الأونروا – إبادة اللاجئين ومؤسستهم

نكبة للفلسطينيين استولدت الأونروا ونكبة أخرى تستدعي شطبها هكذا يمكن تلخيص التغريبة الفلسطينية بين نكبتين فالأولى التي تحول فيها الشعب الفلسطيني طريداً وشريداً في وطنه وفي المنافي لاجئاً في المخيمات التي أقيمت مؤقتاً قبل أن تتحول إلى مزمنة كان لا بد للعالم الذي وقف متفرجاً على طرد شعب من وطنه أن يخترع مؤسسة إغاثية لمعالجة آثار الجريمة وليس أسباب الجريمة فكانت الأونروا.”

تأسست الأونروا في ديسمبر عام 1949 بعد النكبة بعام على أن يتم تجديد ولايتها كل ثلاثة أعوام لغاية إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية ولكنها الآن بعد سبعة عقود ونصف تجد نفسها معرضة للشطب مع اللاجئين الفلسطينيين في غزة التي شاء قدرها أن تستقبل الجزء الأكبر من هؤلاء الذين رحلوا أثناء النكبة ولا زالت تعتبر الخزان الأكبر لهم ، هؤلاء الذين وجدوا أنفسهم فجأة يهربون من مدنهم وقراهم ليستقروا في ذلك الجزء الجنوبي من فلسطين يعيدون البحث عن هويتهم ويرممون مشروعهم الذي تحطم باحثين عن العودة والتحرير ليشكلوا ثورتهم من أبناء اللاجئين في غزة فكان قدر غزة أن تعيد بعث الوطنية الفلسطينية ارتباطاَ بتلك الخصوصية فظلت على امتداد تاريخها تمتهن صناعة الفصائل والتمرد على الاحتلال.

قبل ست سنوات مطلع العام 2018 كان بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية يعقد اجتماعاً للبحث عن كيفية الغاء الأونروا وتحويل اللاجئين الفلسطينيين إلى المفوضية العليا للاجئين وفي ديسمبر 2022 صوتت 157 دولة لتجديد وكالة الأونروا إلى منتصف 2026 لكن ممثل إسرائيل صوت ضد هذا التمديد ما يعني أن النية مبيتة ومنذ سنوات كانت إسرائيل قد بدأت حربها ضد المؤسسة الدولية قبل حرب غزة بكثير وقد شهدت.

منذ سنوات تشن إسرائيل حملة لنزع الشرعية عن الأونروا بلغت ذروتها في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عندما كان جاريد كوشنير صهر الرئيس ومستشار البيت الأبيض يدعو إلى “بذل جهود مخلصة لتعطيل الأونروا” هذا بعد أن وصف والد زوجته الرئيس الذي كان مثل دمية في يد نتنياهو الأونروا بأنها “فاسدة بشكل لا يمكن إصلاحه” آنذاك شهدت الأونروا خفضاً مالياَ غير مسبوق حال دون قدرتها على دفع الرواتب بانتظام عندما أوقفت الولايات المتحدة في عهد ترامب تمويل الأونروا قبل أن يتم استئنافه في عهد بايدن.

جاءت اللحظة التي تعتبرها اسرائيل بالتاريخية …يا للهول … اثنا عشر موظفاً من الأونروا يتبعون حركة حماس يشاركون في أحداث السابع من أكتوبر التي تم الهجوم فيها على عدد من الكيبوتسات الإسرائيلية القريبة من غزة… ما علاقة الأونروا بالأمر هذا إذا ثبتت التهمة وقبل أن يتم التحقيق داخل المؤسسة أو اتباع أية إجراءات قانونية كانت إسرائيل تشن ضربتها الكبرى وتجر معها الولايات المتحدة التي تدفع ثلث موازنة الأونروا لتعلق وقف التمويل ومعها اثنتي عشرة دولة.

يعمل في الأونروا في غزة ثلاثة عشر ألاف فلسطيني متعددو الانتماءات وهم جزء من الشعب المنكوب الذي يسعى للتحرر ويتعرض موظفوا الأونروا للاستقطاب والتجنيد بل أن إسرائيل نفسها تعمل على تجنيد موظفين من الأونروا لصالح أجهزتها الأمنية، لكن ذلك لا يدين الأونروا كمؤسسة لكن إسرائيل التي تشن حملتها المنسقة لأهداف سياسية وتعرف جيداً مدى مسؤولية المؤسسة عن سلوك موظفيها الفردي خارج العمل لا يدينها إلا في حالة معرفتها وعدم اتخاذ الإجراء القانوني، تلفقت المسألة لإدانة المؤسسة ككل واعدامها وإخراجها عن القانون وتفكيكها.

الدول التي سارعت لقطع التمويل عن الأونروا بسبب تهمة مشاركة اثنا عشر موظفا مع حماس لم تعلن احتجاجها على مقتل 152 موظفاً تابعاً للمؤسسة الدولية قتلتهم إسرائيل ولا علاقة لهم بالأحداث ولم ترفع تلك الدول صوتها عندما تم قصف 147 منشأة تابعة للوكالة تأوي مئات آلاف من النازحين وقتلت إسرائيل فيها العشرات ولم تغضب تلك الدول عندما خرجت 18 منشأة صحية تابعة للأونروا عن العمل بفعل القصف الإسرائيلي من أصل 22 منشأة ولا تدمير 84% من المرافق الصحية في قطاع غزة.

وقبل أن تبدأ التحقيقات كانت اسرائيل تسارع بالحديث عن أن الأونروا لن يكون لها متسع للعمل بعد نهاية الحرب أن البحث عن بديل أصبح هو الأمر الواقع في غزة كأن المسألة أصبحت جزء من الماضي وقد أعلن ذلك وزير الخارجية وأما عضو كابينت الحرب بني غانتس الذي تعطيه الاستطلاعات تفوقاً يؤهله لرئاسة وزراء إسرائيل إذا ما أجريت الانتخابات ففي مؤتمره الصحفي الذي عقده مطلع شباط قال “على وجه السرعة يجب الدفع بمخطط لنقل المواد الغذائية إلى غزة من خلال منظمات دولية غير تابعة لحماس مثل أونروا” أما المتحدث باسم الحكومة الإسرائيلية ايلون ليفي قال “الأونروا هي واجهة حماس.”

المسألة سياسية وليست أمنية إذ تقول إسرائيل أن الأونروا هي سبب إدامة قضية اللاجئين بينما أن الاحتلال هو السبب وأن الوكالة هي مجرد ذراع خدماتي لكارثة تسببت بها إسرائيل ولا تزال فإن إقامة دولة للفلسطينيين وعودة اللاجئين تلغي تلقائياً وجود تلك المؤسسة لكن اسرائيل تظن أنها حين تفكك الأونروا فإنها تفكك قضية اللاجئين وفي غزة حاولت وتحاول مستغلة أحداث السابع من أكتوبر لترحيل هؤلاء من قطاع غزة نحو مصر وبالتالي تتخلص من اللاجئين والاونروا بضربة واحدة وحين يتعثر مشروع التهجير يمكن إنهاء الأونروا على الأقل وحينها لن يجد هؤلاء من يقدم لهم الخدمات ليصبح الرحيل الطوعي هو الخيار أمامهم بالأمر الواقع.

في الأسبوع الثالث للحرب على غزة في الرابع والعشرين من أكتوبر الماضي شن وزير خارجية اسرائيل هجوماً على الأمين العام للأمم المتحدة قائلاً “أنه لا يعيش على هذا الكوكب” وألغى اجتماعه معه لمجرد أن الأمين العام كان قد ألقى كلمة تحدث فيها عن معاناة الفلسطينيين ووصف هجوم اسرائيل بالبشع وأنه لا مبرر لما يحدث بغزة، ثم بعد انتقاده للقصف الإسرائيلي مطلع نوفمبر قال ممثل اسرائيل في الأمم المتحدة جلعاد أردان أن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش فقد بوصلته الأخلاقية وذلك على منصة X كتب “لقد فقدت بوصلتك الأخلاقية ولا يمكنك أن تظل أميناً عاماً ولو لدقيقة واحدة أخرى” هذا لأن غوتيرش أطلق نداء مساعدات إنسانية بقيمة 1,2 مليار دولار وكثير من التصريحات المشابهة وتستمر اسرائيل بالهجوم المكثف والعنيف على الأونروا لتحقيق الأمر في حملة منظمة لا تتوقف فقد قام زوير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموريتش بحطوة عملية لمخطط التصفية بإلغاء الإعفاء الضريبي للأونروا .

منذ ما يقرب من خمسة أشهر تشن إسرائيل عدواناً وحشياً على قطاع غزة الذي تحكمه حركة حماس، منذ بداية الحرب توقفت الحركة عن تقديم الخدمات الشحيحة فهي ليست حكومة بل إدراة الأمر الواقع الذي نشأ بعد طردها للسلطة إذ تحاصر إسرائيل القطاع منذ عام 2007 لترتفع نسبة الفقر في القطاع ليزداد الاعتماد على الأونروا أكثر فأكثر حيث أصبحت تمثل شريان الحياة للاجئين الذين تتجاوز نسبتهم ثلثي سكان القطاع البالغ عددهم 2,3 مليون نسمة وفي الحرب وانقطاع الخدمات وتوقف الدخل وحملة الرعب التي مارستها اسرائيل منذ اليوم الأول للحرب هرب الكثير من هؤلاء إلى المدارس والمرافق والمنشآت الخاصة بالوكالة جزء من تلك المنشآت تم تصنيفها خصوصاً في المنطقة الجنوبية كملاذات آمنة ولكن جزء كبير من تلك الملاذات تعرضت للقصف العنيف أدى لقتل العشرات فيها دون أن تسجل الدول الداعمة للأونروا أي احتجاج.

دمرت إسرائيل مدارس الأونروا ومرافقها الصحية ومخازنها تعرضت لضربات كثيرة وقطعت الطريق على قدرتها على تقديم خدمات منذ بدايات الحرب وكما أعلنت عن هدفها بإسقاط حكم حركة حماس كانت بنفس الوسائل والأساليب تسقط صلاحيات وقدرات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين هذا في غزة مترافقاً مع الحملة المسعورة ضد الأمم المتحدة والأمين العام أي حملة عسكرية ودبلوماسية وسياسية انساق فيها عدد من الدول الفاعلة والمؤثرة على المستوى الدولي قبل أن تدرك تلك الدول أن لا بديل عن الأونروا وأن غيابها أو تفكيكها يعني التضحية بسكان غزة فمن يستطيع تقديم خدمات لهذه الملايين وخصوصاً في ظل حرب بهذا الجنون هدفها إسقاط نظام الحكم القائم.

ثلاثة قطاعات حيوية تمثل حياة الفلسطينيين في غزة تعمل عليها الأونروا وهي إدارة المدارس الابتدائية والإعدادية وتشغيل المراكز الصحية وتوزيع المساعدات وقد توقفت المدارس منذ اليوم الأول للحرب ويبدو أنها لن تتمكن بعد الحرب من تشغيلها فقد تعرضت المدارس لضربات كبيرة ستحول دون قدرتها على العمل ومع وقف التمويل ستوقف التعليم، أما المرافق الصحية فقد تم القضاء على الجزء الأكبر منها وبقي الشكل الثالث للخدمات وهو ما أوقفته إسرائيل وسمحت بالقليل بعد ضغوطات أميركية ولكنها تعرقل عمل وكالة الغوث فقد اغتالت الحراسات التي ترافق شاحنات الوكالة تاركة لفوضى الجوع أن تقطع الطريق على عمل المؤسسة المنظم متزامناً مع حملة الحرق والتفكيك.

الحرب العدوانية الشرسة التي تشنها إسرائيل تخفى وسط دخانها المتصاعد مشاريعاً ماكرة تعمل عليها اسرائيل منذ سنوات حيث يمثل قطاع غزة أزمة اسرائيل الاستراتيجية منذ أن بدأ ثورته حيث يمثل الدفيئة الأكبر للكفاح ضدها ووصل تهديده إلى حد الخطر الوجودي كما اعتبرت في السابع من اكتوبر لتخرج في حرب ابادة تناقش حيثياتها محكمة العدل الدولية تلك الابادة هدفها اقتلاع القطاع من جذوره وبكل مكوناته التي تتطلب اقتلاع الأنروا أيضاً .

دفعت إسرائيل الناس من شمال قطاع غزة إلى جنوبه ومن بقى في الشمال يتعرض بالاضافة لحملة الإبادة لعملية تجويع هي الأقسى أوصلت الناس أن تأكل علف الحيوانات التي نفذت أيضاً وفي الجنوب استمرت حملة الابادة بطرد الناس نحو جنوب الجنوب في رفح التي تشهد أكبر كارثة انسانية على وجه الأرض حيث انتشرت الخيام وسط جو شديد البرودة وتنعدم أدنى مقومات الحياة الإنسانية في مشهد لا يمكن وصفه رافقته حملة ترويع لكل مواطن في غزة يظن الصاروخ القادم سيقتل أبناءه ليكتب أحدهم على صفحته على الفيس بوك “ما أصعب أن تكون أباً في غزة” ولترد إمرأة انتزع قلبها “بل الأصعب أن تكون أماً في غزة” وما بين هذا وذاك ما أصعب أن تكون طفلاً في تلك المنطقة البائسة التي تخلى عنها العالم وما أصعب أن تكون عجوزاً يتكئ على عكازه هارباً من الموت أو يبحث عن دوائه لعلاجه المزمن فلا يجده خائفاً من الموت الطبيعي ولا يجد من يدفنه في حملات الموت الجماعي يا الهي كم أصبحت الحياة متوحشة في غزة.