بيروت مدينة كريمة ، دفعت ضرائب كل العرب

حوار مع المسرحي العراقي جواد الأسدي

عبيدو باشا

لا يزال جواد الأسدي أميناً على تجربته المسرحية. لا يفعل خلاف ما يقول. إنه لا يهرب من اعضائه ، ولو أنه يحاول قطاف النص الواحد لاكثر من مرة مجموعة من الأسماء الجديدة بكل مرة . المسرح شهوة ابن العراق ، من حين رأى أن يديه تحولتا الى يدين من رذاذ في بلاد الرافدين ، ضب ماتيسر من اغراضه ليغادرها كغيمة . لا وحده من وجد نفسه من قطاف الليالي في بغداد ، حين وجد المثقفون والفنون في ثمانينيات القرن الماضي أنهم باتوا كالثمار المتساقط عن الأشجار. لم يقل ما أجمل السقوط عن الشجر وهو يرى في الانحاء القريبة والبعيدة قبلاته. ذلك أن هذا الرجل المتمرد على عدة الأوقات المبتذلة ، لم يلبث أن حفر اسمه لكي يبقى من الأسم أكثر منه ، في كل من دمشق وبغداد . ثم ، الى المواعيد الأخرى في بلاد الله الواسعة . خرج من وجع الفراش الى عقاب المسرح الرائع . ابي جسمه بعد أن ألبسه جسده . سماه آدم ، آدمه ، حتى يبدأ من آدم المسرح من ما بدأ به آدم في الجنة ، ثم في وحشة العالم .

المسرح اي إبن الهجرة ، الارتحال، الترحال ، صوت الماء ، الخدر ، اليقظة ، مواعيد الحياة ، مواعيد الصباح والمساء . مضى زمن لم يعد السكر فيه يقوم الا على اللهاث ، لهاث المسرحيين والفنانين والمثقفين والناس العاديين والبشر بين الناس . هكذا ، سكر الرجل بلهاثه وهو يطوف على الأجناس بدول الناس . غير أنه وجد أن الحرام في الانخراط في جنون العالم بعيداً من جنون بغداد ، بعد أن اسقطها الاحتلال والتامر عن شجرتها العالية ، حتى اذا ما ارتطمت بالأرض ، سمع صوت ارتطامها كصوت ارتطام اله ببكارته، لكي يقدم الابن الى الأرض ، هذه الحبلى الأبدية ، الولادة الأبدية . اذ تحبل بدون جنس الرجل وتلد كشجرة .

عاد جواد الأسدي الى العراق على أمل أن يقيم في أجمل الحرام ، غير أنه اذ لم يجد متعه هناك ، حيث وجد جنود الاحتلال يمشون كالخطايا على الارض وفي الخلايا ، ترك العراق من جديد بعد أن رسم مسرحيته الجديدة/القديمة ” نساء بالحرب ” ، في عجين من ذاكرة مملؤة بالصلوات في صالات المسرح في دمشق وبيروت واسبانيا ودول بدا أنه يقصدها للمرة الأخيرة . يروي الاسدي ( حوار خاص ) أن دمشق أول الرسم على الجدران بعد الرسم على لوحات الأقمشة . جزء من المكنوز الثقافي من دمشق ، جزء من بيروت ، جزء من بغداد ، جزء من فكرة الرجل المطرود من الجنة مرة بعد أخرى . وجد نفسه بالعاصمة السورية كسحابة ، يراودها الهطول . البداية مع ” ماريانا بينيدا ، عن نص الشاعر الاسباني المقتول برصاص الفاشية فيديريكو غارسيا لوركا ، ثم في “زهرة البغدادية ” وهو نص من

من مسرحية حمام بغدادي

نصوصه المؤلفة . ثمرة بطنك أوضح من نصوص قوارير الآخرين ، يقول . هي معك وأنت معها ، النصوص ، تستطيع أن تراها بعريها وأن ترفعها من العري الى اللهو ، السهو ، النوم ، الفرح ، أن تكرج بين يديك كما يكرج الماء وأن تعصف بك ، أن تعصف بها ، أن تتحول الى فرج بعد تأزم . الكتابة عند المخرج كتابة لا تخضع لشراسة الفم والقلم . إنما لشراسة الخيال والمخيال . حين تكتب ، تتسلل الرؤى والاشارات ، كما يتسلل الغجر الى بلاد الله الواسعة . الكتابة فصول متداخلة ، لا فصل واحد. الكتابة فصول في فصول ، تصل معها الى حيث لا يصل أحد ، لأنه مذ تخرج من رؤوس الأصابع لا تعود كلاماً بكلام ، حين تتساوى مع منذورات الصور ، حيث يتجاور الموت مع الحياة وحيث تتجاوز الحياة الموت ،ما دامت الحياة لا رخيصة ، كما هي الحياة بالمسرح .

يروي الأسدي أن دمشق فتحت أبوابها أمامه ، بعد أن غير مقام اقامته ، ليجد أن الوطن حيث القلب . ثم ، لم يلبث أن وجدها ، وجد المدينة ، مدينة ولد فيها بعد أن مات في مدينة أخرى . وجد في شارع بغداد في دمشق ، كما وجد في مسرحي القباني والحمراء وفي بيوت الأصدقاء من خففوا من ذعره المكبوت من تغيير مكان الإقامة ، من ممدوح عدوان الى سعد الله ونوس وفواز الساجر وسعيد حورانية وسعيد مراد . من لا يعرف بعض اصحاب الاسماء ، هم من استطاعوا ان يحملوا أنفسهم والآخرين ( من يرغبون ) محمولين على الراحات الى اخر العالم . لقاءات يومية ، حوارات يومية ، وجد فيها الأسدي ابديته ، حيث قام سحرها الى مضيه الى تعميق تجربته المسرحية المساجلة ، وهي صفة منتزعة من لقاءات الأصدقاء ، حتى وجد من رآه ورأى ما رآه فيما رآه أن الأسدي في كل انتاج يقود نفسه الى آخر العالم ، مع ” مغامرة رأس الملوك جابر ” ( سعد الله ونوس )و” يرما” (لوركا)و” تقاسيم على العنبر ” ( تشيخوف ) مع طلاب معهد الفنون . بدمشق كشف ، بعد ان اكتشف، أن مسرحه حقق معادلته الجديدة مع الممثل الجديد على الخشبة ، عبر البروفات المحورية ، لاكتشاف الملكات والقدرات الخلابة للممثل ، من وجود المخرج بقلب اللعبة المسرحية بالتداخل مع التأليف ، حيث يجري صياغة الفضاء المسرحي كما لو أن امرأة تلد ، أو كما لو أن الولادة انبجاس زبد بعد انحباس .

لا احتشام بالمسرح على ما يعرف المسرحيون . تسلق جذوع الشهوات ، جل ما في الأمر . لا بل أكثر ، عقلنتها في واحدة من الأكوان البشرية الندية . هكذا ، وجد الأسدي المسرح الوطني الفلسطيني في دمشق ، بأعلى الارتعاشات ، حيث تتسلم الأنامل مسبحة المسام . نشيد في مجموعة من العناوين ابرزها ” ثورة الرنج ” عن نص لمعين بسيسو و”خيوط من فضة” جائزة افضل عمل مسرحي متكامل في مهرجان قرطاج المسرحي بالعام -١٩٨٥. سال سكر الرجل الإبداعي في المسرحية هذه ، حيث بدا ابطالها كالوعول الهائجة المشحوذة بجنس الافتراس ( ندى حمصي ،عبد الرحمن ابو القاسم ، زيناتي قدسية …). وقد اختتم التجربة الدمشقية بالعام ٢٠٠٦ بمسرحية “حمام بغدادي”،

من مسرحية العنبر

تأليفه واخراجه ، مع الراحل نضال السيجري وفايز قزق. وحيدان في ساعة فتك واضحة على الحدود السورية العراقية والعراق تتربص به الثعالب والذئاب وتشتهيه كما لو أنها من نواسي الطهر لا العهر . ازاحة ورقة توت ، مع رجلين رفيعي الآداء . ولأنهما كذلك ، نالا جائزة مهرجان المسرح التجريبي بالقاهرة ، بالعام نفسه ، بعد أن وجدا يثبان كملاكين عاريين خلف النجاة ، بعد أن نزع العالم الغلالة عن وجهه ، ليظهر وجهه وجه الوحش على بغداد .

يعود الأسدي الى دمشق بعد أن وجد أن مقامها مقام تصوفه، بعرض جديد” انسواهاملت “. يذكر عنوانه لمسرحية غريغوري غورين ” انسوا هيروسترات “. وهو يدور على محنة المثقف العربي . مثقف في ازمة وجودية طاحنة ، يجد نفسه فيها مطالباً بابراز صكوك البراءة وبتحديد فئة الدم في عالم كثر فيه مصاصو الدماء . يأسف الرجل على أنه لم يشهد على سنوات دمشق الأخيرة ، ما سبق الحرب على سوريا وما وقع بالحرب وما يحدث بعد الحرب . الا أنه في عودته الى دمشق المطحونة بنتائج الحرب ، وجد أن العاصمة لا تكف عن سرج الريح ، في مختلف المجالات . ” ثمة دم جديد ، متدفق ، عنيف ، من جيل جديد ، جدير ، لا بتبرير وهو يرى نفسه في العصف بعد أن كف عن التقوى الغبية ، التقوى المثالية” . انه الآن يخترع وجوده كما يشاء ، لأن اختراع الوجود يعيد الحياة الى البلاد ، بلاد قبعة لا بلاد يفض الآخرون ، الغرباء ، دهرها وموتها ومعابدها سواء بسواء .

غير أن عنب جواد الأسدي في بيروت هو عنب آخر، عنب المدينة لا عنب البراري . بالعاصمة اللبنانية لن يبدد احد رغباته . بالعكس . اذ صبته صبوة في كأسها المترع بالمسرح والمسرحيين ، بالثقافة والمثقفين. ببيروت ، كل مسرحية حدث. الاغتصاب ، الخادمتان ، نساء الساكسوفون ، المصطبة ، لماذا تركت الحصان وحيداً. لم يعد العنوان الا بداية جديدة لمسار . ذلك أن الأسدي في بيروت وجد مساره في ركعات صلواته المسرحية ، حيث في كل ركعة اكتشاف ، تدوين الإكتشاف بالرجفة والدفء والعبور ورسم الأيقونات على ما لا قيام به الا بثقب الخشبة الجاهزة بالملذات السرية . هذا المخرج يمتلك صرة من الخرافات ، حيث يخرج السندباد من الحيرة الى الإكتشاف . وحيث الإصابع مجموعة من النجوم . ببيروت وجد فرج المفاجأة وهي تقوم من حربها الأهلية .لا يزال يتذكرها لا كقفة من المسرحيات ، يتذكرها كبداية مطاف جديد وهي تخرج من وقتها الأبدي الى وقتها الأبدي الآخر، لأن مدينة كبيروت تمتلك ابديات لا ابدية واحدة . تمتلك المدينة ابداً ، على ما يقول الحالمون ، من لا يؤمنون بنهاية مطاف إلا كبداية لمطاف آخر . جواد الأسدي واحد من هؤلاء . لأنه كذلك ، لم يندفع الى حك صندوق الرغبات . اذ وجد أن الإقامة في المدينة المتوسطية ، تخرج شهقاتها ، شهقات من عاج . عبر جواد الأسدي بالمدينة وعبرت المدينة فيه في مرافئ المسرح وحانات الثقافة. اذاقته طعم ريقها العنبي . هكذا ، أضحى أحد أهم المخرجين العرب مع ” الإغتصاب ” والعنبر رقم ٦” لتشيخوف والمصطبة ونساء الساكسوفون وبعض نصوص محمود درويش وبول شاوول ، كل مسرحية عوق ملذة . ولكن الخصلات لا تشبه بعضها ولو بدت كذلك في مدينة ، تقف على المغاور والياقوت والمحار ، في مدى رأسمالي وحشي ، دفعت من دفعته الى اكتشاف الطرق من فوق ، بين الذئاب وأرانب السرقة . افسحت بيروت للأسدي المساحة لكي يقيم طوافه الثالث ، بعد الطواف الأول في بغداد والطواف الثاني في دمشق . هذا مخرج أجساد جديدة ، لا حارس بساتين المصوغات المسرحية القديمة . ولأن المدينة لا تقيم في القيلولة على مدى زمن طويل ، لم تلبث أن اطاحت نفسها في دورة اكتمالها . لأن المدينة كلما اكتملت انفجرت ، لتعيد اسدال شعرها من جديد على غرة العالم . هكذا ، اغلق مسرحه ، مسرح بابل ، ليرحل من جديد على رخام العالم ، مؤجلاًحك اسرار حرة المسرح ، بانتظار اندلاع جنه وجنياته من جديد .

لا يزال جواد الأسدي ابن حكايات المسرح . حين عاد الى العراق ، لم يجد اعمدة الهيكل بعد أن دمرها الاحتلال . احس بالغربة مضروبة باثنين ، وكأنه عند بداية التكوين . يقول ” لم تستطع أن تسترح ملائكتي في بلاد انهكتها الحروب والحصارات ثم سطوة الاحتلال ، وبعضهم يسبح باسمه ، يدور حوله كما يدور الدرويش ، ما فوق العالم ،

المسرحي العراقي جواد الأسدي

في أسفل العالم ، ما دونه وما فيه . لم أقف على التخوم ، وقفت قناطر الحياة بعيداً من سطوة هذا وذاك ، بعيداً من ناظمي شعر الخليفة ومجون وعبث من يرون بالاحتلال والتحرك في الليالي كحبات المسبحة” . هكذا ، وجد في قفة اسفاره لمرة أخرى . ورشات تكوين وولادات دخول في عالم الآخرين من بلوغ عالمه ومهرجانات . لم يغشَ عليه وهو يرى العالم يقول ما لا يقول ، يهذي ولا يعي . كل يوم خلق وأنس في الجزائر والقاهرة وتونس والإمارات . ” سوف اقيم طوافي الرابع في دمشق ، على ايقاعاتها الجديدة ، حيث سجلت خلاصها في ملكوتها الجديد . انسوا هاملت ، لا تعظم شأن احد وهي تطرح سؤال الإنسان المعلق على روافع العالم كالمشنوق . اخرج ولا انفك وسوف ابقى اخرج ولا انفك” .

لا يحار الرجل بين الفصل والوصل. صحيح أنه يسافر، غير أنه لا يغترب. صحيح أن في شخصيته من الملامح اليونانية ما فيها، غير أنه يعود منها، لا إلى البلاد المتروكة فريسة الصراعات والمؤامرات. يعود إلى كل ما له قيمة. اختار ” الخادمتان” لجان جينيه ، لأن ” المسرح لا وجود له إلا بالروح المبدعة له، وفي زمن إنشائه وإلقائه. ثم لا شيء. ينتهي المسرح بانتهاء العرض”.هنا حوار مع صاحب”نساءالساكسفون”و”حمام بغدادي”و”ليالي الحصاد”. إلإشكالي. الميال إلى تخصيب المسرح ، بالبروفات ، ذات الروح المتوحشة، مع أجساد مطواعة وأرواح متمردة.

– ” الخادمتان ” لجنيه، دائماً. وأحياناً ” نساء في الحرب”. نصان توفق من خلالهما بين الأشغال المسرحية والمشتغلين بورشك المسرحية. ثم تعود اليهما ، كما لو أنك تستميح غيابهما في حضورهما.

+ لأن في النصين من الإشارات والنقرات الصوتية ، الكثير الكثير. هذا هام بالورشة المسرحية. حيث ، لا بد من قيام التوافق، بين الصوت والمعنى. صوت الناس، الجمهور، فريق العمل، ومعنى العرض، والمعنى القائم من خلال العلاقة القائمة بين العرض وفريق العمل. لا تزال الخادمتان، واحدة من صناديقي السوداء، يحتوي على الكثير من نفسي ولغتي واختلافاتي ومصالحاتي مع المسرح. يقدم النص، إضافات توليدية دائماً. حيزه التركيبي غني، ودافع إلى قراءات كثيرة .

– تدرب على قراءة النص، من خلال التلاوة، أم من خلال إقامة الوحدة ، بين روح المسرح وجسد النص؟

+ هنا، أقسم فريق العمل إلى مجموعات، أساهم بقيادتها إلى تنظيم العلاقات فيما بينها. وكذلك تنظيم العلاقة بين النص والمنصة.

– مسافر دائم. تعودت السفر. عدت إلى العراق لفترة ، ثم لم تلبث أن غادرته من جديد. وجدته كما تركته، أم أن طبائع البلاد وطبائع الناس تغيرت، بين مرحلتين قاسيتين من تاريخ العراق الحديث؟.

+ وجدته أسوأ. حين غادرت العراق، غادرته ، لا لأنني بحثت فيه عن الإنسان المثالي ولم أجده، لأني افتقدت فيه الحرية والديمقراطية والحق. وحين عدت إليه، وجدت فيه من أصناف البشر القاصية، القاسية ، الكثير. أميركيون وانكليز وهولنديون وأشباههم. أمم متباينة ، دمرت العراق وحولته إلى معتقل كبير. ثم أنها لم تستطع، ولم ترغب بمنحه ما افتقده. أطراف الحرية الشاسعة بالمقدم. لا أنكر، أنني حين عدت إلى العراق، عدت بهدف الإستقرار،بعد طول هجر.قدمت هناك “نساء بالحرب” بظروف مستحيلة. بلغ الترابط بين الحياة والموت في تلك المرحلة، ما دفعني مرة أخرى إلى الهجرة، مرة جديدة.

عبرنا كل الإحتمالات بالطريق إلى صالة العرض. السيارات المفخخة، وتعسف القوى المحتلة.مليشيات الخطف والمقايضة بالمال. ديكتاتورية جديدة، ورثت الديكتاتورية المحلية . لم أجد نفسي في إشبيلية. هكذا غادرت العراق مرة أخرى. أخاف أن لا أعود.

– ألا يزال المسرح، رحلتك الحسية الملهمة إلى الإدراك الجمالي؟

+ لا يزال المسرح رحلة سحر مستمرة. غيبوبة تكثف اللذة،بذروات متصاعدة . أعمل بالمسرح، لأدافع من خلال المسرح عن نفسي. لكي أنجي نفسي من خراب مريع. أحس بأنه لولا المسرح لمت منذ زمن بعيد. لا أعثر على علاقتي بالواقع إلا من خلال المسرح. لا أزال عاشق مسرح، على الرغم من سنوات الإحتراف الطويلة. التنافس قائم باستمرار، بين فكرة الإحتراف وفكرة الحب والغواية. عندما تقرر أن تذهب بعيداً بعلاقتك بالمسرح، من خلال الواقع العربي المفكك والملتبس، تكاد تخسر أحلامك، بتأسيس وتثبيت حالة سينوغرافية متطورة وحالة انتاجية صحية وحضور ممثلين، يقدسون الشغل بالمسرح. هذه شروط غائبة من اهتزاز الستاتيكو العربي المستمر منذ عشرات السنوات. صحيح أنني وصلت إلى طبيعتي الفنية، إلا أنها تبدو غريبة أمام غياب الفضائل الإنسانية بالعالم العربي بكله .

– لا تعيش إلا من المسرح.

+ يفترض ذلك. غير أنني أعيش في المسرح ولا أعيش منه.

– هذه مفارقة من عيار كبير.

+ أحس بالكثير من الأحيان، أن المسرحي لا يفعل سوى أن ينتحر، بظل الظروف البربرية السائدة. بعد أن أضحت الحياة، قولة وجودية. العمل بالمسرح بظل الظروف هذه، دخول في دهاليز العذابات اليومية. تأمين الرغيف، الحرية، البيت ، العائلة. لا شيء لدى المسرحي، من أولويات الحياة.

– تتكلم بهذه السوداوية، بعد ان امتلكت اسمك ومسرحك في بيروت . ” مسرح بابل”.

+ تشغيل المسرح وأموره المستجدة ، كل يوم بيومه، جزء من مسار العذاب الخاص بي. الصالة ليست ميزة، الصالة مسؤولية، على قوس مشروعها الفكري غير المتحقق، أمام طوفان الروح الإستهلاكية ببيروت. لا يزال المسرح مغامرة، مكلفة. لا تكفي معرفة الإنسان ، وحدها، بتغطية الحاجات المادية .لذا، اغلق المسرح ، بعد ان انهدت المدينة وانسكب رملها وركامها على المسرح .

– انت منتزع من أرضك وناسك، هذا من جهة. من جهة أخرى، أضحيت مواطناً عربياً بامتياز، بعد أن منحتك العواصم العربية، هوياتها وجوازات سفرها. انت ممنوح ما لم يجرِ منحه لكثيرين يحلمون بذلك.

+ هذه ملاحظة إشكالية. ذلك أن الهجرة إذ تطرح عليك سؤال القدرة على قتلها أو اغتيالها، تطرح عليك سؤال تحويلها إلى هجرة مضادة ، من خلال بحثك الدائم عن حياتك. الحياة ، الحياة. والحياة بالمسرح. هناك نوعان من الهجرة. هجرة منتجة وهجرة مغثية، تدفعك إلى الموت وانت لا تزال حياً بالمعنى الفيزيقي.لا استطيع أن أنكر، بأن حضوري العربي بات واسعاً. ذلك أنني حيث أكون أحظى بالتقدير. غير أن هناك مصيبة، حياة ما بعد الإحساس بنجاح الهجرة، استناداً إلى النتائج. يحدث ذلك، حين ينتهي اليوم، عندما ينتهي كل شيء بيومك، وتذهب إلى سريرك. هناك يعاودك السؤال مرة أخرى، حول معنى التشظي. أحلم دائماً بأن تنتهي البروفة أو العرض بالعودة إلى بيت أهلي، أدق الباب، حيث يفتح الأهل. أحلم بالراحة هناك، بعيداً من هذا الكرنفال الكبير، المرسوم بالمسافات المتطاولة من مدينة إلى مدينة.

– لا تبدو علاقتك ببيروت،على معاييرها القديمة، على ضوء ما تروي؟

+ أحس بالإحباط، على صعيد ما آلت إليه الأحوال بالشارع البيروتي. وبالمؤسسات الإنتاجية اللبنانية. أحس لا بالإحباط فقط، أحس بالخيبة، من انقلاب أشكال العلاقات بحدود زوايا تامة، بالعاصمة المثيرة، وسط الطوفان الإستهلاكي فيها. لا اختار إلا بيروت، بحال طرح السؤال عليَّ، كما طرح منذ سنوات. تغيرت الأوضاع اليوم. كل شيء تغير . كل شيء انقلب . شهدت بيروت بالسنوات الأخيرة إنقلاباً شاملاً بالصورة والمعايير. أضحى البيت المعرفي الإستثنائي، مساحة استهلاك هائلة. أصرح بذلك بمرارة.

كل المسارح الحقيقية مهددة من جراء ذلك.

– بيروت ضد بيروت؟.

+ خلَّفت توازناتها القديمة وراءها. اختلفت كيمياء الناس فيها. تعرضت كوكتيلات المدينة إلى التصدع.

– تنوع المدينة وتعددها، ما انعكس على أشكالها التعبيرية.

+ وقعت المدينة بفخ الإستهلاك.

– بيروت ليست صورة فوتوغرافية. بيروت مدينة دائمة التحول .

+ نحن أمام بيروت جديدة.

– بيروت ليست غرفة واحدة .

+ لطالما نظرت إلى بيروت كمدينة استثنائية. إنها مصمم عربي لا محلي. استطيع أن اتكلم على عمان ، كمثال، بشكل عابر. لا استطيع ذلك مع بيروت. بيروت غير المدن والعواصم الأخرى. بيروت تبقى متميزة، ولو أنها واقعة اليوم، تحت سيطرة القوى الرأسمالية الوحشية.

– بيروت ليس جامدة، هكذا هي بالتاريخ والراهن. قدمت شهداء وأسماء، في مختلف الظروف والحقبات. هذه مدينة ضد الصور المزورة. وإذا ما سطت عليها بعض الصور المزورة، تمتلك الملكات التخيلية والواقعية، للخروج منها، للخروج عليها بوقت قريب.

+ لا أشك بذلك. هذه مدينة كريمة، بحيث دفعت كل الضرائب، غير المتوجبة عليها، عن العرب.

– لمن تحس نفسك أقرب، على صعيد المنهج والإسم المسرحيين بالعالم؟.

+ أحس نفسي أقرب إلى نفسي.

– قريب من تجربة أوروبا الشرقية وبعض التجارب الأوروبية الغربية. بقواك ، بخيالك، ببناءاتك المسرحية. آرتو، غروتوفسكي، بريشت، يوسف شاينه، بروك.

+ لا استطيع أن أنزع قبعات هؤلاء عن رأسي.

– لا يزال المسرح بالعالم مرجعيات . قديمة وجديدة.

+ عندما عمل بروك بالمسرح، استند إلى مرجعيات. تلك المرجعيات، هي مرجعياتنا، في مرحلة ما قبل بروك. الحكاية جدلية هنا.اعتقد بأن تجربة المسرح بالعالم تجربة واحدة. غير أنني أنتمي إلى” هنا” بالمعنى الحفري للكلمة. أحاول باستمرار، أن ابتعد عن الفيروس الأوروبي. ما أصاب مسرحنا، بعماره وشكله وآلاداء وطرقه، بالعديد من الأمراض والعاهات .

– أتحن إلى عمل قديم لك؟

+ رأس المملوك جابر. ثم الإغتصاب.

– أعمالك ذات روح واقعية سحرية؟

+ أوافق على ذلك.

– وغيرها؟

+ خيوط من فضة والعائلة طوط .

– مات سعد الله ونوس، وهو زعلان مما فعلته بنص الإغتصاب.

+ سعدالله اختلف معي حول رؤيتي للإغتصاب. القصة قصة خيار

– قولتها ما لم يرد لها أن تقول . لم يعترض على حلولك الجمالية، الإخراجية. لا حق لك بتحوير النهاية. اكتب مسرحية، إذا اردت مسرحية أخرى من نص بين يديك

+ لست كاتباً . أنا مخرج. الكتابة، شكل من أشكال التخلص من المونوتون. أطمح باستمرار، إلى انتاجات، ذات مشاريع، تنصج عبر أنساق معرفية، تبلغ حد الترابط بين السياسة والأخلاق وعلم النفس والنشاط الفني الإنساني

العدد 122 / تشرين الثاني 2021