لماذا انفتاح السعودية على العراق؟ تبادل للزيارات وفتح الحدود بين البلدين بعد زيارة مفاجئة للجبير إلى بغداد

محمد قواص *

قد يجوز الافتراض أن هواجس الأمن الاستراتيجي لدى المملكة العربية السعودية هي ما أدخلت تحولات كبرى في مقاربات الرياض إزاء نظام الحكم في العراق. قررت الرياض بين ليلة وضحاها قلب ثوابتها في هذا الإطار منذ غزو العراق عام 2003 والذهاب بعيدا في فتح صفحة جديدة تتأسس على أبجديات السياسة الخارجية للمملكة ولا تقوم بناء على نزوات تجريبية فقط.

أسالت زيارة الزعيم العراقي السيّد مقتدى الصدر إلى السعودية ثم إلى الإمارات حبراً كثيراً يفوق ذلك الذي كُتب في التعليق على زيارات مسؤولين عراقيين رفيعي المستوى وفدوا إلى المملكة والتقوا بمسؤوليها. قيل في ذلك أن الصدر يمثّل في عباءته وما يحتله داخل المشهد السياسي العراقي ما يجعل من الحدث مفترقاً في المزاجين العراقي والسعودي والخليجي عموما، ذلك أن أصحاب المقامات الرسمية تنحصر زياراتهم بما هو بروتوكولي في الشكل والذي قد لا يكسر القشور لسبر لبّ المضامين.

حيدر العبادي: لعراق يتمدد باتجاه العالم العربي
حيدر العبادي: لعراق يتمدد باتجاه العالم العربي

قبل زيارة الصدر وقبل الزيارات المرتقبة لزعماء عراقيين آخرين إلى السعودية، زار رئيس الحكومة العراقي حيدر العبادي الرياض في حزيران / يونيو الماضي، بما اعتبر تطوّرا واعدا في علاقات البلدين، وزار وزير الداخلية العراقي قاسم الأعرجي في منتصف تموز / يوليو الماضي السعودية مناقشاً مع نظيره ومسؤولي البلد شؤون الأمن وملفاته. ولئن يمثّل العبادي حالة داخل حزب الدعوة مناكفة لرئيس الوزراء السابق نوري المالكي مع ما يمثله الأخير من دعم وتأييد إيرانيين، فإن الأعرجي لا يمثل أي مناكفة للسطوة الإيرانية، بل إنه قريب من طهران وواحد من رعاة ميليشيات الحشد الشعبي التي لم توفّر الرياض مناسبة لانتقادها وإدانة سلوكه، ناهيك عن إعجابه وانبهاره بالجنرال الإيراني الشهير قاسم سليماني.

غير أن ما هو أهم ويعتبر مفصلياً ومفاجئاً في سياق علاقة الرياض ببغداد منذ إعتلاء الملك سلمان بن عبد العزيز عرش بلاده، هي تلك الزيارة المفاجئة التي قام بها وزير الخارجية السعودي عادل الجبير في فبراير الماضي. وعلى ضوء ذلك الحدث يمكن فهم ما تلاها من أحداث تفتح صفحات جديدة غير مفهومة في طبيعة المقاربة الجديدة التي تتقدم بها السعودية باتجاه العراق.

تبدو زيارات المسؤولين العراقيين أنها تستجيب لانفتاح الرياض دون أن تجيب على هواجسها. وتبدو السعودية في مسعاها الحديث أنها لا تستثمر في أوهام تتجاهل طبيعة وهوية النظام السياسي العراقي، بل إنها تتعامل مع قماشة طبقة سياسية تعمل وفق الأمر الواقع الإيراني داخل العراق، فيما جزء كبير من تيارات العراق، بشيعته وسنته وأكراده، يحجّون إلى طهران بصفتها عاصمة القرار العراقي دون منازع منذ غزو عام 2003.

لم يصدر شيء كثير يفصح عن فحوى اللقاء الذي جمع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بالسيد مقتدى الصدر والوفد المرافق له. وربما أن الصورة التي نشرتها وسائل الإعلام كافية لإعلان نمط آخر في شكل تعاطي الرياض مع ساسة بغداد، مع العلم أن صورة أخرى كانت جمعت الصدر بالعاهل السعودي الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز عام 2006 دون أن يفضي الأمر إلى تآلف حقيقي أصيل يمثل اختراقاً سعودياً في قلب الصدر وفي قلب العراق.

قد يبدو أن الرياض لا تروم جذب ولاء العراقيين للمحيط العربي بدل ذلك باتجاه إيران. وقد يبدو أيضا أن الرياض مدركة لمآلات غيابها وغياب العرب عن »العراق الجديد«، وبالتالي مدركة لمدى النفوذ الذي بسطته إيران جراء ذلك الفراغ الفاضح الذي أتاحه العرب وأمعنوا به تجاهلاً للعراق. وبالتالي فإن السعودية، ووفق روحية مؤسسة الحكم في عهد الملك سلمان وبراغماتية أدواتها، تتعامل مع طبيعة الجار العراقي بصفته أمرا واقعاً وجب الاعتراف به كقاعدة لأي خريطة طريق جديدة بين الرياض وبغداد.

قد لا يغيب عن أبجدية العاملين في شؤون الجغرافيا السياسية أن الصراع الجاري منذ عقود بين السعودية وإيران، والذي يأخذ أشكالاً وأنماطاً مختلفة في ميادينه من اليمن إلى لبنان، تغافل من الجانب السعودي عن حقيقة أن لا مواجهة حقيقة لإيران وأن لا نجاعة لأي جهد يقف سداً منيعا ومانعا للإختراق الإيراني للمنطقة، إلا من خلال العراق. فهذه ضريبة الجغرافيا التي أدركها العرب سابقا، فراحوا يدعمون نظام العراق السابق في حربه الشهيرة ضد إيران.

قاسم الأعرجي: رجل إيران الوفي يزور السعودية
قاسم الأعرجي: رجل إيران الوفي يزور السعودية

في ذلك أن الرياض لا تقارب العراق لتحريره من السطوة الإيرانية، بل ربما تطل عليه، في هذا التوقيت، لأنه تحت السطوة الإيرانية. يعرف القادة السعوديون ان مداولاتهم مع المسؤولين العراقيين، الرسميين والحزبيين، ليست مداولات سرية تجري داخل جدران سعودية آمنة، بل هي شفافة، تكاد تكون علنية، تصل تقاريرها بانسياب إلى غرف الحكم الكبرى في طهران. وأغلب الظن، أن السعودية التي لا تخفي خصومتها لإيران، تطلق من خلال الميدان العراقي استراتيجية مفادها إعلان بانتهاء حقبة الفراغ العربي في هذا البلد، وبأن السعوديين والخليجيين أولا ثم العرب من بعدهم يعيدون الاعتبار لعراقهم بصفته قاعدة أصيلة من قواعد الأمن الاستراتيجي للمنطقة برمتها.

قد يجوز ملاحظة أنه، ورغم فلتان أبواق عراقية، توالي إيران، منتقدة زيارة الصدر وما قبلها وما سيليها، فإن طهران قد لا يزعجها أو يقلقها »حجيج« قادة العراق إلى السعودية، خصوصا وأن ليس في مداولات الغرف المغلقة ما لن تعرفه. ثم إن إيران التي »يشكو« وزير خارجيتها محمد جواد ظريفي من إمتناع السعودية عن حوار مع بلاده، قد تجد في ذلك الوصل العراقي السعودي ما يمكن أن يؤسس لقواعد جديدة في تعايش وتناكف الرياض وطهران، ذلك أن الحاكم الإيراني بات، منذ عاصفة الحزم في اليمن وتبدل مزاج البيت الأبيض و«تفاقم« تفاهمات واشنطن وموسكو في سوريا…إلخ، مدركاً لمحدودية سقوفه ولتدهور مساحات نفوذه ولارتباك بنيوي في طموحاته من أجل قيام »أمبراطورية إيرانية عاصمتها بغداد«.

لا يهم الرياض أن يأتيها ساسة العراق نكاية بالوصاية الإيرانية أو تصفية لحسابات ظرفية بين ذلك الزعيم وطهران. وتدرك السعودية أن نسج العلاقات على قواعد كيدية مصيره فشل حين تسوى أمور المتخاصمين وتنتفي حوافز النكايات. وإذا ما أرادت السعودية بناء علاقات جديدة مع العراق، فذلك على أساس يجعل من تلك العلاقات مصلحة عراقية لكافة العراقيين وليس لحساب فريق من العراقيين. غير أن سياسات الدول الخارجية لا تقوم على معايير خيرية بل على معايير المصالح، وعليه فإن للرياض استراتيجية كان عبر عنها الجبير في زيارته المفاجئة في فبراير الماضي: »علاقات مميزة ورغبة مشتركة لمكافحة الإرهاب، ووقوف الرياض على مسافة واحدة من جميع المكونات العراقية«.

لا يغيب عن بال المراقب أن مزاجاً دوليا أميركيا أراد غداة غزو العراق عام 2003 إبعاد السعودية والعرب عن أبواب العراق. كانت إدارة الرئيس جورج بوش الإبن تنفخ في العالم نزقها غداة اعتداءات 11 سبتمبر، مقصية اهل المنطقة عن أي فعل مرحّبة بما ينتجه ذلك من انسياب إيراني داخل العراق.

ولا يغيب عن بال المراقب أن مزاجاً دوليا أميركياً آخر قد برز في عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما عمل على تهيئة الظروف للتوصل إلى الاتفاق النووي الشهير، بما في ذلك عدم استفزاز طهران في ميادين نفوذها، بما في ذلك العراق.

تعليق: عودة الحجاج الإيرانيين: دبلوماسية الحج الناجحة
تعليق: عودة الحجاج الإيرانيين: دبلوماسية الحج الناجحة

وعليه فإن الجهد السعودي الراهن يناور داخل مشهد دولي آخر بات يتيح تطورا في علاقات الرياض ببغداد. ولئن كانت السياسة هي فن الممكن، فإن الرياض تتلقف المُتاح وتجتهد في رسم قواعد جديدة على خلفية صراع علني بين واشنطن وبغداد على النفوذ ومساحاته في العراق وسوريا والممرات التي تصل طهران ببيروت.

وعليه فإن مداولات السعوديين مع ساسة العراق تغرف من زاد يسمح للعراق نفسه بإعادة التموضع على نسق يختلف عن مزاج 2003، كما يسمح للسعودية لتموضع آخر يجعل من الرياض عاصمة فاعلة في يوميات هذا العراق الذي يتغير. وربما في المصافحة العاجلة في تركيا بين وزيري خارجية السعودية وإيران ما يلمّح إلى تجاوز البلدين حساسيات الشكل وما يفسّر »مغامرة« الرياض الجديدة في العراق.

على أية حال فإن الانفراج الذي أثمرته دبلوماسية الحج بين السعودية والعراق وما يتردد عن تقارب دبلوماسي محتمل بين الرياض وطهران سيجعل من الانفتاح السعودي على العراق أكثر سهولة طالما أن ليس هدفه التسابق مع إيران على النفوذ داخل هذا البلد. بالمقابل فإن ذلك الانفراج الشكلي في علاقات السعودية وطهران سيزيل العوائق من أمام المترددين في العراق في مقاربة علاقات طبيعية بين بغداد والرياض. وفيما تحذر القيادة السعودية من المبالغة في التفاؤل والتعويل على تطبيع في علاقات المملكة بنظام الجمهورية الإسلامية، فإن ذلك التحذير يحمل في طياته فصلا كاملا في استراتيجية الرياض بين علاقاتها مع الجار العراقي وتلك التي قد تتأخر كثيرا مع إيران.

تبدو السعودية في مسعاها الحديث أنها لا تستثمر في أوهام تتجاهل طبيعة وهوية النظام السياسي العراقي، بل إنها تتعامل مع قماشة طبقة سياسية تعمل وفق الأمر الواقع الإيراني داخل العراق، فيما جزء كبير من تيارات العراق، بشيعته وسنته وأكراده، يحجّون إلى طهران بصفتها عاصمة القرار العراقي دون منازع منذ غزو عام 2003.

لا تروم الرياض جذب ولاء العراقيين للمحيط العربي بدل ذلك باتجاه إيران. وقد يبدو أيضا أن الرياض مدركة لمآلات غيابها وغياب العرب عن »العراق الجديد«، وبالتالي مدركة لمدى النفوذ الذي بسطته إيران جراء ذلك الفراغ الفاضح الذي أتاحه العرب وأمعنوا به تجاهلاً للعراق. وبالتالي فإن السعودية، ووفق روحية مؤسسة الحكم في عهد الملك سلمان وبراغماتية أدواتها، تتعامل مع طبيعة الجار العراقي بصفته أمرا واقعاً وجب الاعتراف به كقاعدة لأي خريطة طريق جديدة بين الرياض وبغداد.

المصافحة المفاجئة لوزيري خارجية السعودية وايرن
المصافحة المفاجئة لوزيري خارجية السعودية وايرن

لا يغيب عن أبجدية العاملين في شؤون الجغرافيا السياسية أن الصراع الجاري منذ عقود بين السعودية وإيران، والذي يأخذ أشكالاً وأنماطاً مختلفة في ميادينه من اليمن إلى لبنان، تغافل من الجانب السعودي عن حقيقة أن لا مواجهة حقيقة لإيران وأن لا نجاعة لأي جهد يقف سداً منيعا ومانعا للاختراق الإيراني للمنطقة، إلا من خلال العراق. فهذه ضريبة الجغرافيا.

رغم فلتان أبواق عراقية، توالي إيران، منتقدة زيارة الصدر وما قبلها وما سيليها، فإن طهران قد لا يزعجها أو يقلقها »حجيج« قادة العراق إلى السعودية، خصوصا وأن ليس في مداولات الغرف المغلقة ما لن تعرفه. ثم إن إيران التي »يشكو« وزير خارجيتها محمد جواد ظريفي من امتناع السعودية عن حوار مع بلاده، قد تجد في ذلك الوصل العراقي السعودي ما يمكن أن يؤسس لقواعد جديدة في تعايش وتناكف الرياض وطهران.

اختراق لنفوذ إيران

قالت وكالة الاناضول التركية في تقرير تحليلي أن استقبال الرياض لزعامات شيعية عراقية خلال الفترة الماضية محاولة منها »لاختراق« نفوذ إيران والحد من هيمنتها على بغداد، ضمن استراتيجية سعودية لإعادة العراق إلى محيطه العربي«.

ونقلت الصحيفة عن خبير عراقي أن مصافحة وزير الخارجية السعودي عادل الجبير مع نظيره الإيراني محمد جواد ظريف في إسطنبول التي جاءت في الوقت الذي كان فيه الزعيم الشيعي العراقي مقتدى الصدر يزور المملكة تحمل رسالة من الرياض لطهران مفادها أننا قادرون على النزول إلى ملعبكم الخلفي )العراق( ومواجهتكم به، وأيضا على استعداد أن نمدّ يدنا لكم شريطة أن تكفوا عن تدخلاتكم بالمنطقة.

واتفق الخبراء أن استراتيجية السعودية في العراق يعوزها دعم خليجي وعربي لكي تحقق أهدافها، ودعوا السعودية والدول الخليجية والعربية إلى تشكيل تكتل سني عراقي قوي قادرا على ان يكون له تواجد في خارطة العملية السياسية.

اللافت أن المصافحة بين رأسي الدبلوماسية في البلدين، جاءت غداة اتهام السعودية، إيران، بالمماطلة ورفض استكمال التحقيق في حادثة اقتحام سفارتها في طهران وقنصليتها في مشهد في يناير 2016، وبعد يومين من توجيه الجبير انتقادات حادة لإيران بمؤتمر صحفي بالمنامة، قال فيها » أي دولة تتعامل مع إيران ستكون النتيجة سلبية عليها، فالإيرانيون سبب الخراب والقتل والفساد والدمار فلا يوجد دولة تعاملت مع إيران وحققت الخير«.

أيضا المصافحة جاءت في وقت كان يختتم فيها مقتدى الصدر زيارة للمملكة استمرت 3 أيام )30 يوليو/ تموز وحتى 1 أغسطس/ آب( في زيارة نادرة هي الأولى له منذ 2006، التقى خلالها بولي العهد السعودي )نائب الملك( الأمير محمد بن سلمان.

ما الذي يخططه مقتدى الصدر بعد زيارة الرياض وابو ظبي
ما الذي يخططه مقتدى الصدر بعد زيارة الرياض وابو ظبي

وجاءت زيارة الصدر بعد أسبوعين من زيارة وزير الداخلية العراقي قاسم محمد الأعرجي الذي ينتمي إلى فيلق بدر 17 يوليو/ تموز الماضي.

واستبق الزيارتين زيارة لرئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي إلى المملكة يومي 19 و20 يونيو/ حزيران الماضي-هي الأولى له منذ تسلمه مهام منصبه، نهاية عام 2014-اتفق في أعقابها البلدان على تأسيس »مجلس تنسيقي« للارتقاء بعلاقاتهما إلى »المستوى الاستراتيجي«.

وشهدت العلاقة بين الرياض وبغداد توتراً خلال الفترة الماضية، بعد تقديم بغداد طلباً، في أغسطس/آب الماضي، إلى الرياض، لاستبدال السفير السعودي، ثامر السبهان، بعد اتهامها له بـ زالتدخل في الشأن الداخلي العراقي«.

وبعد عقود من التوتر، بدأت العلاقات في التحسن بشكل كبير، بعد زيارة وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، لبغداد، في 25 فبراير/ شباط الماضي، هي الأولى لمسؤول سعودي رفيع المستوى، منذ عام 1990.

تحول بعد قمة الرياض

زيارة مسؤولين عراقيين شيعة أو قادة تيارات سياسية ودينية إلى السعودية ليست جديدة. فلقد سبق ان زار عمار الحكيم ومقتدى الصدر السعودية إبان فترة حكم الملك السعودي الراحل عبد الله. غير أن تلك الزيارات وقتها لم تتمكن من ترطيب الاجواء بين العراق الرسمي والسعودية ولا بين قادة تلك التيارات والرياض، رغم ان السعودية اعلنت عن اعادة افتتاح سفارتها في بغداد عام 2015 وتعيين السفير ثامر السبهان الذي سرعان ما بدأت عليه حملة واسعة النطاق من قبل الساسة والعراقيين الشيعة أدت بعد وقت إلى تغييره.

التحركات السعودية في الآونة الأخيرة باتجاه العراق جاءت تحديدا عقب القمة العربية الإسلامية الأمريكية في الرياض 21 مايو / أيار الماضي، والتي كانت على ما تبدو واضحة في دعم حكومة العراق برئاسة حيدر العبادي.

ويبدو أن واشنطن طلبت من الدول العربية الانفتاح على حكومة العبادي، وهو ما يفسر استقبال بغداد وخلال فترة قصيرة من تلك القمة لعديد من الوزراء العرب، كما ان الرياض تمثل الثقل العربي والاسلامي.

وساطة الأعرجي المزعومة بين السعودية وإيران

قبل أن يطلق الأعرجي تصريحه الشهير حول أن الرياض طلبت من العراق وساطة مع إيران، كان قد مرّ شهر كامل على محادثات المسؤولين السعوديين مع وزير الداخلية العراقي. صدرت عن الأعرجي بعد زيارته للسعودية ولقائه بنظيره السعودي الأمير عبد العزيز بن سعود بن نايف، وبعد ذلك بولي العهد الأمير محمد بن سلمان، تصريحات إيجابية تشيد بالانفتاح السعودي، ذلك أن زعودة العراق إلى المحيط العربي تصب في مصلحة الشعبينس، حسب رأيه. وقال الوزير العراقي إن العلاقات الجديدة مع السعودية والخليج لا تتناقض مع العلاقات مع إيران، وهو رأي لا شك أن إيران لا تنظر إليه بعين الرضى. أفاض الأعرجي ودا وتفاؤلا وترحيبا، ولم يتحدث البّتة، ولا حتى تلميحا، عن وساطة طلبت منه لتخفيف التوتر مع إيران.

لا يخفي وزير الداخلية العراقي علاقته الحميمة مع إيران. فالرجل من قيادات فيلق بدر الذي قاتل إلى جانب القوات الإيرانية أثناء الحرب العراقية الإيرانية، وهو من المعجبين بقاسم سليماني قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري، وسبق أن طالب بإقامة تمثال له )أي سليماني( في العراق. والأعرجي زحشديس، وفق تصريحاته، أي أنه ينتمي لقوات الحشد الشعبي ومؤيد لها ولاستمرارها جزءا من التشكيلات العسكرية للعراق، وهي التي سبق لقياداتها أن أطلقت التهديدات تلو التهديدات للسعودية مهددة باقتحام حدود البلدين للضرب في داخلها.

وحين استقبلت السعودية الوزير العراقي، استقبلته بتلك المواصفات الشخصية المعطوفة على كونه وزير داخلية يمثل رسميا ملفات الأمن في بلاده. بكلمة أخرى توجّه المسؤولون السعوديون إلى الأعرجي بصفته العراقية وبصفته الإيرانية دون حرج أو التباس، لكن الدعوات التي وجهتها الرياض للمسؤولين العراقيين كانت تهدف إلى تنشيط استراتيجية سعودية تروم فتح صفحة جديدة مع العراق تنهي مرحلة التوتر بين البلدين في عهود المملكة السابقة، وكانت في الوقت عينه تريد مقاربة عراق اليوم الذي تحكمه منظومة سياسية قريبة من طهران، بغض النظر عن حجم المسافات التي تصل حيدر العبادي أو قاسم الأعرجي أو مقتدى الصدر أو غيرهم لاحقا بنظام الحكم في إيران.

تصريحات الأعرجي، الذي يمثل جناح الصقور في موالاة إيران داخل الحكومة العراقية، تعبر عن امتعاض إيراني من تطور العلاقات الخليجية العراقية. باشر البلدان إنعاش مجلس للتعاون الاقتصادي، وفتح معبر عرعر الحدودي بعد ثلاثة عقود على إقفاله، وبدا أن مشاريع لإعادة التبادل التجاري سوف ترى النور، فيما تطلب الرياض فتح قنصلية سعودية في النجف.

بدا أن إيران تنظر بعين الريبة إلى سلوك زيعيد العرب إلى العراق ويعيد العراق إلى العربس، حسب تصريحات الأعرجي نفسه. وبدا أن إيران التي عملت بجهد كبير على جعل العراق تابعا للجمهورية الإسلامية ولعاصمة الشيعة في قم، تتأمل بقلق تحرك العراقيين برشاقة للعودة إلى حضن العرب الطبيعي، كما تحرك شيعة العراق لإعادة الالتفاف مع الشيعة العرب حول النجف.

والحقيقة أن تصريحات الأعرجي، التي قابلتها السعودية ببرودة وبنفي متأخر غير انفعالي، لا تستهدف الرياض وليست مبرر صدورها. فالسعودية لم تغير موقفها من إيران ومازالت متمسكة بالتقييم الذي قدمه الأمير محمد بن سلمان في مقابلته الشهيرة مع الزميل داوود الشريان. والسعودية التي تستند على موقف متشدد ضد السياسات الإيرانية في المنطقة، لا يمنعها ذلك من أن يقوم وزير خارجيتها عادل الجبير بمصافحة نظيره الإيراني محمد جواد ظريف، وهي مصافحة اعتبرها ظريف شخصية لا تغير من موقف البلدين، ولا تعتبر تبدلا في مقاربة الرياض لطهران. بمعنى آخر، أنه لو أرادت الرياض تحسين العلاقة مع طهران فهي بالتأكيد ليست بحاجة لوساطة الأعرجي.

تصريحات الأعرجي من طهران هي رسالة إلى العراق والعراقيين. لا تقوى إيران على تحمّل فكرة أن تكون للعراق سياسة مستقلة لا سيما على المستوى الخارجي، وخصوصا مع السعودية بالذات، دون أن يكون الأمر جزءا من الأجندة الإيرانية الإقليمية. ولا تحتمل إيران فكرة ذلك الحج الذي يقوم به المسؤولون العراقيون إلى الرياض ودول الخليج والذي سينخرط به مسؤولون آخرون. وما يضير إيران أن الرياض تقارب العراق من بوابة المسؤولين الشيعة )العبادي، الأعرجي، الصدر( بما يسحب من طهران احتكارها لدينامية شيعة العراق وشيعة العالم أجمع.

أرادت إيران من تصريحات الأعرجي أن تقول للعراق والعراقيين إن انفتاح السعودية على العراق وانتهاجها استراتيجية أخوة وتعاون مع بغداد، لا يجري لأن العراق دولة مهمة في التاريخ وفي الحاضر بالنسبة إلى الرياض، وليس لأن العراق يمثل امتدادا جيواستراتيجيا للعالم العربي، وليس لأن العراق مدخل لأمن المنطقة واستقرارها، وليس لأن العراق قوة اقتصادية يجب تفاعل المحيط معها. أرادت طهران أن تبلغ العراقيين عبر وزير داخليتهم أن بلدهم ليس إلا تفصيل إيراني وأن تقرّب السعودية منهم هدفه الوحيد هو التقرب من دولة الوصاية، إيران.

لم يؤكد حيدر العبادي ما ذكره الأعرجي عن طلب الرياض وساطته لدى طهران. يعوّل العبادي على المدخل السعودي الواعد لإخراج بلده من تحت المظلة الإيرانية. ينظر الرجل بترحيب إلى حركة مقتدى الصدر باتجاه السعودية ثم باتجاه الإمارات. يرى العبادي في التواصل العراقي الخليجي، أيا تكن حوافزه، ضرورة لترشيق الدينامية السياسية الداخلية لصالح الترويج لخيارات عراقية تكون بديلا عن قدرية الخيارات الإيرانية. ويعرف العبادي أن القضاء على داعش في بلاده يطرح أسئلة حول مسوّغات النفوذ الإيراني في العراق ومبررات حركة قاسم سليماني بفيلقه وحشده في العراق.

ولئن يمسك رئيس الحكومة العراقي بالعصا من النصف في الحرص على ديمومة الحشد الشعبي وعدم الإجهار بأي موقف يستفز طهران، فإن ضيق شيعة العراق قبل سُنتهم بات حقيقة تكبر كل يوم ضد تدخل إيران في شؤون بلادهم. يؤسس ذلك لمستقبل آخر يوسّع من هامش المناورة المحلي، ويوفّر أرضية لانفتاح العراق على محيطه العربي، لكن إقبال بغداد على ذلك يتأسس على حقيقة لافتة تعبر عنها الاستراتيجية السعودية.