رسالة من “أب” فلسطيني إلى “طفل لم يولد بعد”! (1 من 2)

أخاطبكَ وأنتَ لست موجوداً، لسبب بسيط هو أن أباكَ لا يزال عازباً. ما همّ، قد يحصل الزواج يوماً وتأتيني، فأفرح بكَ فرح العمر. أعلّمكَ لغات الأرض وفنون الدنيا، فتنمو قوياً قادراً على فعل ما عجز أبوكَ عن أن يفعل، وتصل إلى قمم كان أبوكَ ولا يزال، أضعف من الوصول إليها. لكن فرحي بقدومكَ أيها الطفل الحبيب، يعادل حرصي على ألا تكون موجوداً. أخاف عليكَ، وأؤثر أن يتغلب حبي على كل رغبة في نفسي، مهما يكن شوقي إلى رؤياك شديداً. نعم، مهما يكن شوقي إلى رؤياك شديداً.

أخاف أن تبصر النور، فإذا الذي حولك ظلام، وإذا بلاد أبيكَ وأجدادكَ محتلة ومجزّأة. شعوبها تتقاتل، وحكّامها يتسابقون إلى القريب والبعيد، ليردّوا أرضاً كانت لنا في الأمس، ويحفظوا ما بقي من أرض لا نعرف لمن تكون في الغد!

ما أدراني، فقد تغضب على أبيكَ حين تكبر، لأنه جاء بكَ إلى هذا العالم، فإذا هوعالم قاتم، وإذا وجهه ملطّخ بالدم.

أعرف أنني أقسو على نفسي إن قسوتُ عليكَ. لكن الحقيقة مرة يا ولدي، ومن لا ير الحقيقة يُعمِه الوهم. أفضّل العيش وحيداً، على أن تولد وتتسلم ميراثاً كميراث أبيكَ، وبلاداً كبلاد أبيكَ.

لا أريدكَ أن تولد في المخيّم وتعيش كما عاش أبوكَ. أنا ولدتُ بعد عشرين عاماً على النكبة. جدّكَ سلّمني مفتاح البيت الذي ورثه عن والده، في حيّ الشيخ جراح في القدس القديمة. ثبّته على الحائط، وكنتُ ولا أزال أطبع عليه قبلة المساء كلما تقدم الليل.

هكذا علّمني جدّكَ أن أفعل، ولا أزال على الوعد.

عاش جدّكَ وهو يحلم بالعودة. مات وفي عينيه شوق الرجوع. بعد سنة أو نحوها ماتت جدّتكَ أم خليل، رحمات الله عليها وعليه. كان لهما ولدان، أنا وعمّكَ خليل. وقد أخاف أن أضنيكَ إذا رويتُ لك قصة عمّكَ هذا.

لقد حزنتُ على فراقه يا بني، قدر حزني على جدّكَ وجدّتكَ.

أراكَ لن تتركني أخلد إلى النوم، قبل أن أروي لك قصة عمّكَ خليل، أليس كذلك؟

 حسناً، سأقصّها عليكَ، على الرغم من ألم التذكر.

عمّكَ خليل كان يكبرني بسنتين. ولدنا في المخيم وفي المخيم نشأنا. كان أكثر مني علماً. أنا ورثتُ حرفة النجارة عن جدّكَ، وهو درس علم الحساب. كان عمّكَ قارئاً نهماً، وكانت لديه كتب كثيرة، منها كتاب عنوانه “نهر الرماد” وآخر عنوانه “بيادر الجوع”، لشاعر إسمه خليل حاوي. وقد أخبرنا عمّكَ أن هذا الشاعر اللبناني كان على درجة من رهافة الحس جعلته ينتحر، لأنه لم يستطع أن يتحمل صور دبابات الصهاينة تطرق أبواب بيروت.

هناك شاعر فلسطيني كان عمّكَ يحبّه حباً جماً، إسمه محمود درويش.

كان لديه كل كتب هذا الشاعر، منها واحد عنوانه “يوميات الحزن العادي”، عليه توقيع المؤلف بحبر أسود. وقد أخبرنا عمّكَ أنه شاهد درويش في ظهيرة يوم من أيام الصيف، عند مدخل الجامعة الأميركية في بيروت، فتحدث إليه، فأهدى إليه الشاعر ذلك الكتاب.

كان عمّكَ خليل يحب الشعر، ويؤثر درويش على غيره من الشعراء. وكان بين حين وآخر يقرأ علينا، أنا وجدّك وجدّتك، بعض كتابات هذا الشاعر ويبسّطها لنا. لا أنسى ذات مساء، وعمّكَ يقرأ علينا فصلاً من الكتاب المذكور، أن جدّك فقد السيطرة على عينيه، وإذا بلونه تغيّر، وجبهته السمحة تندّت، ودموعه انسابت على خديه. فجأةً توقف عمّك عن القراءة وأغلق الكتاب، ولا أذكر أنه قرأ علينا شيئاً منه بعد ذلك اليوم.

كان الهواء في المخيّم ملوثاً، فأصيب عمّكَ بمرض الربو وصار مصدوراً. كان محبّاً لوالديه رفيقاً بهما، ولم أسمعه يوماً يشكو. وكان إذا عاجلته شهقة الربو، انتحى زاويةً في الدار بحيث لا يراه أحد، وداوى نفسه، كأن شيئاً لم يكن.

كان خلوقاً، خجولاً، مؤدَّباً، عفيف النفس حقاً. وكان من أقدر الناس في علم الحساب. كان يختلف إلى بعض المحال الصغيرة، ويدير حسابات بعض التجار الصغار. لم يكن مسموحاً له بالعمل في مصرف أو شركة محلية، بحكم القوانين المفروضة على اللاجئين!

تعرّف عمّك إلى فتاة لبنانية كانت تعمل في أحد الدكاكين. قروية من الجنوب، ومن عائلة بسيطة مثلنا. لكنها كانت “دلّوعة” مغناجاً، تتكلف لهجة أهل المدن وزي أهل المدن. لسبب لستُ أدريه، أحبّها عمّك ووقع في حبائلها. وحين طلبها للزواج من أهلها رفضوا.

بقينا أياماً لا نعرف السبب، حتى جاء من أومأ إلينا، بأن أهل الفتاة رفضوا تزويج ابنتهم لعمّك، لأنه ليس من أهل البلد!

أظنّكَ على عجل من أمرك أيها الحبيب، تريد أن تعرف كيف قضى عمّك خليل. أليس كذلك؟ لا بأس، سأروي لك نهاية القصة.

عندما مات جدّك، حزن عمّك عليه كثيراً، وأصابته كآبة حاول دوماً أن يخفيها، ضنّاً بجدّتك ورفقاً بها، وخشية أن يقضّ مضجعها إذا ذكر زوجها الراحل. وحين ماتت، كره عمّك الحياة، وكره المخيم، وبقي أسابيع لا يكلم أحداً غيري، وانقطع عن الناس الذين نعرفهم في المخيم وخارج المخيم، وللمرة الأولى بدأ يخطئ في الحساب والأرقام.

في صبيحة يوم لا أنساه، أفقتُ من نومي فلم أجده في سريره. ظننتُ أنه غادر إلى موعد، وحين عدت في المساء لم أجده.

إنتظرته ساعات ولم يأت.

أوشك الفجر أن يطل ولم يأت. غلبني النوم لساعة أو بعض ساعة، ثم أفقتُ على خطواته يدخل بخفر كأنه يعتذر عن وجوده في هذا الكون. حين سألته عن سبب تأخره، لم ينبس بكلمة. شعرتُ أنه يتستر عليَّ بشيء ما، وحين ألححتُ عليه، أخبرني أنه التقى بعض الشباب، وأقنعوه بالإنتساب إلى مجموعة ثورية، تقاتل من أجل الوطن السليب.

“الوطن السليب”… “الوطن السليب”!

 بقي يرددها كأنه يحدث نفسه، ثم أخذه النعاس ونام.

ذلك المساء، ضربت بيروت عاصفة هوجاء، وانفتحت ميازيب السماء وسقط المطر مدراراً، وكادت صفائح التنك تنقلع من أوتادها. بقيتُ شطراً من الفجر يقظاً، وإذا عمّك نائم كطفل رضيع. فجأةً تمثلتُه في معركة، والرصاص ينهمر عليه كالمطر الذي كنت أسمع هديره، فاعتراني ضربُ من الخبل، فيما كان صوت الرعد يقرع قلبي، ويهزّه هزّاً عنيفاً.

لم أقل له شيئاً بل تركته ينام. أعترف لكَ بأني لم أره يوماً في حياتي بذلك الهدوء الذي بقي يرافقه في ما جاء من الأيام، وامتد نحو شهر أو بعض شهر، إلى أن جاء اليوم الذي لم يعد فيه عمّك إلى المخيم. قتله الصهاينة على الحدود.

الجزء الثاني في العدد المقبل)