولها على المقاعد التي تطمح اليها بعد استبعاد وإدخال أسماء جديدة , قد تكون بعض أسماء من كانوا ضمن الحراك الشعبي وتحولوا الى أتباع لبعض الأحزاب , وقصة حصول كتلة مقتدى الصدر على أغلبية له لها حديث آخر , لكنها انتخابات لن تلد وليداً حراً مدافعاً عن حقوق العراقيين ومطالبهم في الحياة الحرة الكريمة , إنما وليداً فاسداً بثوب جديد أكثر إيغالاً في دماء وحياة العراقيين .

العدد 121 / تشرين 2021