زمن الأبواب الخلفية

جاد الحاج

كلما  اخذتني الظروف القاهرة الى ساحة رياض الصلح قبض المبنى المهمل للتياترو الكبير على انفاسي !

قلة من ابناء وبنات الجيل اللبناني الجديد يعرفون القيمة الحقيقية لهذا المبنى، ناهيك عن تاريخه الحافل بالحفلات الموسيقية والمسرحية والخطابية العامرة بنجوم ونجمات زمنه الذهبي.

  ادباء الجيل المخضرم من الإستقلاليين اعتبروا التياترو الكبير مرقداً  لعنزاتهم . وقد  نشبت بينهم وتحت سقفه مواجهات صاخبة قارب بعضها العنف البدني. لكن صحف تلك الأيام لم تتأخر في نقل وقائع التياترو  ولو بقي  المؤرخون  مترددين امام   استضافته   المشرعة  للجميع بلا استثناء. سياسيون، تجار، مهندسون، محامون، اصحاب اراض ، مستثمرون، بكوات، ومشايخ  . . . ومتسكعون   عايشوه  وعاشوه ،  حتى همد ونأى على الخط الفاصل بين بيروتين   بسبب الحرب الأهلية.

 بعد الحرب،عندما تسرّب ان البحث جارٍ لتحويل  التياترو الكبير الى “مول” ومنصة لعرض الأزياء ،  انتفض الكيان الطليعي لدى فناني ومثقفي لبنان. تظاهروا ونشروا احتجاجاتهم في الصحف، وحاولوا  اقناع المسؤولين بالحفاظ على الصالة المشابهة لزميلتها  الأوبرالية   الشهيرة في مدينة ميلانو، لكن سبق الهدف التجاري كل ما عداه ولم تسفر تلك “المقاومة” عن شيء يذكر، وعلى رغم مرور الوقت وكثرة الشائعات ما زال التياترو بين مدّ الإشكالات القانونية وجزر اختلاف الآراء لدى مستثمريه الجدد. وما بات مؤلماً  أنه سيتحول من مقرّ للابداع بابهى صوره الى “سوق” اخرى في قلب عاصمة ابادت اسواقها القديمة واستبدلتها ببدائل لا علاقة لها بالمكان والزمان على الإطلاق.

في السنوات الأولى بعد  تدشينه عرف التياترو الكبير هرجاً ومرجاً من كل الجهات، خصوصاً ابرز  شعراء و أدباء  تلك المرحلة وعلى رأسهم بشارة الخوري، المعروف بـ الأخطل الصغير،  وامين الريحاني ، ومعظم صحافيي ومحرري الجرائد المنتعشة بعيد زوال السلطة العثمانية البائدة. الا ان السباق المحموم الى  اغتنام حريات الإنتداب الفرنسي سرعان ما كشف  عن علامات ما بات اليوم معروفاً بـ ’فساد المنظومة الحاكمة واتباعها‘. وخلال امسية وداع  للشاعروديع عقل ، مؤسس المجمع العلمي اللبناني، وقف الأخطل الصغير سنة 1933 والقى هذه القصيدة الساخطة على الحاضرين:

         يا امة غدت الذئاب تسوسها   غرقت سفينتها فأين رئيسها؟

        تتمرغ الشهوات في حرماتها   وتعيث في عظماتها وتدوسها

        تعساً لها من امة ، ازعيمها   جلادها وامينها جاسوسها؟

       ليست من الأشبال فتية امة   إن ساد احمقها وعزَ خسيسها

      ومتى تؤيد بالرعاع حكومة   كانت أحط من الرعاع نفوسها

      وعصابة، ملأ المناخر نتنها   خضعت طوائفكم لها وطقوسها

     من دمع بائسكم وقوت فقيركم   تجنى  ضرائب ظلمها ومكوسها

    اتموت من فرط الهزال صغاركم   لتعزّ شوكتها ويسمن كيسها

    هبطوا الجحيم فردهم بوابها   أذ خاف من ابليسهم ابليسها

   اشبال ذا الوطن الجريح الى متى   انتم سيوف بلادكم وتروسها

موتوا كراماً، او فعيشوا أمة   تهوي على يدها العلى وتبوسها

 … وكان “المعنيون” جالسين في المقاعد الأمامية … يصفقون في حماسة  صادقة برهنوا عنها بوضوح عندما همّت القوى الأمنية بأعتقال الأخطل الصغير فوقفوا سداً منيعاً الى ان خرج الشاعر من الباب الخلفيّ!

هل بلغنا من جديد زمن الخروج  من الأبواب الخلفية؟

العدد 125 / شباط 2022