حين لا يكفي المال ولا تكفي الثروة

رؤوف قبيسي:

تابعت في الأشهر الماضية جلسات محاكمة جزيلان ماكسويل (أو غيلين ماكسويل كما يلفظ اسمها في الإنكليزية) التي كانت الصديقة الحميمة للثري اليهودي الراحل جفري إبستين، وهذا مات منتحراً في سجنه في الولايات المتحدة. ليس من عادتي أن اهتم بالشؤون المتصلة بالحياة الشخصية للناس، لكن قضية غيلين ماكسويل أثارت اهتمامي، لأني سبق وكتبت الكثير من الكلام في صحيفة “الحياة” اللندنية عن ابيها الثري اليهودي الراحل روبرت ماكسويل، الذي كان أحد اقطاب الصناعة الإعلامية الكبار في بريطانيا والعالم، وانتهت حياته في العام 1991، جثة هامدة بالقرب من يخته الخاص في مياه جزر الكناري. يومها أفيد رسميا أن ماكسويل مات غرقا، وسرت شائعات أن جهاز استخبارات دولة كان وراء اغتياله، وما زال سر موته غامضا إلى اليوم، وقد تبين بعد رحيله أنه كان رجل أعمال غشاشا، سرق أموالاً طائلة قدرت بمئات الملايين من الدولارات من صناديق التقاعد العائدة لموظفي إمبراطوريته الإعلامية، ليغطي خسائر بعض شركاته الخاصة، وانه احتال على مؤسسة مالية سويسرية بقرض قيمته 100 مليون دولار، استخدمها كأصول للحصول على مزيد من القروض.

اهتممت بقضية غيلين ماكسويل بدافع من أخذ العبرة، وكيف أن الناس الأذكياء والأغنياء والمشاهير يرتكبون في حياتهم أخطاء مميتة من دون حساب لذيولها. وكيف أن مكسويل رتبت عمليات إغواء الفتيات القاصرات لممارسة الجنس مع إبستين، ومع من كان يرتاد بيوته الفخمة من الشخصيات المعروفة.  لم يكتف أبستين بشهرة واسعة في بلاده الولايات المتحدة، وما جمعه من ثروة طائلة، بل ذهب بعيدا في خرق القوانين، وشاءت الظروف أن يتعرف إلى غيلين، امرأة معروفة في أوساط المجتمعات “المخملية” في لندن ونيويورك وباريس، عرفته بدورها إلى كثير من الشخصيات العالمية، منهم الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، والرئيس دونالد ترامب، والأمير أندرو ابن الملكة إليزابيث، وهذا الأخير طاولته الفضائح بعد أن رفعت عليه فتاة دعوى قضائية في محكمة فيديرالية في نيويورك، واتهمته بأنه أغواها وهي بعد فتاة مراهقة، في السابعة عشرة من عمرها، وقدمت محاميتها للمحكمة صورة يظهر فيها الأمير أندرو ويده حول خصرها في موقف مثير. رفض الأمير هذه الاتهامات وأنكرها وطالب بهيئة محلفين كإجراء ضد اتهامات صاحبة الدعوى، لكنه اعترف بأنه قابل إبستين في العام 1999، وأنه تردد الى داره غير مرة، وأنكر في الوقت نفسه إن كانت له علاقة مع المراهقات الصغيرات التي كان أبستين يعاشرهن في منازله الفخمة. قال الأمير أندرو أيضاً إنه عرف غيلين، لكنها لم تكن “صديقة مقربة” وفق قوله، وانتهى الحكم بتسوية مالية كبيرة للفتاة قدرت بملايين الدولارات.

يتساءل المرء وهو يسمع اخبار هؤلاء الناس أمثال أبستين وماكسويل والأمير أندرو: ألم يكن يكفي ما كانوا يتمتعون به من ثروة وشهرة ليكونوا سعداء، من دون أن يرتكبوا هذه الآثام المميتة وقد أودت ببعضهم إلى السجن ولوثت سمعتهم، أم هو الجشع في النفس البشرية التي لا تعرف الحدود؟، في هذه الدنيا الغريبةـ يلجأ بعض الناس إلى ممارسات غريبة من دون احتساب عواقبها، وأثرها على سمعتهم، وعلى علاقاتهم مع عائلاتهم واقاربهم وأصدقائهم، علما أن الأمير أندرو قد خسر للتو ألقابه العسكرية، وأعاد لأمه الملكة ألقابه الملكية، ومنها لقب صاحب السعادة.

الغريب في قضية غيلين ماكسويل أنها لم تتعلم من سيرة أبيها الذي مات مذموما، وأشقائها الذين كانوا يعملون في إمبراطورية أبيهم، وتعرضوا هم أيضاً لمحاكمات مضنية بعد رحيله، حتى صار اسم عائلة ماكسويل في بريطانيا مساويا لما هو بشع وسيء. يقولون غلطة الشاطر بألف غلطة. يصح ذلك على كثير من الناس الذي يعتمدون قرارات تؤدي في النهاية إلى خسارتهم المال وخسارة مناصبهم، وحتى خسارة حياتهم، إذا كانوا من أهل السياسة، مثل الزعيم الألماني الراحل أدولف هتلر، والزعيم الإيطالي الراحل موسوليني، وفي العالم العربي صدام حسين، ومعمر القذافي، وعلي عبد الله صالح، وغيرهم من الزعماء في الشرق والغرب.  ينطبق ذلك على جفري إبستين نفسه، الذي كان خبيراً مالياً ذكيا تمكن من تحقيق ثروة قدرت بمئات الملايين من الدولارات، جعلته يعيش حياة أشبه بالأسطورة، وعلى غيلين ماكسويل نفسها التي كانت سيدة اجتماعية تربطها علاقات مع كبار القوم في فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، وتمضي حياتها تتنقل بين الدور والقصور، وفي أفخم الأندية وأرقاها، وها هي الآن رهن السجن، ومعرضة للبقاء فيه مدى الحياة، في حال جاء حكم المحكمة النهائي في غير مصلحتها. ينطبق ذلك أيضا، وبنوع خاص، على ابيها روبرت ماكسويل، الذي كان في غاية الذكاء والنشاط، يتحدث لغات عدة وبطلاقة. وقبل سنوات صدر كتاب عنوانه ” لغز ماكسويل وسقوطه ” الفه جون برستون، وفيه يحكي القصة الكاملة لهذا الرجل اللغز الذي ولد في تشيكوسلوفاكيا لأبوين يهوديين ماتا على يد النازيين في أثناء الحرب العالمية الثانية، ثم هاجر إلى بريطانيا والتحق بالجيش البريطاني ودخل معترك السياسة، وأصبح عضواً في البرلمان عن حزب العمال، ورجل أعمال ناجحاً، يملك عدداً من الصحف وشركات النشر، لتنتهي مسيرته تجسيداً مؤلماً للجشع والفساد. وفي حال ابنته غيلين كل شيء كان متهيئا لها منذ ولدت في العام 1961، إذ كانت الابنة المدللة والمفضلة لأبيها، وفق ما جاء في مذكرات والدتها بيتي ماكسويل التي صدرت عام 1964. لكن بعد إدانتها من قبل محكمة نيويورك، بدأت تظهر تفاسير كثيرة حول طبيعتها وسلوكها وبأنها امرأة يصعب فهمها. وبالرغم من أنها عاشت حياتها تحت الأضواء، إلا أن التفاصيل الدقيقة لسيرتها الذاتية كانت دائماً ولا تزال مشوبة بكثير من الغموض، مثل سيرة حياة جفري إبستين نفسه، التي كانت هي الأخرى مشوبة بكثير من الغموض. لكن الشيء الواضح الذي لا يخالطه أدنى شك، انهما ارتكبا أخطاء مميتة بحق نفسيهما وبحق الآخرين، وبشكل يثير قدراً كبيراً من الغرابة، وعبرة لم يريد ان يعتبر من الناس كافة على تباين طبقاتهم وثقافاتهم.

العدد 127 / نيسان 2022