لا حل إلا بدولة علمانية للعرب واليهود

في أربعينات القرن الماضي وضع الكاتب اللبناني الراحل عمر فاخوري كتابه الشائق، “أراء غربية في مسائل شرقية”. أذكر هذا الكتاب الآن وأذكّر به، شهادة حول ما يحدث اليوم في قطاع غزة، تتصل بالنظرة التي يبديها المسؤولون الإسرائيليون والغربيون إلى “حماس”، والتي هي أقرب إلى أن تكون رأياً غربياً في مسألة هي شرقية وفي غاية التعقيد. هذا ما يستخلصه أي مراقب مدقّق، حين يقرأ ما يُكتب ويسمع ما يُذاع.  يقول الإسرائيليون إنهم سيخرجون “حماس” من غزة، كأن “حماس” في نظرهم كرة قدم، أو شجرة يسهل عليهم قطعها ورميها في النار. يجهلون أو يتجاهلون حقيقة مرّة، فحواها أن من المستحيل القضاء على “حماس”، حتى وإن أعدوا لها أكبر قوة على وجه الأرض. وهم إن أدركوا هذه الحقيقة المُرّة، فلن يعلنوها للملأ على أي حال، مخافة أن يظهروا بمظهر من ينجز انتصارات آنية، لكنه يعرف أنه أضعف من أن يحقق الأهداف البعيدة!

قد تتمكن إسرائيل من شلّ حركة “حماس”، وإخراجها من غزة، والاجهاز عليها كتنظيم، لكنها لن تقوى عليها كعقيدة دينية متأصلة، ومتجذرة في فلسطين، وفي كل مكان من “أرض الرسل والأنبياء”. لهذا السبب، وربما لهذا السبب وحده، سيبقى الصراع الديني في هذا الجزء من العالم مشتعلاً، وستظهر قوى فلسطينية وعربية جديدة، تستلهم المخّيل الديني، وتجّسد ما تمثله “حماس” اليوم، ولو تحت عناوين مختلفة و”أجندات” مختلفة.

تعلمنا دروس التاريخ دوماً أخذ العبر، ومن لا يتعظ بحوادث التاريخ كما يقول جورج سَانتيانا، محكوم عليه بتكرارها. في زمن ليس ببعيد، غزا الأميركيون أفغانستان وقتلوا أسامة بن لادن، فما الذي تغير؟ كثيرون ظنوا يومها أن مهمة القضاء على الإرهاب انتهت، أو أوشكت على الانتهاء، فإذا أيمن الظواهري، رفيق بن لادن، وصاحب كتاب “فرسان تحت راية النبي” يظهر على المسرح، وإذا أبو بكر البغدادي يجيء من بعده، ويعلن نفسه خليفة على “المسلمين”. اغتال الأميركيون البغدادي، وبقوا في أفغانستان سنوات، إلى أن جاء يوم رحلوا وهم يجرّون أذيال الخيبة، وعادت “القاعدة” إلى قواعدها سالمة في ذلك البلد، كان شيئا لم يكن، وتحت حكم “طالبان”!

ساذج هو الحاكم الأرعن في إسرائيل، حين يعتقد أن القضاء على “حماس” سينهي القضية الفلسطينية، وينهي ما تمثله “حماس” في وجدان الفلسطينيين والعرب. كل طفل يقتل في غزة اليوم، سيولد من رحم دمه أطفال كثر، يبثون دما جديداً في الذاكرة التي أوجدتها النكبة قبل 75 عاما، ويسيرون على دروب جُلجلة جديدة، ليعود صراع “الآلهة” في “أرض الرسل والأنبياء”، يجدد نفسه بنفسه، ويستدعي ذات الأسئلة: إلى متى ستبقى الحال على هذا المنوال؟ متى سيفهم قادة إسرائيل، ومن يؤيدهم في الشرق والغرب، أن حروبهم مع العرب لا فائدة منها، وأنها ضرب من العبث، ولن تلغي الذاكرة الفلسطينية؟

 في يوم من تسعينات القرن الماضي رأيت صبياً في بيروت، يكتب بحبر عريض على أحد الجدران، هذه العبارة “إذا كانت اميركا كبيرة فالله أكبر”. هل يمكن لمسؤول سياسي في إسرائيل، او في الغرب أن يفهم هذه العبارة حق الفهم؟! قد يفهمها سطحياً، أو إذا ترجمت له بالخطأ، لكن هيهات له ان يفهمها في العمق، وهيهات له ايضا ان يفهم الآية القرآنية التي تخاطب الناس بالقول “رزقكم في السماء وما تُوعدون”. حين قرأت القران مترجما الى الإنكليزية، وجدت عبارة “الله أكبر” مترجمة على هذا النحو God is great، في حين أن المعنى الحقيقي أبعد من ذلك، وتعني بتعبير أدق وأشمل ان “الله” أكبر من كل شيء، وفوق كل مخلوق، معنى تؤكده أيضاً عبارة “لا غالب إلا الله” المنقوشة على جدران قصر الأندلس في غرناطة، وهكذا تكون عبارة “الله أكبر”، التي خطها ذلك الولد الصبي على الجدار، أكثر دلالة من النظرات الغربية التي تحاول فهم النفسية الفلسطينية، وما يخالجها من مشاعر تساعد الناس على أن يصبرون على الضيم، مهما اشتدت النكبات، وسالت الدماء. قد يرى محللون غربيون وشرقيون أن “حماس” أخطأت في التقدير، ولم تحسب ما يمكن أن تحدثه الآلة الحربية الإسرائيلية من فواجع، لكن هذا التحليل يبقى بحد ذاته، نظرة غربية في مسألة شرقية، لأن “حماس” ومناصروها لن يتراجعوا عن مواقفهم قيد أنملة، بحكم اعتقادهم الذي لا تشوبه شائبة، بأن “الله أكبر” من أميركا ومن إسرائيل ومن كل البشر، وفوق كل النكسات والفواجع!

يحاول الغربيون ومعهم بعض الإسرائيليين والعرب، إيجاد حلول دنيوية لهذه القضية، من دون الغوص في الينابيع، لفهم أسبابها الحقيقية، وخلفياتها الثقافية والدينية، وبأن قطبة الصراع المخفّية بين حماس وإسرائيل، هي في شقها الأكبر، صراع “آلهة أنبياء”، وكون إسرائيل قامت على خرافات توراتية، ووعد “إلهي” مزعوم، أصدق دليل على ان هذا الصراع، هو صراع “آلهة وأنبياء”، لا يزال يستلهم المخّيل الديني وثقافة العين بالعين والسن بالسن منذ 75 سنة، بالرغم من المساعي الكثيرة التي تُبذل لتلطيف غلوائه، حيناً بالدعوات “الإبراهيمية”، وأحيانا بالدعوة إلى “حوار الأديان”، ذلك لأن ما في “الكتب المقدسة” من نقاط اختلاف، لا يرضي العقول ولا يريح الأرواح، خصوصاً إذا استغل أصحاب المصالح من السياسيين نقاط الاختلاف هذه، وخلطوها بالسياسة، وحولوها إلى قضية في منتهى التعقيد، وسبباً لإشعال الحروب.

الأديان بطقوسها الجامدة شكل من اشكال العنصرية، وهي حين لا تكون فعل إيمان حر وصادق، تزرع الشقاق والنفاق بين الناس، وتتحول إلى عصبية هوجاء. أليست هي كذلك بين اليهود والعرب؟ أليست هي كذلك بين اللبنانيين الذين عانوا، وما زالوا يعانون من نظام طائفي، جلب عليهم وعلى بلدهم كل صنوف العذاب؟! أليسن هي كذلك أيضا بين المكونات التي تعيش في العراق وغير العراق من الدول التي تعيش الأثنيات المختلفة. كم من المتعبّدين المقيدة أرواحهم وأجسادهم بالطقوس الجامدة، يفهمون أن الأرض ليست مقدسة، وأن الحجارة ليست مقدسة، وأن الشريعة وجدت للإنسان، ولم يوجد الإنسان للشريعة؟ لذلك فإن أي حال لقضية الصراع في الشرق الأوسط مثل “حل الدولتين” الذي تنادي به دول في الشرق والغرب، لن  يكون ناجعاً إذا بقيت الثقافة السائدة على نحو ما هي عليه اليوم، فضلا عن أن شروط إسرائيل لقيام دولة فلسطينية، لن تكون عادلة، في البنود المتعلقة بحجم الأسلحة التي ستتوافر لهذه الدولة، وعدد أفراد الجيش والشرطة، وعدد المستوطنات اليهودية التي ستصر إسرائيل على بقائها في الضفة الغربية، وغير ذلك من شروط سوف تضعها إسرائيل، ليكون وضع هذه الدولة الفلسطينية أشبه بحكم ذاتي، أو “وطن قومي” ضعيف، يجاور بحذر، وربما بخوف، جارة قوية بينه وبينها تاريخ من الضغائن.

هل هذا حقاُ ما يريده الفلسطينيون؟! إن أي فلسطيني حر، سيرفض هذه الشروط المجحفة، وإسرائيل لن ترضى بأقل من ذلك على أي حال، خصوصا متى فُتح ملف القدس للنقاش. أما الحل الآخر، الإنساني والدائم، فهو الذي يعالج البنية الثقافية والدينية في إسرائيل، وفي الدول العربية المحيطة بها، ويقوم على فصل أديانها عن السياسة فصلا تاماً، ويدعو إلى قيام دولة واحدة، ديموقراطية علمانية، يتعايش فيها العرب واليهود، متساويين في الحقوق والواجبات، متحررين من شرائع قديمة وفهم خاطئ للنصوص، ما زال المتمسكون بها يسبغون على الحجارة قداسة تعلو على قيمة البشر، ما يدفعنا إلى القول، وباختصار شديد، إن السلم في “الأرض المقدسة”، لن يسود إلا ساعة تتخلص هذه الأرض من الإسلام السياسي، واليهودية السياسية، وتحل محلهما ثقافة عصرية إنسانية، تساعدهم على التحرر من أثقال ماض لا يزال كامناً في الصدور، ليكونوا أحراراً من أمة حرة،، ويكون تدينهم شأناً خاصاً، وعلاقة عمودية بين الفرد والسماء.

قد تتساءل أيها القارئ الكريم، ما اسم هذه الدولة الديموقراطية الجديدة، التي سوف يعيش فيها العرب واليهود؟ لن يكون اسمها “الدولة الإبراهيمية”، أنه تعريف يناقض مبدأ العلمنة، ولن يكون اسمها “إسرائيل”، لأنه اسم يناقض مبدأ العلمنة أيضاً. سيكون اسمها فلسطين، وهو اسمها الأصلي القديم. وقد تستغرب أيها القارئ الكريم إذا قلت لك إن “فلسطين” هي الاسم الذي كان اليهود يحرصون عليه أكثر من حرص العرب عليه قبل العام 1948! قبل هذه السنة لم تكن هناك دولة اسمها إسرائيل، ولم تكن هناك دولة اسمها فلسطين، لكن كانت هناك جغرافيا اسمها فلسطين، وقد ساهم اليهود في طباعة الخرائط القديمة، وطوابع البريد القديمة التي تحمل اسم فلسطين، وهذه يفتخر بها العرب اليوم كتأكيد على الهوية الفلسطينية القديمة من غير أن يدروا أن اليهود، كانوا رواداً في الدعوة إليها، وفيما كان المواطن اليهودي يفاخر بأنه فلسطيني، كان العربي يتردد في الجهر بذلك، ويغلّب هويته العربية على هويته الفلسطينية، ومتى سُئل عنها لا يقول إنه فلسطيني، بل يقول إنه عربي من فلسطين! كانت العملة المتداولة بين الناس أيضاً جنيهاً فلسطينياً منقوشا عليه باللغات الثلاث، العربية والإنكليزية والعبرية، وكانت غالبية أعضاء الحزب الشيوعي الفلسطيني في ثلاثينات القرن الماضي من اليهود، ولا بد من لفت النظر والتذكير أيضاً، أن وعد بلفور نفسه، الأثير على قلوب يهود العالم، والذي رفضه العرب بشدة يوم إعلانه، لم ينص على إقامة دولة اسمها إسرائيل، بل نص على إقامة “وطن قومي” لليهود، وأين؟ … في فلسطين!

يبقى هناك سؤال لا بد وأنه قد يتبادر إلى ذهنك أيها القارئ الكريم، وهو السؤال المتصل بحق العودة، وأحسبك تتساءل: كيف سيقبل اليهود عودة الفلسطينيين من الشتات، ليكونوا الأغلبية في الدولة الفلسطينية الجديدة؟ الجواب على هذا السؤال صعب للغاية وسهل للغاية. في “الأرض المقدسة” المأسورة بحكم الشرائع، الجواب حتماً صعب، أما في الدولة العلمانية التي ينفصل فيها الدين عن السياسة، لا يعود السؤال مطروحاً، لأن الناس فيها متساوون في الحقوق والواجبات، ولا يهم المواطن، المتمتع بالحرية والأمن والرخاء المذهب الروحي للحاكم، ولا يريد حتى أن يعرف، لأن المناصب في هذه الدولة لن تكون حكراً على الأديان او الطوائف، ولأن القانون فيها يعلو ولا يعلى عليه. مهما يكن الأمر، فإن السؤال نفسه، يستدرج حجة مقنعة، ويأخذنا إلى بلد مثل بريطانيا ويجعلنا نتساءل: ما الذي يضير يهودياً، أو مسلماً، أو بوذياً مقيماُ في مدينة مثل لندن، غالبية سكانها ليسوا يهوداً ولا مسلمين، وعمادها الروحي التاريخي هو كنيسة إنكلترا؟ لا شيء البتة، وأقولها عن ثقة ويقين، لأني عشت في هذه المدينة، ولا أرضى أن ابادل حريتي فيها، بحرية دولة تأخذ الدين شعاراً لتحكم الناس وتتحكم بهم، علماً أن علمانية إنكلترا، إنسانية إلى حد أن سمحت لمواطن مسلم من أصول باكستانية، أن يكون رئيساً لبلدية لندن، ولمواطن هندوسي المذهب، من أصول هندية، أن يصبح رئيساً للوزراء، ما يقدم دلالة دامغة، على أن الدولة المدنية العلمانية هي دولة الإنسان والإيمان، لا دولة الأديان.

فلسطين العلمانية، هي دولة الوعد العظيم للعرب واليهود، حلم اليوم والغد، الحل الذي يمهد الطريق إلى سلم دائم في عكا وحيفا وجبل الزيتون والقدس القديمة، وفي غزة الجريح التي لا تزال تربتها تتلطخ بالدم والدموع، ومن دون فلسطين هذه ستبقى الحجارة “مقدسة”، وتبقى الحروب بين أهلها مشتعلة إلى أبد الآبدين!