المشاهد المحتملة للسياسة الخارجية الأمريكية في عام 2043

لا جديد في القول إن التربع الأمريكي على قمة النظام السياسي الدولي الراهن لا يعني أن هذا النظام، الذي يجمع بين دول العالم، والذي نجم عن انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، وانتهاء الحرب الباردة، فضلا عن انسياق العديد من الدول شمالا وجنوبا وراء الولايات المتحدة الأمريكية، قد تحددت قيمه، ومعالمه، وهياكله، وعملياته على نحو ثابت ومستقر، ومن ثم صار أمريكيا.  فالمعطيات الدولية الراهنة لا توكد منطوق الفرضية القائلة: أن التمركز الشديد لمدخلات القوة والنفوذ في دولة عظمى واحدة يسمح لها بإدامة تربعها المنفرد على قمة الهرم الدولي. ويُقصد بهذه الدولة الولايات المتحدة الأمريكية. وتكمن هذه المعطيات الدولية في الآتي باختصار:

 أولا، استمرار تصاعد التأثير الدولي لثمة قوى كبرى وأخرى صاعدة ولاسيما الصين، وروسيا الإتحادية، فضلا عن الهند، واليابان، وألمانيا الاتحادية، البرازيل، وجنوب افريقيا.

ثانيا، تمتع ثمة قوى دولية كبرى بجاذبية ثقافية ومادية خاصة في اقاليمها الجغرافية ومحيطها تتيح لها بناء تكتلات جغرافية كبرى بقيادتها وبمخرجات تفضي إلى رفد دورها الدولي بمدخل مهم مضاف.

ثالثا، انفتاح النادي النووي الدولي على مجموعة دول أضحت تمتلك السلاح النووي من غير الدول دائمة العضوية في مجلس الآمن الدولي كإسرائيل وكوريا الشمالية، وكذلك على تلك الدول التي تتوافر على القدرة المعرفية والتكنولوجية لإنتاج السلاح النووي، ولكنها لا تتوافر على الإرادة السياسية لصناعته لأسباب دستورية أو سياسية خارجية، كألمانيا واليابان، فضلا عن ثمة دول أخرى قد تكون برامجها النووية المتقدمة قد ساعدتها واقعيا على صناعة السلاح النووي ولكن دون الإعلان الرسمي عنه خشية من رد الفعل الدولي.

رابعا، المخرجات السلبية لتجربة جانحة كورونا. فهذه المخرجات اكدت عدم قدرة أية دولة، ومهما كانت قدرتها الذاتية على الفعل عالية، على التصدي منفردة لمثل هذه الجانحة عالمية التأثير، ومن ثم بروز الحاجة إلى أطر مؤسسية داعمة للجهد الذاتي الرامي إلى الارتقاء بالاستجابة إلى مستوى تحديات عالم اليوم.

خامسا، استمرار نمو الرفض الدولي لمشهد القطبية الأحادية، ضمنا و/أو صراحة.

وتتفاعل هذه المعطيات الدولية مع معطى أمريكي داخلي مهم جدا، وهو أن الفاعلية الداخلية للولايات المتحدة الأمريكية التي هي أساس فاعليتها الخارجية/الدولية بدأت تتجه نحو التراجع. أو كما قال المؤرخ الأمريكي، بول كنيدي: “… أن أمريكا قوة في طور الانحدار.”

وتنبع أهمية موضوع هذا المقال من أهمية السياسات الخارجية للدول المؤثرة إقليميا و/أو عالميا بحد ذاتها. فمع أن مجمل الأفعال السياسية الخارجية لكل من هذه الدول والموجة نحو دولة أو دول محددة أخرى، هي التي تكون عموم سياستها الخارجية، إلا أن هذه الأفعال أضحت، وعلى نحوٍ لم يكن معروفا سابقا، تترك مردودات مؤثرة، بنسب ودرجات مختلفة، في مصالح بعضها البعض الآخر، وبمخرجات تفضي إلى نوعين من التفاعلات الدولية: فأما هي تفاعلات تعاونية و/أوهي تفاعلات صراعية. فبينما تدفع الأولى بالدول المتعاونة إلى تطوير أفاق تعاونها ومضامينه وديمومة حالة السلام فيما بينها إدراكا منهما لفوائدها المتعددة، تفضي التفاعلات الصراعية إلى تكريس حالة عدم الثقة وكذلك الخشية المتبادلة وبمخرجات قد تدفع إلى استخدام القوة العسكرية من قبل تلك الدولة التي تتمتع بتفوق عسكري على سواها. لذا من نافلة القول أن جل ما يجري في العالم هو حصيلة لتفاعل مضامين الأفعال السياسية الخارجية للدول المؤثرة حيال سواها وغيرها أيضا.

وفي ضوء ما تقدم، سينصرف مقالنا هذا إلى الإجابة عن السؤال التالي: ما هي المشاهد المحتملة التي قد تقترن بها السياسة الخارجية الامريكية في زمان المستقبل المتوسط الممتد من الآن إلى عام 2043؟

وقبل البدء بالإجابة عن هذا السؤال، لابد من تحديد المقصود بمفهوم المشهد والمشاهد لعدم دقة استخداماته في العموم. عندنا يعد المشهد، بصيغة المفرد, هو: اجتهاد علمي مشروط يعمد إلى توظيف العلم والخيال العلمي سبيلا لوصف كيفية تبلور المستقبلات البديلة لموضوع الاهتمام في زمان لاحق انطلاقا من وضع ابتدائي سابق أو راهن أو مفترض اعتمادا على حقائق الماضي ومعطيات الحاضر المرئية والجنينية. وبهذا المعنى يعبر كل مشهد، بحد ذاته، عن خريطة افتراضية للطريق تصف احتمالات التطور المستقبلي لحاضر موضوع الاهتمام.

من المرجح ان تجابه  السياسة الخارجية الآمريكية خلال الزمان أعلاه بمعضلة الخيار بين المشاهد المستقبلية التالية:

أولا، مشهد العزلة الخارجية النسبية

يقصد بهذا المشهد انكفاء الدولة الأمريكية على ذاتها، ومن ثم عدم التفاعل مع الدول الأخرى إلا على نحوٍ محدود ونطاق ضيق. وينطوي التاريخ الأمريكي على امثلة تؤكد أن هذه الدولة لم تتردد عن تبني هذا المشهد في أوقات مختلفة. ولنتذكر مثلا مبدأ مونروا في عام 1832, الذي افضى وحتى الحرب العالمية الأولى في عام 1914 تقريبا إلى عدم انغماس الولايات المتحدة الأمريكية في التفاعلات الآرؤبية أنذاك عدا التفاعل مع دول أمريكا اللاتينية لمنع إعادة استعمارها أوربيا، وبضمنه عدم القبول بالتدخل الأوربي في شؤون الدول الامريكية. ومما ساعد على تبني هذا المشهد في ذلك الوقت هو عدم تحول الولايات المتحدة الآمريكية إلى دولة كبرى بالمقارنة مع الدول الأوربية، كبريطانيا واسبانيا والبرتغال.

كما أن التراجع الأمريكي النسبي في سبعينيات القرن الماضي رتب نوعا من العزلة عن الانغماس في الشؤون الدولية. وتُعد سياسة الاعتماد على الوكلاء، الممتدة إلى الآن، إحدى نتائج هذا التراجع.

واضافة إلى ذلك لا يخلو المجتمع الأمريكي، هو الآخر، من نخب وجماعات تدعو بين الحين والآخر إلى الانكفاء على الذات والانصراف الى معالجة المشاكل الداخلية المتعددة.

ما تقدم، يدعم مشهد العزلة الخارجية النسبية أيضا مدخلان اساسيان: أولهما، غياب التهديد، المباشران غير المباشر، للآمن القومي الأمريكي، بمفهومه المركب العسكري والاجتماعي. وثانيهما، أن القوى الكبرى ذات العلاقات المتوترة مع الولايات المتحدة، وخصوصا الصين وروسيا الاتحادية، لا تتطلع حاليا في الآقل إلى أداء الدور الروسي السابق، هذا لغياب القدرة أو الارادة .

ومع ان خيار العزلة الخارجية النسبية (او الانكفاء على الداخل) يجد ما يبرره امريكيا، إلا أن احتمالية تبنى السياسة الخارجية الأمريكية لهذا المشهد، هي احتمالية غير مرجحة. ومرد ذلك يكمن، من جانب، في تأثير خصائص عالم اليوم الذي يتميز بالتغيير السريع، والتقلب، واللايقين، والتعقيد، والغموض، فضلا عن أنه اضحى صغيرا، ومتشابكا. ولهذه الخصائص لم تعد الدول المعاصرة، ولاسيما المؤثرة صاحبة المشاريع، تستطيع الانكفاء على ذاتها، ومن ثم تجنب تفاعلها مع غيرها. فكما كانت العقود الأخيرة من القرن العشرين، كذلك لا يسمح عالم القرن الحادي والعشرين بالعزلة السياسية الخارجية إلا نادرا، أو مؤقتا.

أما من الجانب الآخر فمفاده غياب تلك الشروط المتفق عليها علميا التي تبرر الانكفاء النسبي على الداخل. ولعل من بين أبرزها مثلا عدم انتشار المصالح الحيوية لثمة دولة على نطاق عالمي واسع. ويقف بالضد من هذا الشرط واقع الانتشار الراهن للمصالح الامريكية، على اغلب المناطق الجغرافية الحيوية في العالم وهو الانتشار الذي يبرر الحاجة إلى حمايتها عبر أليات القوة الأمريكية المتاحة.  لذا يتكرر القول الأمريكي الرسمي ال ذي يفيد أن:”… أية محاولة نقوم بها لعزل أنفسنا، عسكريا وسياسيا، ستكون خرقاء.”

ثانيا، مشهد تغليب التعاون على الصراع الدولي

 منذ ان وجدت السياسة الدولية، جراء مخرجات مؤتمر وستفاليا في العام 1482م، وهي تتأسس على ثلاث ظواهر هي: التعاون, والتنافس, والصراع بين الدول. لذا يًعد التعاون ظاهرة دولية قديمة. بيد أنها لم تأخذ مضامين واشكالا جديدة، إلا بعد اكتساب السياسة الدولية الخصائص التي تتميز بها الآن والمشار اليها في أعلاه.  فالتداخل والتشابك في المصالح، فضلا عن تنوع التحديات الدولية، أفرز إدراكا عالميا مؤداه أن الدول أضحت، في العموم وبنسب متباينة، غير قادرة على حل مشاكلها اعتمادا على إمكاناتها الذاتية فقط., وإنما بالتعاون أيضا مع سواها. ومن هنا ارتقى التعاون الدولي، خلال الزمان السابق، إلى مستويات أرحب واوسع لم تكن معروفة سابقا. وفي ضوء المزايا والمنافع التي صارت تقترن بالتعاون الدولي، الثنائي أو الجماعي، من غير المحتمل تراجع الاتجاه التعاوني الدولي الراهن أو توقفه.

وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية دوله عظمى، إلا أنها تعاني من مشاكل اقتصادية واجتماعية متعددة، وانقسامات ديموغرافية متصاعدة. وهذه المشاكل بأنواعها هي التي دفعت الاقتصادي العربي، رمزي زكي، في وقته إلى أن يتساءل” هل انتهت قيادة أمريكا للمنظومة الرأسمالية العالمية.؟ “

صحيح أن فترة الصراع الأمريكي-السوفيتي خلال الحرب الباردة قد بررت الكلفة التي كان على المجتمع الأمريكي تحملها جراء السياسة الرسمية التي رمت إلى التفوق النوعي على الاتحاد السوفيتي السابق. وصحيح أيضا أن انتهاء الحرب الباردة دفع إلى تمركز الاهتمام الأمريكي على دعم الفاعلية الداخلية سبيلا لدعم الفاعلية الخارجية، إلا أن تحقيق هذا الهدف تطلب تطوير التعاون الدولي مع الدول الصديقة والمنافسة على السواء. بيد أن الحرص، عبر الزمان، على أن يكون القرن الحالي أمريكيا، كما قال بذلك، وللمرة الأولى، الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الآب، أدى إلى ألا تكون استراتيجية التعاون هي التي تميز السياسة الخارجية الامريكية حيال الدول المناهضة و/ أو المنافسة، بل وحتى الصديقة.

وجراء تجربة زمان ما بعد انتهاء الحرب الباردة، نرى أن المستقبل المتوسط قد لا يقترن أمريكيا بتغليب مشهد التعاون الدولي على مشهدي المنافسة والصراع الدوليين. ومرد ذلك تأثير مجموعة مدخلات مهمة منها، مثلا، التأثير الممتد للمركب الصناعي-العسكري الأمريكي في صناعة السياسة الخارجية، فضلا عن الخشية الرسمية وغير الرسمية من مخرجات الاثار الناجمة عن عدم الارتقاء بالاستجابة الأمريكية إلى مستوى التحديات الدولية لهذه السياسة، ناهيك عن الادراك الأمريكي، الممتد من حيث الزمان، بجدوى توظيف القدرات الذاتية، سواء بالترغيب و/أو بالترهيب العسكري أو الاقتصادي، سبيلا لتأمين الانسياق الدولي وراء اهداف الاستراتيجية الكونية الأمريكية.

ثالثا، مشهد الانغماس المكثف في السياسة الدولية

باستثناء تلك الفترات من الزمان التي اقترنت بانكفاء الولايات المتحدة الامريكية على داخلها، تميزت السياسة الخارجية الأمريكية، ولا سيما بعد الحرب العالمية الثانية (1945-1939)، بخاصية الانغماس المكثف في التفاعلات الدولية. وقد أفضى إلى هذا الانغماس خلال فترة الحرب الباردة تأثير مدخلين أساسيين ومتفاعلين، هما، أولهما، التطلع نحو ضمان المصالح الحيوية والمتعددة للأمن القومي الأمريكي، وثانيهما، الصراع مع الاتحاد السوفيتي السابق.

 ولم يكن هذا الانغماس بمعزل عن تحمل اكلاف عالية كانت وراء تلك المطالب الداخلية التي دعت إلى إعادة تعريف المصالح الحيوية الأمريكية، ومن ثم تحديد كثافة الانغماس في التفاعلات الدولية.. بيد أن هذه المطالب لم تجد استجابة عملية. ويرد ذلك إلى أن الهياكل المؤثرة في صناعة القرا الأمريكي كانت ترى في الصراع مع الاتحاد السوفيتي السابق هاجسا أمنيا أساسيا ومدخلا مهما للحيلولة دون تأكل وحدة المعسكر الغربي وتراجع القيادة الأمريكية له. ولتبرير هذا النزوع، فقد قال الرئيس الأمريكي الأسبق، بوش، في وقته: ” … أن الخلافات بين الحلفاء ستبرز للعيان أكثر فأكثر مع انخفاض حدة الهاجس الأمني الذي كان وراء وحدة للحلفاء…”

 وقد ترتب عن انتهاء الحرب الباردة استبدال مرجعية العداء للشيوعية بمرجعية النظام الدولي الجديد وديمومة القيادة الأمريكية له، الآمر الذي جعل هذه المرجعية صارت هي الأساس الجديد لتبرير سياسة الانغماس الأمريكي المكثف في التفاعلات الدولية. وبهذا الصدد قال ايضا الرئيس الأمريكي الأسبق، بوش، في تسعينيات القرن الماضي: “… ففي التسعينيات، كما في معظم عقود هذا القرن، لا بديل عن الدور القيادي لأمريكا. ومسؤوليتنا حيوية ولا مفر منها حتى في العصر الجديد.” ويفيد واقع السياسة الخارجية الأمريكية أن الرؤساء الأمريكيين لم يترددوا لاحقا حتى عن استخدام القوة العسكرية، وخلافا لميثاق منظمة الآمم المتحدة، لتأمين هذ الدور. ولنتذكر الاحتلال العسكري الأمريكي لأفغانستان عام2001 والعراق عام 2003. كما أن الدعم الأمريكي غير المسبوق لأوكرانيا لا يخرج عن السياق الرامي إلى تأمين هذا الدور.

 وقد وجد الأساس الجديد لسياسة الانغماس الأمريكية لاحقا دعما مضافا جراء اتجاه العلاقة الامريكية مع الصين والاتحاد الروسي خصوصا إلى الاقتران بخاصية التنافس الحاد. وتؤكد تجارب سابقة أن التنافس الحاد بين دولتين يمهد عادة لاندلاع الصراع بينهما، خصوصا عندما تعمد إحداهما إلى محاولة اقصاء الثانية وحرمانها من تحقيق ثمة شيء مرغوب به من قبلها. ففي هذه الحالة فقط تتحول المنافسة إلى صراع يستوي ومضمون اللعبة الصفرية (Zero-Sum-Game)، بمعنى الربح لطرف والخسارة لطرف أخر، وبإجراءات ذات طبيعة اكراهية/ ترهيبية تتضمن التهديد باستخدام القوة الصلبة أو استخدامها. ومن المحتمل ان تتحول العلاقة الأمريكية- الصينية إلى علاقة الصراع عندما يتجاوز الاقتصاد الصيني مثيله الأمريكي في العقد الثالث من هذا القرن، كما مخطط له صينيا، وعندما تبدأ المعطيات الدولية بالإشارة إلى التقدم الصيني باتجاه قمة الهرم السياسي الدولي وتصاعد وتيرة الهبوط الأمريكي منه.

وفي ضوء نوعية العلاقة الطردية الموجبة بين نوعية الفاعلية الداخلية للولايات المتحدة الأمريكية في عام 2043 وفاعليتها الدولية، من المحتمل أن لا تعمد عموم ا السياسية الخارجية الأمريكية إلى الاقتران بتوجه محدد يُعبر عن أحد المشاهد أعلاه, وانما إلى الانطلاق من توليفة مشاهد تختلف نوعية مضامينها باختلاف طبيعة العلاقة الامريكية السائدة مع هذه الدولة أو تلك. فالعلاقة عندما تكون من نوعية علاقة التعاون أو الصراع أو تجمع بين التعاون والصراع، عندها من المرجح ان تحدد نوعية هذه العلاقة طبيعة المشهد الذي ستقترن به السياسة الخارجية الأمريكية حيال هذه الدولة أو تلك.

في مقالنا للشهر القادم سننصرف إلى بيان: كيف يحتمل ان يكون تعامل الولايات المتحدة مع الدوائر الأساسية لسياستها الخارجية ولاسيما في أوربا، وشرق اسيا، وعالم الجنوب وخصوصا الوطن العربي.

  • أستاذ العلوم السياسية/ السياسة الدولية ودراسات المستقبلات