الهند كقوة كبرى بازغه: مقومات فاعلية حاضر المستقبل

أ.د. مازن الرمضاني*

منذ معاهدة وستفاليا في عام 1648, والنظام الدولي يقوم على أساس مفهوم مركب جمع , عبر الزمان, بين دالة الدولة القومية ذات السيادة ومخرجات النمط السائد في وقته لتوزيع القوة فيما بينها, ولاسيما بين تلك الآكثر تاثيرا دوليأ. ولا زال هذا المفهوم فاعلا إلى ألآن.

 وقد تراوح نمط التوزيع هذا بين التوزيع العمودي أو الآفقي لهذه المخرجات. يشير التوزيع العمودي إلى احتكار, أو شبه احتكار, أحدى القوى الكبرى, الآكثر قدرة, للنفوذ والتاثير الدولي, ومن ثم الهيمنة على النظام الدولي السائد. ومثال ذلك الهيمنة البريطانية في القرن التاسع عشر , والهيمنة الآمريكية بعد انتهاء الحرب الباردة, وبالمقابل يُعبرالتوزيع الافقي عن نمطين مختلفين من توزيع القوة بين القوى الكبرى. فهو قد يكون ثنائيا. ومثاله النظام الدولي خلال حقبة الحرب الباردة 1991-1947. وهو قد يكون أيضأ متعدد الاقطاب, بمعنى توافر مجموعة من القوى الكبرى على قدرات تاثير خاصة تتيح لها التمتع بنفوذ دولي لا تتمتع به سواها. ومثاله النظام الدولي الذي كان سائدا خلال الحقبة بين 1914-1648, والذي جمع بين بريطانيا وفرنسا وروسيا والمانيا وايطاليا واليابان. والشىء ذاته ينسحب على الحقبة الزمنية بين الحربين العالميتين. فالنظام الدولي تمحور حول الدول المنتصرة في الحرب العالمية الاولى.

 ومنذ عام 1991 والعالم يشهد ثمة تحولات تاريخية فريدة في سرعتها وشاملة وعميقة في تاثيراتها وتحدياتها, فضلا عن انفتاح نهاياتها على احتمالات عديدة, ناهيك عن أن مخرجاتها بدآت تؤسس لمعطيات دولية جديدة, والتي من المرجح أن تؤدي إلى جعل معطيات الواقع الدولي الراهن تنتمي إلى زمان مضى.

وتفيد تجربة التاريخ, أن ميزان القوى بين القوى الكبرى الآساسية عندما يتغير, فإنه يفضي إلى أن يتغير النظام الدولي إلى أخر مختلف. وتسمى المرحلة الزمانية الفاصلة بين نظام دولي يتآكل وينهار وآخر يتشكل ويتبلور تدريجيأ بالمرحلة الآنتقالية. وانطلاقا من أن هذه المرحلة قد تكون قصيرة أو طويلة نسبيأ من حيث الزمان, تتميز الملامح الآساسية لمخرجاتها بإنفتاح نهاياتها على شتى المشاهد الممكنة و/أو المحتملة.

وتفيد معطيات المرحلة الإنتقالية الراهنة, منذ إنهيار الاتحاد السوفيتي السابق, بإتجاهات دولية لا تسمح بقبول فرضيات الهيكلة السياسية الدولية سواء آكانت هذه أحادية أم ثنائية خصوصا وأن هذه الإتجاهات تؤشر أن تحديد حصيلة التفاعلات الدولية على وفق مصالح وإرادة دولة عظمى واحدة أو دولتين فقط أضحى هو الآخر ماضيا, والماضي هو الزمان الذي لا يعود ولا تتكرر معطياته السلبية و/أو الإيجابية.

وفضلا عن ما تقدم صار العالم يتكون سياسيا على نحو جديد, وأن إحتمالات تسارع حركة هذا التكون والتحول في الزمان اللاحق بإتحاه القطبية الدولية المتعددة هي أعلى من إحتمالات التراخي و/أو التراجع عنها. وتؤكد ذلك العديد من المؤشرات الآساسية, ومن بينها بداية بروز قوى كبرى بازغة جراء إرتقائها الاقتصادي التدريجي, وهو الإرتقاء الذي يفيد أن مفهوم القوة يتجه إلى التحول من القوة العسكرية (والآدوات الخشنة) إلى القوة الاقتصادية (والآدوات الناعمة), متفاعلا مع بدء الآنتقال من التحالفات العسكرية إلى التجمعات الاقتصادية الكبرى كالاتحاد الآوربي, وأسيان, والنافتا, والبريكس.وتُعد الهند من بين هذه القوى الكبرى البازغة.

والحديث عن الهند, كقوة كبرى بازغة, تدعمه معطيات فاعليتها الداخلية, فالهند, ومنذ تبنيها لبرنامج الآصلاح الشامل في عام 1991, وهي ترتقي داخليا ودوليا. والسؤال هو: ما هي المستقبلات, التي يمكن و/أو يحتمل أن يفضي إليها هذا الإرتقاء ؟  وللاجابة عن هذا السؤال , سنعمد إلى البحث في ثلاثة مواضيع لها علاقة بهذا السؤال وبالتتابع, هي مقومات الفاعلية الداخلية الهندية, والتحديات الداخلية والخارجية, التي تجابه هذه الفاعلية, ومشاهد المستقبل الهندي في عام 2040. في هذه المقالة سنبحث في مقومات الفاعلية الداخلية الهندية.

  1. مدخلات الفاعلية الداخلية الهندية

يتفق الرأي العلمي على أن نوعية الدور الذي تؤديه أية دولة إنما يتاثر, سلبأ أو ايجابا, بمدى فاعليتها الداخلية, بمعنى مدى توافرها على مقومات القدرة على الفعل الهادف والمؤثر. ومن هنا يتكرر التاكيد على أن الفاعلية الداخلية للدولة هي أساس فاعليتها االخارجية. والهند هي أحدى تلك الدول التي ينسحب عليها هذا التأكيد.وفي أدناه سنتناول مدخلات هذه الفاعلية ,ولاسيما الجغرافية والاقتصادية والعسكرية والتكنومعلوماتية, و السياسية.

1.1 المدخلات الجغرافية للفاعلية الهندية

تُعد الهند دولة قارية وبحرية في أن, هذا لإتساع مساحتها الجغرافية, والتي تُقدر بنحو 3.287.590 كلم2. وهي بهذه المساحة الواسعة تشكل نحو 6.88% من مساحة القارة الآسيوية, ومن ثم تحتل المرتبة الثانية أسيويأ بعد الصين, والمرتبة السابعة عالميا. ويترتب عن هذه المساحة الشاسعة ثمة مخرجات إيجابية داعمة للفاعلية الداخلية الهندية. فمن ناحية تفضي هذه المساحة متفاعلة مع بيئة مناخية متنوعية ليس فقط إلى وفرة في الموارد الآولية الطبيعية, وإنما أيضأ إلى إتساع الآراضي الخصبة, ومن ثم تعدد وتنوع في الآنتاج الزراعي, وهو القطاع الذي يستوعب نحو 60% من السكان. وقد أفضى هذا التعدد والتنوع إلى أن تتمتع الهند بإكتفاء ذاتي في العديد من المواد الغذائية, وأن تصبح من أهم الدول المصدرة للحبوب والقطن والشاي …الخ.

 وأما من الناحية الثانية, لإتساع هذه المساحة ميزةعسكرية مهمة تتمثل في توظيف ما سمي بالدفاع من العمق الإستراتيجي, والذي يفيد بإستدراج الطرف المهاجم إلى العمق والتعامل معه في بيئة غير مؤاتية بالنسبة له. ولم تتوان الهند عن توظيف هذه الميزة الجغرافية المهمة لصالحها في الحروب التي اندلعت بينها والصين وباكستان في القرن الماضي. كما أن جبال الهملايا, التي تمتد لنحو 2400 كلم من غرب الهند إلى شرقها, تُعد حاجزا طبيعيأ بين الهند والصين, كما إنها تتيح للهند مراقبة العمق الصيني من ناحية الشمال, وباكستان من الغرب, ومانيمار (بورما سابقا) من الشرق.

وفضلا عما تقدم, آتاح الموقع الجغرافي للهند التفاعل الإيجابي مع محيطها الإقليمي. فشواطئها الطويلة على المحيط الهندي دعمت تفاعلاتها المتنوعة, ولاسيما التجارية, مع عدد من دول الشرق الآوسط, وشرق آسيا, وآفريقيا بعنصر مضاف. فنوعية علاقتها مثلا مع دول الخليج العربي ساعدت على تآمين نسبة مهمة من حاجتها للنفط.

كذلك آتاح إتساع المساحة للهند أن تتوافرعلى أحد المدخلات المهمة للقدرة على الفعل المؤثر,هوالكم السكاني الواسع. إذ تأتي كثاني اكبردولة في العالم من حيث عدد السكان بعد الصين, وبعدد بلغ في عام 2017 نحو 1.439.232.774 مليار نسمة وبما يعادل 8.17% من سكان العالم, وبما يساوي 77% من سكان جنوب آسيا , وبكثافة سكانية تبلغ 425 فرد لكل كلم2 . وتتوقع آراء أن تتجاوز الهند الصين من حيث عدد السكان وتصبح الآكثر سكانا في العالم بحلول 2030. وكما آن الهند تتميز بعدد سكانها, كذلك تتميز في أن مجتمعها يُعد من المجتمعات الشابة نسبيأ. إذ تبلغ نسبة الفئة العمرية لمن هم بين 60-25عامأ نحو 58%, و34% لمن هم دون 25 عاما, و8% فقط من إجمالي عدد السكان لمن هم فوق 60 عامأ.

2.1 المدخلات الاقتصادية للفاعلية الهندية

يتفق الرأي على أهمية القدرة الآقتصادية للدولة, إذ هي التي تشكل قدراتها العسكرية والتكنولوجية والسياسية. والشىء ذاته ينسحب على الهند. فمخرجات قوة اقتصادها ونموه المستمر كانت وراء إنتقالها من دولة متآخرة إلى أخرى سائرة في طريق النمو والنهوض خلال فترة زمانية قصيرة نسبيأ. وتعد هذه النقلة حصيلة لمخرجات ركائز اقتصادية مهمة وكالآتي مثلا:

1.2.1 إرتفاع معدلات النمو

لقد أنصرفت الهند, خلال ثلاثة عقود, إلى تحقيق قفزات تنموية متلاحقة أفضت مخرجاتها إلى أن تكون أسرع دولة في العالم من حيث النمو. ففي عام 2020 مثلا وصل معدل النمو فيها إلى 7.5% مقارنة مع 6.3% للصين, ويشير تقرير لصندوق النقد الدولي إلى أن الهند ستستمر في نموها وزيادة دخلها القومي, ومن ثم تصبح في عام 2040 ثالث قوة اقتصادية في العالم

2.2.1 حجم الناتح المحلي الإجمالي

لقد أفضى النمو المضطرد للاقتصاد الهندي إلى إرتفاع معدلات الناتج المحلي الإجمالي إلى نحو 11.33 تريليون دولار في عام 2019 لتصبج الهند في المرتبة الثالثة بعد الصين بنحو 22.51 ترليون دولار والولايات المتحدة الآمريكية بنحو 20.52 ترليون دولار. كما أن هذا الإرتفاع أدى أيضأ إلى إرتفاع نصيب الفرد الهندي من 394 دولار في عام 1990 إلى 1217 دولار في عام 2017, وهو الآمر الذي ساعد على أنخفاض اعداد السكان الذين هم تحت خط الفقر بنسبة أكثر من الثلث. كما أن 1% من مجموع السكان  يتجاوز هذا الخط سنويأ . وقد كان لكفاءة النظام الآداري الهندي الآثر المهم في إيجاد فرص العمل في القطاعات المختلفة, ولا سيما في قطاعي الصناعة والخدمات.

وإضافة إلى ما تقدم أسهم حجم الناتج المحلي الآجمالي الهندي في مضاغفة اعداد الطبقة الوسطى الهندية إلى أربعة إضعاف خلال العقود القليلة الماضية ولتصبح إكثر من 250 مليون فرد. وغني عن القول أن نمو عدد أفراد هذه الطبقة ينطوي على مخرجات إيجابية, هذا لدورها إلتنموي الممتد عبر الزمان والمكان.

ولعل من بين ما يميز الاقتصاد الهندي أيضا عن سواه هو أعتماده العالي على الآسواق المحلية أكثر من التصدير, وعلى الخدمات اكثر من التصنيع, وأستخدام التقنيات المتقدمة في الانتاج أكثر من الآعتماد على الآيادي الماهرة, ولا تعني هذه الميزة أن الهند لا تحرص على التصدير,أو التصنيع, أو توظيف الآيادي العاملة الماهرة. فجميع هذه النشاطات وسواها يوليها الآقتصاد الهندي أهمية عالية.

3.2.1 التجارة الخارجية

تعد الهند أحدى الدول المؤثرة في حجم التجارة العالمية, هذا جراء  مخرجات تضاعف حجم تجارتها نحو تسعة أضعاف خلال العقدين الماضيين. إذ ارتفع من 86.5 مليار دولارعام 1999 إلى 844.11 ملياردولار في عام 2019. إن هذا النمو الكبيرإنما يعكس مدى الآنفتاح الاقتصادي والتجاري الهندي على العالم . كما إن هذا النمو يشير أيضا إلى المشاركة المهمة للتجارة الخارجية في تكوين الناتج المحلي الاجمالي للهند. فبعد آن كانت نسبة هذه المشاركة تتراوح بين 18-16% في بداية التسعينيات من القرن الماضي, آضحت تساهم بنحو 40.2% من الناتج المحلي الآجمالي في عام 2019, هذا بالمقارنة مع 35% بالنسبة للناتج المحلي الاجمالي الصيني و 26.39% للناتج الآمريكي ذاته. إن ما تقدم وسواه من الإنجازات أسهم في إرتفاع حجم الاحتياطات الهندية من العملات الاجنبية من 266 مليار دولار في عام 2014 إلى 430 مليار دولار في عام 2017.

4.2.1 تنوع مصادر الإنتاج

اقد سبق القول أن الآتساع المكاني للهند ساعدعلى أن تتميز بالثراء في الموارد الآولية الطبيعية والمعادن…إلخ. ووفقا لمنظمة التجارة العالمية يتم تصنيف الهند كرابع دولة عالميا في انتاج المعادن, والرابعة أيضأ في إنتاج الفحم الحجري والخامسة في إنتاج الحديد, والسادسة في إنتاج البوكسيت , الذي يدخل في صناعة المعادن…إلخ. كما إنها تُصنف أيضا ضمن قائمة عشر اقتصادات كبرى في العالم, ويُرد ذلك إلى تنوع مصادر الإنتاج فيها. فبالإضافة إلى أن مجمل إنتاجها الزراعي يحتل المرتبة الثانية في العالم, برزت الهند كأحدى الدول الصناعية الكبرى. ومما ساعد على ذاك توافر الآيادي العاملة ذات المهارة العالية والكلفة المنخفضة نسبيا وذات التخصصات المختلفة في معظم مفاصل القطاع الصناعي. وقد بلغ نسبة هولاء في عام 2019 نحو 25.58% من مجمل عدد السكان. لذا يمثل القطاع الصناعي المركز الثاني بعد قطاع الخدمات في دعم عماية التنمية الاقتصادية في الهند. إذ يساهم بنحو 31-26% من حجم الناتج المحلي الإجمالي. وأما عن قطاع الخدمات, الذي يشكل نحو 23% من حجم القوة العاملة الهندية, فإنه يُعد القطاع الآسرع من حيث النمو, والمساهم الآكبر في الناتج المحلي الإجمالي الهندي وبنسبة تعادل 60% في عام 2020.

إن تنوع مصادر الإنتاج في الهند جعل منها دولة ذات اقتصاد مركب يجمع بين الحداثة الصناعية وبين القطاع الزراعي التقليدي, الآمر الذي جعلها أقل إعتمادأ على الخارج وأكثر إعتمادا على الذات لإشباع حاجات آمنها القومي.

5.2.1 حجم الإستثمار الخارجي

يتوزع الإستثمار المالي في الهند إلى نوعين: داخلي وخارجي. فآما عن الآول, الذي بدآ بالتدفق منذ بداية التسعينيات جراء عمليات الآصلاح الاقتصادي في وقته. وجراء ذلك بلغ الوارد منه خلال 2019-2014 نحو 319 مليار دولار. وآما عن الثاني, آي الإستثمار الخارجي, فمعظمه يكاد ينحصر في مناطق توليها الهند أهمية عالية كالخليج العربي والقارة الآفريقية. فآما عن الخليج العربي, فمرد آهميته تكمن في قدراته  على إشباع الحاجة الهندية لمصادر الطاقة. فالهند تُعد ثالث دولة مستوردة للنفط, ورابع دولة مستوردة للغاز الطبيعي. ولهذا تُعتبر دول الخليج العربي أكبر شريك تجاري للهند وبتبادل وصل إلى نحو120 مليار دولار. وأما عن أفريقيا, فالإستثمار الهندي فيها ينبع من الرؤية الهندية لها كمستودع مهم للموارد الطبيعية ذات الآهمية للصناعة الهندية. ويتميز الآستثمار الهندي في أفريقيا بخاصية التركيز على تطوير البنى التحتية للدول الآفريقية. وقد وصل التبادل التجاري بين الطرفين  في عام 2018 إلى نحو 62.66 مليار دولار.

2.1 المدخلات العسكرية للفاعلية الهندية

لقد آدركت الهند أن بناء قوة عسكرية تقليدية ونووية في أن يُعد شرطا ليس فقط لضمان أمنها القومي من تحدياته, وإنما ايضا كمرتكز اساس في بناء فاعليتها الخارجية. وقد دعم هذا الإدراك الحروب التي دخلت طرفا فيها مع  الصين عام , 1962, وكذلك مع باكستان في عامي 1965 و 1971.

فأما عن القوة العسكرية التقليدية, فلقد آتاحت القدرات البشرية والاقتصادية والتكنولوجية الهندية بناء قوة عسكرية متميزة, كما ونوعا. فالجيش الهندي يبلغ تعداده نحو 3.468.000 مليون عسكري, منهم 1.325.000 في الخدمة الفعلية, والباقي في الإحتياط. وبهذا الكم من الجند أضحت الهند تحتل المرتبة الثانية بعد الصين, التي يبلغ عدد جيشها نحو 2,284.000 مليون عسكري.

ويتشكل الجيش الهندي من قوات برية وبحرية وجوية, فضلا عن قوات حرس السواحل, علما أن الخدمة العسكرية هي طوعية لكل من بلغ الثامنة عشر من العمر ومن الجنسين. وحسب مؤشرات مجمل القوة لعام 2020, يأتي الجيش الهندي في المرتبة الرابعة بعد الجيوش الآمريكية والروسية والصينية. وبينما تأتي القوة البحرية في المرتبة السادسة عالميا, تأتي القوة الجوية في المرتبة الثامنة بعدد طائرات يبلغ نحو 2123 طائرة عسكرية, فضلا عن الصواريخ قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى, ناهيك عن الصواريخ عابر للقارات والقادرة على حمل رؤوس نووية, وكذلك الصواريخ مضادة للاقمار الصناعية.

ويدعم هذه القدرة العسكرية الفاعلة إنفاق عسكري ينمو بإضطراد. إذ بلغ في عام 2018 نحو 66.5 مليار دولار, الآمر الذي جعل الهند في المرتبة الرابعة بعد الولايات المتحدة الآمريكية بإنفاق عسكري يبلغ نحو 649 مليار, والصين بنحو 250 مليار دولار. والمملكة العربية السعودية بنحو 67.6 مليار دولار.

ولتطوير قدراتها العسكرية, تلجأ الهند إلى إستيراد السلاح من الدول المصدرة له, وخصوصا من روسيا الآتحادية وفرنسا. كما أن للهند علاقات استيراد  للسلاح من اسرائيل. بيد أنها تلجآ آيضا إلى التصنيع العسكري بجهد ذاتي أو بمساعدة خارجية. وتعد اسرائيل من  بين الدول التي تقددم هذه المساعدة.

وكما أن الهند تولي تطوير قدراتها العسكرية التقليدية أهمية عالية, كذلك هو الحال مع قدراتها النووية. ويعود تاريخ بداية حيازة الهند للسلاح النووي إلى عام 1974 , الذي شهد أول تفجير لسلاحها النووي. وقد تبعه قيامها بخمس تجارب نووية معلنة عام 1998 لتدخل بها إلى النادي النووي العالمي عضوا يتوافر على ترسانة نووية تضم نحو 70-60 رأسا نوويا جاهزا للاستخدام . ويُعد الصراع الكامن بين الهند وكل من الصين وباكستان ونزوعها إلى بناء علاقتها مع هاتين الدولتين على اساس توازن الرعب, أبرز مدخلات حيازتها للسلاح النووي .

وقد دعم حيازة الهند للسلاح النووي  مكانتها الإستراتيجية الإقليمية والعالمية على السواء بمدخل مهم مضاف. ويتجسد ذلك مثلا في نوعية الرؤية الآمريكية للهند ليس فقط كقوة إستقرار إقليمي, وإنما آيضا كقوة داعمة للسياسة الآمريكية حيال الصين. ومن هنا ينبع الدعم العسكري الآمريكي للهند, فضلا عن العلاقة الامنية الوطيدة بين الدولتين. بيد أن العلاقة المتطورة مع الولايات المتحدة الآمريكية لا تعني آن الهند لا تولي تطوير علاقتها مع الصين أهمية عالية. فالحرص الهندي على بناء علاقات صداقة متوازنة مع الدول الآخرى سياسية هندية ممتدة عبر الزمان.

وتفيد أراء أن الهند ستتمكن من زيادة قدرتها النووية حلال العقد القادم من هذا القرن إلى أكثر من 400 رأس نووي. ومما يساعدها على ذلك دخول مفاعل أكثر تطورا لإنتاج البلوتونيوم, هذا فضلا عن تطويرها لبرامج تخصيب اليورانيوم.

وفي ضوء ما تقدم, تفيد المقارنة بين مجمل القدرات العسكرية الهندية ومجمل القدرات العسكرية الصينية والباكستانية أن ثمة فارق كبير بين القدرات الهندية والباكستانية لصالح الهند, مقابل تفوق واضح للقدرات الصينية على تلك الهندية.

3.1 المدخلات التكنومعلوماتية للفاعلية الهندية

لقد دخلت الهند الثورات الصناعية الثالثة والرابعة جراء مخرجات نظام تعليمي متقدم أفضى إلى اعداد هائلة من الملاكات البشرية المؤهلة والمتدربة تكنولوجيا, الآمر الذي جعلها تتوافر على قاعدة واسعة من العلماء والمهندسين وسواهم. وقد دعمت هذه المخرجات اعداد كثيرة من الشركات الهندية ذات العلاقة بتكنولوجيا المعلومات. وقد أدت حصيلة ما تقدم إلى أن تصبح صناعة البرامجيات من بين أهم سمات الاقتصاد الهندي عموما وقطاع الخدمات خصوصا, وكذلك من بين أهم الصادرات الهندية وبقيمة بلغت نحو 5 مليار دولار في عام 2008. أما قيمة صادرات الهند من قطاع تكنولوجيا المعلومات فقد بلغت في عام 2019 نحو 70 مليار دولار, لذا يسهم قطاع الخدمات الذي يجمع بين تقانة المعلومات والبرامجيات بنحو 53.7% من مجمل الناتج المحلي الإجمالي.

وآما على الصعيد التكنولوجي, فالهند تتميز بتقدمها الواضح فيه. ويرد ذلك إلى توافر الكفاءات المؤهلة من علماء ومهندسين وفنيين وسواهم, فضلا عن مؤسسات علمية داعمة كمعهد الهند للعلوم ووكالة الفضاء الهندية.إن إهتمام الحكومات الهندية بتطوير هذا الصعيد أدى إلى أن تصبح الدولة الآولى المتميزه عالميا  في الرياضيات والخوارزميات وكذلك في الآساس النظري للعلوم التكنولوجية بشقيها الخشن والناعم.

4.1 المدخلات السياسية للفاعلية الهندية

تُكمن هذه المدخلات في اداء نظام سياسي يسعى إلى بناء وتطوير مدخلات القدرة وتحويل مخرجاتها إلى أفعال هادفة تخدم عملية الإرتقاء الداخلي والخارجي للهند.

والهند دولة فيدرالية تتكون من 28 ولاية و7 آقاليم ونظام سياسي برلماني ديمقراطي علماني. فدستورها, الذي دخل حيز التنفيذ عام 1950, والذي يُعد الوثيقة الآطول من نوعها في العالم, سيما أنه يتكون من 22 جزء و91 لائحة و 395 مادة, لم ينص على التبني الرسمي لديانة محددة, هذا على الرغم من الهيمنة العددية للهندوس والسيخ.

 وتوصف الهند بالدولة الديمقراطية الآكبر في العالم من حيث الحجم.. وقد كان للقيادة الهندية الدورالمهم في إرساء النظام الديمقراطي وإستمراره, فضلا عن توفير بيئة داعمة للآرتقاء قائمة على مبادئء الحكم المدني, والمساوة القانونية, والتداول السلمي للسلطة, والحريات السياسية, والتعددية الحزبية,الآمرالذي لم يحل دون الآنقلابات العسكرية, والتوترات الاجتماعية الداخلية العنيفة, وتغلغل الفساد في مفاصل الدولة فحسب, وإنما أدى إلى تحويل الهند إلى أمة تنعم بالاستقرار وتجعل من العلم أحد الآركان الآساسية لمنظومة قيمها, فضلا عن توظيفة سبيلا للارتقاء الحضاري. وتفيد التجربة الهندية أن الآنجازات الكبرى المتحققة مردها طبيعة نظامها السياسي.

وعلى الرغم من إنتقال الهند, عبرالزمان, من دولة متأخرة إلى قوة كبرى بازغة, إلا أن هذه النقلة لم تكن بدون ثمة تحديات داخلية وخارجية مهمة, وهو الموضوع الذي سنتناوله في مقالنا لشهر اذار القادم.

*آ.د. مازن الرمضاني/ استاذ السياسة الدولية ودراسات المستقبلات

العدد 125 / شباط 2022