وسواس (يوميّات عربيّة) لثناء عطوي

بيروت من ليندا نصار

      “وسواس”(يوميّات عربيّة) كتاب للصحافية والكاتبة ثناء عطوي وقد صدر عن منشورات المتوسط إيطاليا وهي التي شهدت الحرب اللبنانيّة حيث شكّلت نقطة اختلاف في حياتها وجعلتها تعرف معنى أن تكون صحافيًّة على خطوط النار. فعن أيّ نوع من الوساوس تتحدّث؟ تراه  الحذر أو الخوف أو أنّه وسواس العقل أو الزمن أو أنّه وسواس الضمير الإنسانيّ أو  ظلّ الإنسان الذي يرافقه عبر الزمان ويمتزج بمشاهد الحياة؟ أو لعلّه أيضًا ضيق من صخب الحياة  وحالة من اللااستقرار الفكريّ والنفسيّ الذي يأخذ المبدع العربيّ في بحثه المستمرّ عن هويّة تائهة في دوّامة من الأفكار؟ أو أنّه الوقوع في فخّ الذاكرة في أثناء التفاعلات المتوترة للكتابة؟ كلّها أسئلة تدفع القارئ إلى التفكير في ماهيّة الوسواس وتأثيره في حياة الإنسان.

    تمثّل ثناء عطوي صورة المرأة المتمردة التي تواجه التحدّيات وهي تعرض تجربتها وتتحرّك في إطار جماعيّ في ظلّ سطوة الظروف المحيطة مقاوِمة إياها بالكتابة. وكأنها تقف بعد سنوات خارج الأحداث لتتأمّلها وتسترجع كل ما يمكن أن يقال. إنها الذاكرة المؤجلة التي أطلق سراحها في نصوص إبداعيّة.  كما تشتغل الكاتبة على تجريد الواقع

الكاتبة ثناء عطوي

المرير خلال مرحلة الحرب لتفسح المجال للذات بأن تقول كل شيء، وتضع قارئها في مواجهة الخوف الوجودي الذي تمثّل على شكل وسواس تلطّف من حضوره وتتآلف معه ليسير معها في حركة متوازية من بداية الكتاب وحتى نهايته.

     تكتب ثناء عطوي سيرة نفسيّة ذاتيّة من منظار شخصيّ دقيق. إنها تستعيد يوميّات من الزمن الماضي أو لعلّها تبحث عن أحداث وسط ركام الذاكرة لتكتب سيرتها المؤجّلة قبل أن تلحقها الأعطاب فتسقط منها الأحداث سهوًا. تتماهى الكاتبة مع الوسواس ليصبح ظلّها وليس مجرّد حالة تصيب الإنسان كما يسميه علماء النفس، وتكتب عنه من المنظور النفسي ليجد القارئ نفسه أمام تحليل عميق إذ توظّف  ثقافتها واختصاصها في علم الاجتماع وتستفيد من كونها قارئة لتقديم معرفة للقارئ وتترك له خيارات التأويل.

      في نصوصها تعبير عن الإحساس المؤلم الذي يطلّ من نافذة الذاكرة حيث تتكوّر على أحداث مرّت بها وكأنّها تعيد سردها مرمّمة ثقوب الذات بأسلوب فنيّ تتداخل فيه سيرتها الذاتية مع الحرب اللبنانية كونها صحافية قامت بأخطر المهمّات، وغامرت بحياتها تحت القصف والدمار ورافقت الأحداث والشخصيات، وعاشت لحظات قاسية في معظمها. إنّه الموت الذي كان يطلّ عليها بنظرة الشؤم ليؤجّل ضحاياه في كلّ مرة تواجهه وتتصدّى له لتكون وفيّة لعملها الصحفيّ حتى الرمق الأخير وتنتصر للحياة والإبداع.

    إذًا يبدو أنّنا أمام لوحة مؤلّفة من عدّة صور إنها صورة داخل صورة، إنه تشخيص المجرّد فهذا الوسواس الذي رافق الكاتبة في رحلتها الزمنية اتّخذ طابعًا جديدًا، فتلجأ الكاتبة إلى البحث عن أصله فقد بات رفيقًا بل حتى نصفنا الآخر كما تقول.

“نجلس متقابلين واحدنا أمام الآخر، رأسه أعلى من رأسي بقليل، يخلع نعليه، ويتسلّق جسدي مرتفعًا كي يرى ما في داخلي./ يشاكسني يتّخذ عني بعض القرارات./ إنّ الوسواس والزمن سيّان، هو هويّة سيكولوجيّة، نحمل ذاتًا منشطرة في ما بيننا، بناءين ذهنيّين، في كون وجوديّ متوازٍ.

الوسواس حدودنا الفاصلة مع العالم، أساسه عضويّ، يلازمنا مثل أفكارنا، مثل ظلّنا وانعكاس ذواتنا.”

” ربّما هي تولد معنا، بل ربّما هي قدرنا، وليست عقابنا.

هي نصفنا الآخر، وأقرب منّا إلينا”

    تتحدّث الكاتبة عن المدن بوصفها مكانًا للضياع أو فقدان الهويّة أو العلاقات الزائفة. سمّت الشوارع على طريقتها فبيروت صارت غريبة عنها. تتأثّر بالجدران المليئة بالثقوب تتأمّلها كمن عاد من المنفى بعد انتهاء الحرب، وكأنّها تعيش في غربة مستمرّة فهي التي لن تنسى يومًا أنّها كانت تترك أشياءها وأغراضها وألعابها على أمل العودة ولا تعود، وصارت “اللاعودة” حلًّا بالنسبة إليها لتصبح “الحلول بقيمة العجز”.

  ثناء عطوي التي عاشت دراما التنقلات المفاجئة كما تسمّيها ترحل عبر المراحل العمرية، فمن طفلة إلى مراهقة فامرأة تأخذ معها وساوسها وقد تمكّنت من تحويل رهاب التنقّل إلى حالة من التغيير الإيجابيّ والتّطلّع إلى البدايات الجديدة.

    ثمّة علاقة قويّة بين الكاتبة والصور فتحكي هنا  عن جمعية مدنيّة في بيروت لبورتريهات أناس مجهولين كانوا قد أمضوا يومهم الأخير عشية الحرب في الاستوديوهات وإذا بها ترى صورتها معلّقة في معرض الصور التي تحمل في ثناياها حنينًا يدعو إلى العودة للزمن الماضي وحنين العودة إلى المكان الذي احتضن الكاتبة في طفولتها، ما يأخذها إلى تلك الذكريات الطفولية حيث كانت في استوديو المصوّر الأرمني ليلة الحرب..

“الصور هي الأخرى علاقة، كالتدريب على الماضي، أودّ لو تمارس الصور الذهاب والإياب لكي تفسح المجال للعودة أو تتخلى عن صرامتها، صورنا على عكس أصواتنا تمامًا نحبّها ونألف ملامحنا فيها لكننا إجمالًا لا نملك رأيًا في انتقاء ما نحتفظ به معنا للأبد.”

     هكذا كان الأطفال يشعرون بالأمان النفسيّ في الملاجئ حيث دفء الاجتماعات بين الجيران وأهل الحيّ ففي هذه المرحلة يحاول الأهل إبعاد الأفكار المشوّهة عن أطفالهم من هنا علاقة الأمان بين المكان والإنسان تقول ثناء:”جميعنا لاجئون نفسيًّا وعاطفيًّا ومكانيًّا.” حيث ينتقل معنى الملجأ من الماديّ إلى المجرّد.

    كلّ هذه التداعيات خلقت جوًّا من الأفكار وإذا بنا أمام نوع من الرفض والقبول. فهو رفض الأفكار والأحكام المسبقة، رفض الأهل ابنهم في حالته النفسية كالمرأة التي اكتشفت ابنها مثليّ الميول أو تلك التي اعتنقت الدين المسيحي لتهرب من سلطة معيّنة…

   من هنا ينسحب الوسواس من معناه في التحليل النفسي من إعادة ترتيب الأشياء إلى إعادة ترتيب الحياة بأكملها. فهنا يرتبط الوسواس بالزمن ويتحوّل من معناه النفسيّ كنوع من انشغال تام بفكرة الاحتفاظ بالأشياء واكتنازها فيتّخذ معنى الاحتفاظ بالذكريات.

تتجلّى في هذا الكتاب حالات من البوح الواعي وإدراك ما يحدث على الصعيد النفسي خصوصًا بما شغل ذهن الكاتبة لسنوات. فإننا هنا نسير جنبًا إلى جنب مع النصوص لتتفاقم حالات القلق وثنائيّة الشعور المتناقض.

     هكذا تمكّنت الكاتبة في عملها الإبداعيّ من تحويل المشاعر من سلبيّة إلى إيجابية لاحتواء الوساس والتخفيف من أعراضه بعد استنباط الأسباب ووعيها وإدراكها. من هنا كان تأثير الحرب وكأنّ الكاتبة لجأت إلى تسوية الصراع الداخليّ بل دخلت في تسوية معيّنة مع نفسها لتقول إنّ هذا الوسواس هو نصف الآخر منها.

     تصوّر الكاتبة العلاقة البريئة التي عاشتها في طفولتها مع أصدقاء لها ترعرعت معهم من عدّة طوائف. وعن طريق السرد المتقطّع تأخذنا إلى مشاهد تدخل منها إلى لحظات عميقة من الذاكرة خلال فترة الحرب حيث تقرأ  في الجثث المهدورة قهرًا وحزنًا. إنّها لحظات البكاء بل هي الغربة الباردة التي يعيشها الإنسان أمام “برّاد الموتى” غريبة كانت في وطن تنهشه الحرب، غريبة هي أمام مشاهد جثث مقتولة تعاطفت معها إنسانيًّا وكأنّها  تحدّق جيّدًا في الوجوه لتبدع في سرد حكايات سريعة تحمل معان قوية.

من أجواء الكتاب:

“أفهم قلقك أيّها الوسواس، وأشفق على وحدتك، أفهم حاجاتك، وأعرف أنّنا أسأنا فهم بعضنا البعض مرّاتٍ عدّة. تمنيّت أحياناً أن تغادرني ولا تعود، أن تختفي ولا أقتفي لك أثراً، لكني كنت أدعو في سرّي كي تنجو، لأنّ في نجاتك نجاتي. أرغب في الحفاظ عليك مُعافى، في بقائك هنا، لأنّك خارجٌ من ضلعي، من يومياتي، راغباً بالعودة دائماً إلى ذاتك.. بل ذاتي.”

”خفيفة وساوسنا وهشة، تعيش بموازاتنا دون أن نلحظ وجودها، إذ لطالما اعتقدت أن الوساوس نحيلة ولا تشيخ، فأنا لم أعرف وسواسا سمينا، كما لا أعرف كثيرا عن عمر الوساوس، إذ يبقى منشؤها مبحثا غائما، تماما مثل موقع الفردوس ولغة أهله، أو الأشياء المهجورة التي تثير انتباهنا. ربما هي تولد معنا، بل ربما هي قدرنا وليست عقابنا، نأتمنها على الكثير الكثير، كمن يخزن شيئا خارج نفسه“.

العدد 127 / نيسان 2022