بوصفولي الصبرا

جاد الحاج

اولت الجامعة الاميركية اللبنانية فن المسرح اهتماما مميزا منذ تأسيسها مطلع سبعينات القرت الماضي، انطلاقا من تاريخ طويل عُرفت خلاله بـ بمدرسة بيروت للبناتا، وقد تسلم فرع الدراسات الدرامية فيها محترفون بارزون انجزوا قفزات نوعية في تطوير الفنون المشهدية، على رأسهم المخرج الرائد شكيب خوري، ليلى دبس، ناجي صوراتي ورلى كنيعو، وصولا إلى لينا ابيض ابرز معلمات المسرح في الفرع الحالي وهي مخرجة مجلية، متخرجة بدوكتورا من السوربون، برهنت عن تنوع غنيّ في مقارباتها واختياراتها في الحقبة المنصرمة.887dba5dd92a49b786ad90f8ebda234c

الا ان الجديد في سياق ابداعات أبيض هو استنادها إلى دراسة ميدانية اجرتها الاستاذة في جامعة درهم البريطانية، عبير همدر، عن بثقافة السرطان لدى النساء العربياتا. وجاءت بوصفولي الصبرا كما في اغنية ام كلثوم عملا مسرحيا على خلفية شهادات حيّة ادلت بها نساء عربيات عشن تجربة السرطان بكل ما تنطوي عليه من معاناة نفسية، جسدية، واجتماعية.

الموضوع في منتهى الدقة والمشقة قياسا بالتفاوت الشاسع بين المفاهيم الضبابية المسيطرة على العقل العربي وبين الوضوح العلمي- الواقعي المعاش فى بلدان العالم الأول حيث محا التقدم الشامل ترسبات الطاعون والبرص والعار عن مرض بات اكثر تفشيا من الرشح والأنفلونزا، ومازلنا هنا نتلعثم في لفظ اسمه كأن المريض ملعون اومسؤول عن مرضه. الا ان المسرحية التي شاهدناها على بمسرح المدينةا اخذت في الاعتبار الظواهر الاساسية العامة التي تعيشها المرأة في مراحل رفضها، بحثها عن يقين، تفتيشها عن حلول بديلة، غضبها، بدايات التقبل وحتمية الامل اللامفر منه لتخطي صعوبات العلاج. وإذ وضع النص شخصيات الدراما في فضاء مفتوح إطاره الاولي غرفة انتظار في عيادة، تمحوها التطورات المشهدية وتستعيدها بحسب مضمون المواقف والحالات، تحولت الحركة السينوغرافية إلى مولّد يدير عجلة الأحداث على الخشبة المتحولة بدورها فضاءات متغيرة.

اللبنانية سلام وافد جديد إلى غرفة الانتظار. تقدم نفسها باسمها الاول مضيفة بسرعة وحسم : صعندي موعد، .

نعم، تفضلي، في شوية انتظار، تقول السكرتيرة.

يعني قديش وقت؟

حَسَب.

حسب شو؟

حسب يللي قبلك. تفضلي ارتاحي.

 بهذا الحوار يهبط على الخشبة عنصر الانتظار كطابة من حديد. فالوقت متاهة غير قابلة للتحديد او الضبط في مجمل التجربة البشرية مع المرض، خصوصا السرطان، حيث دقات الساعة اقرب إلى صنوج تلطم الأصداغ. ويبقى الوقت سؤالا معلقا فوق الخشبة حتى نكتشف كم انه نسبيّ ولقلاق وغير واضح المعالم. فمنى المصابة بسرطان الغدد اللمفاوية موجودة في العيادة ر او في موئل آخرر منذ سبعة اشهر، ومع ذلك لا يبدو عليها التبرّم، بل تقول لسلام : بما فينا ما ننطرا. في المقابل يبدو الوقت ملغى بالنسبة إلى كاتيا الجالسة ارضا تقرأ. الورم في رأسها اضاف إلى لسانها اللغة الروسية من حيث لا تدري، أو لعله انتشل تلك اللغة من اعماق لا وعيها، والى اجاباتها الغامضة عن اي سؤال، تتمتع بحرية الدخول والخروج ساعة تشاء. لسبب او من دون سبب. كان مفروضا ان تموت العراقية إلهام منذ 16 سنة بحسب تقدير الاطباء لكنها بقيت على قيد الحياة. ولا مانع لديها من الكشف عن آثار المشرط في جسمها. تروي قصتها مع نقص العقاقير اللازمة في الزمن الصدّامي بحجة منع الاستيراد، ولعلها تشطح في الخطاب السياسي بما يتخطى ضرورات التعبير الدرامي. لكن الحرقة العراقية مشهورة بتفجعها المبالغ على كل المستويات.

خارج بالعيادةا على حدة وفي صمت مطبق تعبّر مريم عن شخصية البطلة في رواية لهيفاء بيطار تروي قصة مريضة رفضت الكلام عن تجربتها ولم يبق لديها سوى التعبير الجسدي عن معاناة لم تجد لها لغة ولا تفسيرا. وهي نموذج لعديد من المرضى المنكفئين على ذواتهم ضمن دوامة السرطان.

من بين المشاهد الواشمة للذاكرة نقاش حاد بين سلام والسكرتيرة التي لا تتوقف عن اكل التفاح، لأنها فقدت، بعد العلاج الكيميائي حاسة الذوق، وإذ كانت تحب التفاح استماتت رغبة في استعادة طعمه المميز. لكنها لم تفقد حاسة الذوق فحسب بل قاطعتها العادة الشهرية، وذات يوم فيما كانت جالسة في المقهى شعرت بدفق الحيض حارقا فقامت ومشت تاركة خلفها قطارا من الدم وكانت سعيدة وغير حيية، لأن الحياة عادت إلى جسمها، ولم يخطر في بالها ان تحلق او تنتف شعرة من جسمها بعد عودة الشعر اليه، لشدة فرحها.

الرجل الوحيد في المسرحية، ابو فراس، سوري الصق الترانزيستور في اذنه متسقطا اخبار الحرب، منتظرا عن عبث، اخبار زوجته المريضة في الشام.

يبدأ العرض بمشهد حقيقي، للممثلة العراقية نماء الورد تحلق شعرها امام الجمهور.