“لبنانية في بولاق”

رؤوف قبيسي:

 “لبنانية في بولاق” للكاتبة اللبنانية راسيا سعادة، رواية بسيطة وآسرة في الوقت نفسه، لا تملك وأنت تقرأها إلا أن تسير مع كاتبة النص إلى أخر الطريق، والطريق هنا تجربتها الذاتية في رحلتها إلى مصر للبحث عن عمل في حقل الإعلام الذي درسته ومارسته في لبنان. قصة يمكن أن تدرج بسهولة في قائمة الروايات الذاتية الواقعية التي تعكس هموم جيل لبناني، ولد وشب في اثناء الحرب الأهلية اللبنانية وأخذته المسافات الطويلة إلى بلدان مختلفة، بحثا عن المتاعب ولو بثمن. صبية نشأت في أسرة محافظة من بلدة محافظة في شمال لبنان، وفيها ذاقت طعم القيود وهي تنمو وتتفتح على براعم الحياة. بعد تخرجها في الجامعة، دفعتها تقاليد الدار وتقاليد المدينة للذهاب إلى بيروت حيث أمضت سنوات، لتبدأ بعدها ملحمة الهجرة ومحطاتها المختلفة، وآخرها كانت القاهرة. إلا ان الترحال المتواصل لم يشف غليلها وهي في طريق البحث عن العمل والأمان، فإذا هي تعود إلى نفسها كأن نفسها الملاذ الأخير، الضوء في آخر النفق، الترياق الذي لا ترياق بعده من خطوب الحياة وشجونها. تكتب عن ذلك فتقول” في عيوني غربة عاشت بلا وطن. نفسي كانت هي الوطن. كانت أبي عندما تيتمت، وأمي عندما تغربت، وأختي عندما تألمت، وأخي عندما انكسرت، وحبيبي عندما حاربت معجبا معتوها”. يكفي أن نقرأ هذه الكلمات لنستشف حجم المعاناة التي عاشتها هذه الصبية الحالمة.

ليس لراسيا سعادة باع طويل في عالم الرواية، فقد وضعت حتى الآن روايتين. ما هذا بالأمر المهم على أي حال، في هذه الرواية الكثير من الصدق ما يغني عن قراءة الكثير من الروايات المنسوجة بالخيال، أو القصص الفلسفية. هنا الواقعية ساطعة تنقلها الكاتبة على الورق، وتسرد بها ملحمة هجرتها وتاريخها النفسي والعاطفي والاجتماعي. أما لماذا أصبحت القاهرة محطة ترحالها الأخير؟ في التصدير نقرأ الرد على هذا السؤال. “أنا تلك الطفلة التي نشأت في بيت مليء بالقصص المصرية. المراهقة التي مشت في أحلامها مع أبطال مصر في أفلامها.  ذكريات تقول لي: ابحثي عن مصر، عن الماضي الجميل، عن التاريخ والحضارة. عن الحصان الأبيض والجمل والحمل والنخيل. عن كلام حول الحب مطبوع في الخيال، جميل تريده أن ينتقل إلى واقع أجمل. شوارع عتيقة وصور أرستوقراطية رأتها على الشاشات، وتمنت أن تصبح يوما أمام أعينها المجردة، صوراً حقيقية لا سينمائية فقط”.

تبدأ الكاتبة تجربتها بكلام مشوب بالعاطفة، وتصف وصولها إلى القاهرة في وقت متأخر من الليل، ورحلتها من المطار إلى الفندق مع سائق توقفت سيارته مرات عدة، ثم تاه وهو في طريق البحث عن الفندق، ومع كل وقفة، أو ورطة كان يقول لها “معليش” حتى صار اسمه في الرواية سائق “المعليش”. هكذا كان ليلها الأول. أما أيامها الأولى فكانت أكثر شقاء واشد الماً. تلتقي صديقا إعلاميا كان يعمل في صحيفة ” المصري اليوم”. تعرفت إليه في لبنان، وكان وجد لها شقة في منطقة “المهندسين” ورتب لها مواعيد مع بعض المنتجين العاملين في حقل الإعلام، واتفقا أن يقوما بعمل مشترك لقناة تلفزيونية.  تتصل به في الأيام التي تلت فإذا هاتفه مغلق. حارت في أمرها ولم تعرف السبب، إلا بعد أن قرأت في الصحف أنه توفي بمرض السرطان. بكت كما لم تبك من قبل، وإذ هي تجد نفسها في اليوم التالي في الطريق إلى سوهاج في أقصى الصعيد لتعزي في مأتمه.

تجد نفسها وحيدة، وتعود إلى شقتها في “المهندسين” مكسورة الخاطر، “فتاة في منتصف العشرينات، تأخذها الأحلام ولا تعرف الاستسلام، تصدق الناس وإن كذبوا. تثق بالفرص وإن كانت وهمية. متعلقة دوما بالضوء وإن كان قليلاً، لا ترى العتمة وإن كانت كثيرة”.

في الفصل الذي عنوانه “وطني المفقود” نرى صبية تفد إلى بيروت هاربة من واقع معلوم إلى واقع مجهول الملامح، من بيئة عائلة محافظة يفرض الابن الأكبر فيها دور الأب المتوفى منذ سنين ويقول لها: “لا لا لا ممنوع تروحي ع بيروت”. وتبقى مع ذلك تتردد إلى العاصمة، محروسة بعناية وعطف أم حنون. في العاصمة يبدأ صراعها مع الذات، وتبدأ تطرح على نفسها أسئلة وجودية ” لا أعرف هويتي. أنا في منتصف الطريق بين الشرق والغرب. بدأت رحلة التحديات والمغامرات، رحلة تكوين شخصيتي الجديدة التي أريد أن أختارها لنفسي، لا تلك التي اختارها لي مجتمعي”. تعود لتحاور ذاتها من جديد” أنا التي لا تكسر قناعاتها. سأنسحب. سأهاجر، علني أجد وطنا بديلا”.

وبدت اسطنبول في البدء هي الوطن البديل! عملت في العاصمة التركية مذيعة ومقدمة برامج مدة سنة ونصف سنة، ثم تركت بعد أن عجزت عن التأقلم مع بشر مقيدين دينيا وثقافيا وسياسياً. عن تلك التجربة المرة تكتب:” حتى التعصب لدين معين هو تعصب لعين. الدين أيا كان لا يقبل التعصب، والسلام الذي تنادي به الأديان يتنافى مع فكرة التعصب التي تهدم كل سلام بين الاشخاص والبلدان. من منا اختار جنسيته؟ نحن نولد أحرار الإنسانية لا أحرار الجنسية، مع ذلك جنسيتنا تقتل أحيانا إنسانيتنا، أما إنسانيتنا فلا تقتل جنسيتنا ولا أي جنسية مختلف عليها”.

تسافر إلى لندن، بعد أن اتفقت مع مؤسسة أخرى في إسطنبول أن تعمل في مكاتب هذه المؤسسة الإعلامية في العاصمة البريطانية. عن ذلك تكتب:” بعد مرور أيام طويلة لم نتفق، أنا والقناة. كانوا يريدون توظيفي وفق مزاجهم السياسي. أما أنا فأريد أن أعمل وفق مزاجي الإنساني والاجتماعي. يريدون مني أن آخذ طرفا، وأنا الحرة التي تركت بلدها بسبب التبعية السياسية والدينية المفروضة هناك، فكيف أفعلها وانا في الغربة؟”.

تعود إلى لبنان، إلى “الوطن المفقود” بعد “جولات من الحرب النفسية والمواجهات الاجتماعية والعملية”. في هذا الفصل من الكتاب تتجلى ثورتها على التقاليد البالية، وعلى السياسيين وأمراء الحرب. تذهب إلى قبر ابيها وتخاطبه بتلك الكلمات الأثيرة: “يا أبي أنا كبرت كما كنت تحلم. أنا التي مشيت في جنازتك قبل أن تمشي في روحي. أنا التي دفنت قلبها عندما دفنتك. كيف لقلب أن يحيا وقد دفن حياته؟ لا تقلق. سأبقى نظيفة وإن عشت في قلب التلوث. لم اتلوث. سأبقى قوية رغم كل محاولات تضعيفي. سأبقى عزيزة النفس ولو مدوا أمامي كنوز الدنيا وما فيها. سأدهسها وتكون عزة نفسي هي كنزي ولو كره الكارهون”.

تذهب إلى بيروت لتعمل كإعلامية حرة. تبقى فيها شهورا من دون فائدة.  لم يبق إلا القاهرة. تسكن في منطقة المعادي سنة، وتنفق مما ادخرت. بعدها تذهب إلى منطقة أكتوبر حيث ايجار البيوت أقل كلفة، ثم تعود إلى “المهندسين” بالقرب من ميدان لبنان. أما منطقة بولاق الشعبية فقد أصبحت من أحب المناطق إلى قلبها، وكانت تتردد إليها رفقة صديقين شابين، لذلك اختارت منطقة بولاق عنواناً لروايتها.

الشابان المصريان أو الثنائي كما سمتهما في الرواية، خففا عنها أثقال الحياة وصارت صداقتهما لها سلوى تعينها على مواجهة المصاعب. تتعرف إلى اشخاص آخرين صاروا بمنزلة أصحاب مقربين، منهم من كانوا أساتذتها في الجامعة، ومنهم أصحاب النادي الأهلي في مصر، وقد صاروا من أعز اصدقائها. هذه الوجوه الطيبة جعلت مسيرتها في القاهرة سهلة، من حيث العمل والعلاقات الاجتماعية. كل ذلك حببها بمصر، وصارت تدعو والدتها للمجيء إلى القاهرة لتثبت لوالدتها أن الزمن لم يكسرها، وأنها بقيت تلك الصبية الشمالية القوية التي لا ترضخ للمغريات على حساب المبادئ.

مهما يكن، لا يبدو أن حكاية هذه الصبية في مصر ستنتهي على محطة يمكن أن تجلب لها ما تبحث عنه من أمان نفسي واجتماعي، وأن مصر التي تحبها ما هي إلا مستقر إلى حين، وأن الترحال بين الأماكن والخيالات والذكريات، هو قدرها المحتوم. وما الغرابة هنا، وهذا القدر المحتوم، هو قدر أفراد كثيرين مثلها عانوا، وما زالوا يعانون في أوطانهم، ومن أوطانهم ذيول المآسي وأهوال الخطوب والحروب؟!