جابر عصفور وريث طه حسين

محمد علي فرحات

ودّع المثقفون العرب جابر عصفور في الساعات الأخيرة من آخر أيام العام 2021 وودّعته شخصياً كواحد من أصدقائي الأثيرين.

كنت قرأت كتباً له ومقالات، والتقيته في القاهرة وغير مدينة عربيّة وغربيّة، وأفسحت له المجال ليطّلّ في زاوية أسبوعيّة في جريدة “الحياة” الدوليّة التي عملت رئيساً لقسمها الثقافي ثم مديراً للتحرير. وقبل أن اقرأ كتابه التأسيسي “المرايا المتجاورة: دراسة في نقد طه حسين” رأيت فيه وريثاً لعميد الأدب العربي، من حيث العناية بأساسيات الثقافة والإنصراف إلى التنوير والدفاع عنه في وجه الإرتدادات الظلاميّة لدى كثيرين ومن مستويات مختلفة، فقد استسهل هؤلاء الإستناد إلى المقولات الجاهزة وإلى قراءة متعسّفة للتراث وإلى استغلال فهمهم الخاطئ للدين بهدف عرقلة تطوّر المجتمع ومؤسساته.

ومثل طه حسين عمل جابر عصفور أستاذا في الجامعة، وقد طُرد منها بأمر من الرئيس أنور السادات في أيلول (سبتمبر) 1981، في تكرار لطرد طه حسين في عهد إسماعيل صدقي. كما توليا الوزارة المعنيّة بالثقافة، لكن عصفور لم يمضِ في المنصب سوى فترة قليلة سبقت ثورة المصريين على الرئيس حسني مبارك. بيد أنه ساهم لفترة مديدة في قيادة أو إنشاء مؤسسات ثقافية جادّة مثل “المجلس الأعلى للثقافة” و “المركز القومي للترجمة”. كان هدفهما واحداً هو التأصيل والتحديث، وفي الطريق إلى الهدف كان لا بد من معارك يوميّة من أجل التنوير. وتوسّلا لذلك التعليم الجامعي والندوات والكتابة في الصحف وإنشاء منابر نموذجيّة مثل مجلة ” الكاتب المصري” الشهريّة التي أصدرها طه حسين في أربعينات القرن الماضي، ومجلة “فصول” للدراسات الأدبية التي أصدرها جابر عصفور ولا تزال تصدر فصلياً. وقد عُني الناقدان بتجاوز حدود مصر نحو تقويم الإبداع في بلدان عربيّة أخرى، وكذلك في الإنفتاح على الثقافات الأجنبية وتقديمها نقدياً للقارئ، وتشجيع ترجمة الأعمال العالمية الحديثة وليس الإقتصار على الكلاسيكيات. ونشير هنا إلى أبرز مؤلفات جابر عصفور: “مفهوم الشعر”، “أنوار العقل”، “زمن الرواية”، “ضد التعصّب”. وأهم ترجماته: “عصر البنيويّة”، “الماركسية والنقد الأدبي”، “اتجاهات النقد الأدبي”.

ولما كان النقد يستحضر خصوماً أكثر مما يستحضر قراء مسالمين، فإن طه حسين وجابر عصفور أثارا عواصف في جماعات المثقفين وفي المؤسسات التقليدية في مصر وخارجها، وقد كان الإسلاميون المتعصّبون ينتظرون صدور أي كتاب أو أي مقال لهذين الناقدين ليصبّوا جام غضبهم أكثر من اللجوء إلى ما يمكن تسميته نقد النقد. وقد أثار طه حسين حفيظة الأزهريين في البداية ولحق بهم “الأخوان المسلمون” الذين احتكروا ويحتكرون مند عقود الدفاع عن الثقافة التقليديّة ومجابهة محاولات التحديث، وهم يمارسون هذه المهمّة إلى وقتنا الحاضر، وإن كان مستوى أدائهم يتراجع لينحصر في التشكيك بالإنتماء الوطني أو الديني، وقد يصل إلى الشتائم مبتعدين مسافات عن الموضوعيّة وعن الأمانة العلمية. لقد هوجم طه حسين في دينه بعد كتابه”في الشعر الجاهلي” كما هوجم في وطنيته في غير معركة أدبية. ووصل الأمر ببعض الإسلاميّين والقوميين المتعصبين إلى اعتبار مجلة “الكاتب المصري” منبرا إسرائيلياً قبل إنشاء دولة إسرائيل، فقط لأن منتجيها هم تجار ورق يهود مصريون من آل هراري. وربما استفز هؤلاء المهاجمين أن المجلة كانت تنشر لكتّاب أجانب من بينهم جان بول سارتر وروجيه كايوا مقالات خاصة بها ، وهذا مخالف لعادة النشر في تلك المرحلة حيث كانت مقالات الأجانب تترجم عن أصلها في مجلات أجنبية. إمّا جابر عصفور فقد تكسرت النصال على النصال في الهجوم عليه لأن “الأخوان” كانوا في ذروة انتشارهم ، وقد وصل الأمر إلى انتخاب أحد قيادييهم التعساء محمد مرسي رئيساً للجمهورية، فبدوا معه قاصرين عن تولي مسؤولية الحكم، وأفلتوا المجتمع للجهلة المسلحين يعبثون به حرقاً وقتلاً. وبهذا تركّز معظم كتابات جابر عصفور على مواجهتهم والدفاع عن الشعب المصري وثقافته ومصالحه الأساسية، مستنداً إلى أن الدولة المصرية ذات تجربة عريقة وعميقة لا يستقيم أمرها مع خفة “الاخوان” في إدارة الشأن العام.

 وإذ يغيب جابر عصفور ملتحقاً بطه حسين وكوكبة أعلام الثقافة في مصر، نشعر بفقدان مضاعف، فالنتاج الثقافي وتفاعله بين الكاتب والمتلقّي في الجامعة وفي المجال العام يمرّ الآن في مرحلة غامضة، نجد تعبيراتها في حياة العزلة التي يفرضها إنتشار كورونا وما يماثله في أنحاء العالم، عزلة تتراجع معها القراءة الجادّة وتغيب تجمعات النوادي والمراكز الثقافية والمؤتمرات المتخصصة. ويؤدي التباعد إلى تعميق الفردانية وانزياحها عن الحوار نحو التأمّل الكئيب. هذا الوضع المستجد الذي لم تتضح معالمه الكاملة بعد، نراه يفسح في المجال لطغيان المادة الخفيفة التي تنشرها المواقع الإلكترونية العربية، ولإحلال اليوتيوب مكان الكتاب مقدماً نجوماً قليلي الثقافة يفرضون جهالتهم وعصبياتهم وأحيانا عدوانيتهم على المتلقّي الأعزل الذي يضطر لإستقبالهم لعدم وجود بديل.

نخسر ناقداً كبيراً ونعيش مرحلة حرجة تغيب فيها آليات الإبداع والنقد، فكأن الكورونا تتحالف مع جهالة “الاخوان” ومن يماثلهم لتضرب ما أسس المثقفون المستنيرون طوال قرن أو أكثر.

العدد 125 / شباط 2022