الواقع الخير والخشوع في أعمال النحاتة السعودية نهى الشريف

من الرياض – رنا خير الدين

العمومية في الشكل ليست عبثيّة أو عشوائية في الإنتاج الفني الذي يتداخل في روحيّة المعنى والشعور، بل يتداخل في أجزاء بسيطة من تكوينه الرمزي ومعناه الحقيقي.

التأثّر والتأثير يقعان في كلّ لحظة، وفي مختلف أشكال التفاعل والانفعال في الحياة اليومية البسيطة ويمتزجان مع الأجزاء التفصيلية للأفكار والمخيلة لأي شخص، كيفما إذا كان التأثر دائماً والتأثير مستمراً ويقعان على إنتاجات الفنون بشتى أحوالها خصوصاً النحت، حينها يصبح الإبداع تحصيلٌ حاصل، ومؤكد، بحيث يدركه الفنان ويستنتج خصاله- كالتأثّر بالتاريخ، الأماكن، الكتب، والبيئة- من بين ألف جاذب. والفنّ متطور بشكل ملحوظ في المملكة العربية السعودية بحيث يكتمل في الآونة الأخيرة نسيج أعمال فريدة متميزة.

الاندماج بالشكل والتكوين هو صورة مصغّرة لتلك المكنونات الإنسانية الفنية التي يبرزها النحّات بخفّة وطلاقة، ضمن نسيجٌ من المشاعر والاستنباط، كذلك النسيج الذي تنحته الفنانة والنحاتة السعودية نهى الشريف، التي أكملت إلى حدّ الآن تصوّرها العام في التفعيل والانسجام مع مجسّماتها في الشكل والمحتوى والحكايات وتسعى إلى التجدد والتفاعل الحقيقيين بين الطبيعة والإنسان، وما يحيطهما.

أعزائي القراء، مكنونات هذه الفنانة في التجسيد والتشكيل واسعة الخيال ولا متناهية فهي تتخطّى الحدود في التعبير الرمزي بحيث تتأثر بالنحاتين العالميين أمثال هنري مور، وألكسندر كالدر… وتقولب المنحوتات باستنسابية بارزة وسلاسة لا توصف حتى تضفي روحيّة أنثوية سعودية عريقة عليها!

حصلت الفنانة نهى الشريف على بكالوريوس في التربية الفنية وماجستير في النحت من جامعة الملك عبد العزيز، كما حازت على ماجستير في تاريخ الفنّ الآسيوي من جامعة لندن عام 2011. مهتمة بتاريخ الفن الإسلامي، النحت، النسيج الإسلامي وتاريخ الفن الآسيوي (الفن الصيني، الهندي). بدأت أعمالها النحتية عام 2008.

عرضت الشريف عملها كجزء من مجموعة تسمى: “حافلة الجزيرة العربية”، شاركت بها في معرض بمدينة لندن عام 2008، وفي مدينتي الرياض وإسطنبول عام 2010، وفي مدينة جدة عام 2012.

يُلاحظ في أعمالها أشكال الخشوع والصلاة كمجسّمات النساء اللواتي يرتدين العباءات السوداء تصورهم أثناء إقامتهن الصلاة! هذه المجموعة الصغيرة من النساء مصنوعة من الرخام والصمغ، طولها ما بين 5 سم و15 سم، صنعتها عام 2008، وهذه المجموعة من أشهر أعمالها.

“الحصاد” كان لها لقاءاً خاصاً مع النحاتة نهى الشريف عرفتنا من خلاله على أبرز صفات منحوتاتها الإسلامية والرمزيّة. ننقل إليكم تفاصيل اللقاء فيما يلي.

  • “الحصاد”: بدايةً، كيف توجهتِ نحو فنّ النحت؟
  • أنا من مدينة جدّة. المدينة الشهيرة والمليئة بالميادين والمعروفة بالمتحف الهوائي الطلق الذي أُنشأ في نهاية السبعينيات على ضفة البحر على ضوء هذه الأجواء وتجوالي في المدينة ومشاهدتي لأعمال النحاتين الكبار في فترة عصر الحداثة كأمثال النحات هنري مور والنحات سيزار بالدشيني والنحات كالدر.. تستهويني جماليّات المنحوتة وخاماتها المتنوعة ومواضيعها حتى بات لدي شغف فنّي بدراسة هذه الأعمال. لذا التحقت بجامعة الملك عبد العزيز وتخصصت بفنّ النحت وأكملت الماجستير ثم ذهبت إلى بريطانيا لدراسة الفنّ وهناك التحقت بكلية الفنون ودرست النحت في كلية “Kensington & Chelsea College ” ثم التحقت بجامعة لندن “SOAS” لدراسة تاريخ النحت في الشرق الآسيوي الصيني والهندي.

·        “الحصاد”: في الفنّ، يتباين التخصص والهواية بحقول عديدة. لكنهما يلتقيان في معظم الأحيان. أين يلتقيان لدى نهى شريف؟

  • بدأت تجاربي النحتية أولاً في مجال تخصصي الدراسي ماجستير النحت كمنهجية علمية فلسفية ثم بعد ذلك واصلت تجاربي في الاستديو الخاص بي انغمست حينها في التنوع بالخامة والأشكال. أدواتي هي القراءة والثقافة والحوار بعيداً عن محيط التخصص ومجال عملي الجامعي. فمهنة التعليم لطالبات الجامعة في مجال النحت تبتعد تماماً عن نهى أثناء تواجدها في الاستديو بين مكتبتها وأجوائها الفنية الخاصة.
  • “الحصاد”: تختارين الأسود غالباً. لماذا؟
  • أعمالي متنوعة ليس فقط من حيث اللون. لدي منحوتات بالرخام والحجر والبرونز لكني اخترت هذا اللون بالتحديد للعديد من أعمالي حتى أوضح الفكرة من الشكل وتصل إلى المبتغى الوارد من خلالها. وإجمالاً، اختيار اللون هو أبرز الأمور التي تعطي انطباعاً أولياً للمشاهد، ثم ينطلق إلى التفاصيل الشكلية والمواد والانطباع.
  • “الحصاد”: تقولين إن النحت يعبّر عن ذاتيتك في التصوّر. كيف يكون النحت ذاتياً، ومعبّراً عن عراقة وتاريخ في الوقت عينه؟
  • منحوتاتي متنوعة بين الخاصة والعامة، أي تلك التي تعبّر عن رؤية خاصة بي، وتلك التي تحوم حول الواقع والبيئة والمحيط، الوجوه والإناث… بعضها يحتوي على مضامين متنوعة كتلك المنحوتات التي أطلقت عليها عنواناً “الخشوع والصلاة، Humbly & Devout التي عُرضت لأول مرة في لندن في معرض حافة الجزيرة العربية “Edge of Arabia” وقمت وقتذاك باختيار اللون الأسود للمنحوتات لأنه يرتبط بزيّ المرأة السعودي الذي يعتبر جزءاً أساسياً من ثقافتنا وحياتنا اليومية، فلم أجد أصدق منه تعبيراً عن لحظات الخشوع والصلاة.
  • “الحصاد”: ماذا أضافت تجربتك في معرض “حافة الجزيرة العربية” في مدينة لندن عام ٢٠٠٨؟
  • كانت تجربة مهمة في معرض بروناي غاليري بجامعة لندن  ” SOAS” لم يكن معرضاً تشكيلياً فقط، بل كان معرضاً تضمن ندوات مع اختصاصيين وفنانين في المجال على مدار عدة أيام. بالعموم كانت تجربة فريدة وغنية. كما أن المعرض حقّق لي فرصة للتعارف على أساتذة الجامعة بالإضافة إلى أنه كان مساحة للتعرّف مع بعض الفنانين العالميين وفرصة لتبادل ونشر الثقافة السعودية بطريقة جمالية معاصرة جديدة.
  • “الحصاد”: يسعى الفنانون العالميون في النحت إلى تفريغ عواطف لا يمكن البوح عنها كلاماً.. من خلال أعمالك، ما رسالتك؟
  • لغتي في الجواب هي صيغ تشكيلية أصيغها وفق الحقل البصري الشكلي. وأنا أعبّر عن دواخلي بالشكليّة حتى يتكوّن الشكل.. أنا كنحاتة وفنانة تشكيلية من الطبيعي أن أطرح عموميات الفلسفة بين الواقع والخيال، الجمال والخير.. لطالما كان الفنّ لغة للتواصل البشري الجيد، وكان أداةً لصنع الأفكار والمبادئ وتطبيقها، حيث أسعى إلى تشكيل صورة عن البيئة والعراقة السعودية على وجه الخصوص من خلال النحت. وخلال ذلك أُبحر بعوالم الارتقاء للعمومية ونشر مفهوم الهيئة الجميلة وأكثر شمولية من النحت كشكل بمفهوم خاص له مدلولات تشير لكيان معلوم الصفات.. بل سوف أنحت للعمومية بقصديّة التعبير عن أفق أوسع من ذات واحدة.
  • “الحاد”: الفنّ الإسلامي يشهد تطوراً نوعياً في التقنية والأسلوب.. كيف ترين أفق الفنّ الإسلامي؟
  • الفنّ الإسلامي منذ مطلعه كان تواقاً للابتكار وهذا ما لحظناه في بوتقة الزخرفة الجميلة ورباعيات الواسطي.. ففي كل ركن وحركة للفنّ في زمنه نجد اختزالاً كبيراً ورائعاً لكل تعبير بالفنّ التشكيلي .. فحين نرى الزخارف البديعة على الفور يُخيل لنا رؤية بصرية عامة من الطبيعة تتمثّل بورقة شجرة معقّدة قد حوّلها أحد فناني العهد الإسلامي إلى اختصار جميل مقبول للعين ومبهج للناظر ومفرح للقلب.. فقد أحيل في وقته الشكل إلى اختصاراته على الرغم من كثرة التكرار في الزخرفة.. فقد برع الفنان في توظيف الشكل بأبسط حالاته وأقوى منحنياته المختزلة وهذا هو الإبداع بحدّ ذاته.
  • “الحصاد”: تناقلت بين المدن السعودية (مكّة المكرمة، جدة، القصيم والرياض)، وكل مدينة تركت أثراً خاصاً ظهر في منحوتاتك. كيف يكون المكان ملهماً للنحات؟ وكيف؟
  • لكل مدينة خاصيتها وأثرها على الفنان! بالنسبة إلي كلّ مكان يترك في نفسي شعوراً بالانتماء لكلّ مدينة أحبها .. فحين أكون بين ساحة إحدى مدن المملكة أشعر وكأني طفلة صغيرة مرتمية بين أحضان والدتها تتوسّل وترتجي الحنان والرعاية. فكلّ مدينة أنتمي إليها بذكريات وأحفوريات ذهنية لها طابعاً خاصاً. هذا ما يجعل دواخلي تثار بالعواطف الممزوجة بالذكريات حين أزور هذه المدن وأعبّر بطريقة ردّ الجميل. فهذه المدن فرحي وذكرياتي وطرقي وطفولتي وجذوري.
    العدد 129 / حزيران 2022