بروكسل ترد على الإرهاب بمعرض عنوانه الإسلام جزء من تاريخنا أيضاَ

 رؤوف قبيسي:

قد يقول الغلاة من المسلمين ما يشاؤون في »الكفار«، لكن ما الذي يفعل هؤلاء الغلاة في العالم غير تشويه دينهم وتراثهم وإلحاق أكبر الأذى في حق بلادهم وثقافتهم وشعوبهم؟ بل ما هي الجهود التي يبذلون لرسم صورة حضارية إنسانية عن دينهم؟

 الجواب عندنا هو: لا شي!

كل الذي يفعلون، نشر ثقافة الحقد والكراهية بين الناس، وتذكير العالم بأنهم رسل الظلام وأسياد ثقافة الموت. قد يجدون ذريعة لكره الولايات المتحدة الأميركية »الشيطان الأكبر«، وقد يكون لديهم تحفظ على دول لها سياسة معينة في العالم العربي والعالم »الإسلامي« مثل بريطانيا وفرنسا على سبيل المثال، لكن ما ذنب دولة مسالمة بريئة، لا سياسة محددة لها تجاه العرب والمسلمين مثل بلجيكا، حتى يمارسوا فيها الإرهاب، ويضربوا مطارها ويقتلوا الناس؟

 لكن بروكسل »الكافرة«، التي معظم المهاجرين فيها من »المسلمين« أعقل من أن ترد الصاع صاعين، وها هي تلجأ إلى رد من نوع آخر، تقيم معرضاً عنوانه »الإسلام هو جزء من تاريخنا أيضاً«. معرض فريد من نوعه، يرسم بالنص والصورة علاقة الإسلام مع الغرب، والتي تعود حسب الوثائق المدونة، إلى مئات السنين.

لا »تخجل« بروكسل ومعها الأوروبيون، بعد كل ما ارتكبه الإسلام السياسي في القارة الأوروبية من القول للعالم إن الإسلام جزء من تاريخهم. إنهم لا يتنكرون لهذا التاريخ، ويحاولون أن يستمدوا منه دعائم ترسي بين أوروبا و»المسلمين« علاقة قوامها التسامح وقبول الآخر. ها هي إسبانيا وإيطاليا وفرنسا وبلجيكا الكاثوليكية تاريخاً، العلمانية حاضراً، ما انفكت تسمح ببناء المساجد، وفي فرنسا وحدها اليوم أكثر من ألف مسجد، لكن المتنطعين المتحفظين من »المسلمين« غير راضين. يريدون نشر الإسلام في أوروبا ليجعلوها مثل الدول الفقيرة المتخلفة التي هجروها! مع ذلك يبقى السؤال: أي إسلام هذا الذي يريد »المؤمنون« أن يذيعوه في الناس؟

أوروبا »الكافرة« هذه تقول إن الإسلام أسهم في رسم معالم كثيرة للحضارة الأوروبية، وفي مجالات عدة كالطب والفلسفة والعمارة والعلوم. هذا ما تقوله إيزابيل بينو، المسؤولة في منظمة »تيمبورا« التي نظمت المعرض. تضيف هذه المؤرخة قائلة: »نريد أن نوضح أن الإسلام جزء من الحضارة الأوروبية، ولم يفد إلينا قبل عهد قريب، بل ترجع جذوره إلى 13 قرناً«. بروكسل تفعل ذلك في الوقت الذي تتزايد فيه أعداد »المسلمين«، وتثبت الدراسات أن غالبية سكان العاصمة البلجيكية سيكونون من المسلمين خلال مدة لا تتعدى 50 عاماً، وذلك حسب نسب الولادة بينهم بين سكان البلاد الأصليين.

هذ المعرض الذي يدعمه الإتحاد الأوروبي، رسالة واضحة مفادها أن أوروبا لا تتردد في قبول الإسلام جزءاً من ثقافتها وتاريخها، شريطة أن يكون ديموقراطيا يقبل الآخر، مهما كان هذا الآخر. لكن االغلاة من »المسلمين« يريدون المزيد، وأن تكون الشريعة قانون البلاد، ولم يتورع أحدهم في لندن عن القول قبل سنوات إنه يتمنى أن يعيش إلى اليوم الذي يرى فيه برلمان إنكلترا التاريخي قد تحول إلى مسجد، مئذنته ساعة بغ بن الشهيرة!

نخالف الحق إذا قلنا إن الغلاة هم غالبية »المسلمين« في بروكسل وغيرها من عواصم أوروبا. الغالبية منهم تزدري الغلاة من غير شك، وتعتبرهم بعيدين عن الإسلام الصحيح. لكن ما هو هذا الإسلام الصحيح الذي تريده الغالبية من »مسلمي« أوروبا؟ ما هي قواعده وما هي طقوسه، ومن هم ممثلوه الحقيقيون؟ لا تبدو الصورة واضحة عندهم، ولا هي واضحة عند الأوروبيين أيضاً، السبب أن حركة الإصلاح الحقيقي في المأثور الإسلامي لم تبدأ بعد. حدثت في المسيحية التاريخية، لكن لا شيء في الأفق يشير إلى أنها بدأت في الإسلام. هنا تكمن المعضلة الأساسية في علاقة »المسلمين« بأوروبا، وموقف أوروبا من الإسلام المعاصر. ما لم يباشر »المسلمون« بحركة الإصلاح هذه قبل فوات الأوان، ويقدموا التوصيات التي توجد إسلاماً أوروبياً يقبل الأديان كلها، ويقبل الناس على اختلاف مذاهبهم الروحية وغير الروحية، فسوف تتفاقم المشاكل وتنذر بعواقب لا أحد بمقدوره أن يتوقع حجمها ومداها.

 لن يقدر الإسلام في أوروبا أن يجعل أوروبا مسلمة، لكن بمقدروه أن يصير أوروبياً إذا تهيأت له العقول الحرة والظروف المناسبة، وأن يتكيف مع التقاليد الأوروبية، ويغدو فعلاً إيمانياً مجرداً من التقاليد والعادات والأشكال التي لا علاقة له بها كجوهر. في السيرة النبوية أحاديث ومواقف كثيرة تشوه الإسلام، وتشين الرسول وتغض من شأنه، وهذا ماثل حتى في أهم كتابين من كتب السنة، هما »صحيح البخاري« و»صحيح مسلم«. لكن في السيرة أيضاَ ما يحبب الناس بالإسلام ويجل من قدر نبيه، وبمقدور العاقل والمسلم الحقيقي أن يستمد منها أشياء تسهّل الحياة، مثل قول النبي: »أنتم أدرى بشؤون دنياكم«. يكفي أن يعتمد »المسلمون« هذا القول الذي يتماشى مع »فقه التيسير«، ليتكيف الإسلام مع هذا العصر وكل عصر. حين نقول »التكيف«، لا نعني المس بالجوهر، بل الخروج من التقليد إلى رحاب الإيمان الذي يكفل حرية الإنسان، ويقبل العلماني والملحد وكل صنوف البشر، ويأخذ بطقوس وأشكال من نوع آخر، علماً أن التاريخ ينبئنا بأن الأديان كلها، ومنها الإسلام، أخذت بتقاليد البلاد التي دخلتها. في كلامه عن تاريخ المسيحية، يقول المؤوخ اللبناني الأميركي فيليب حتي في كتابه الموسوم »تاريخ الشرق الأدنى« إنه كان على المسيحية أن تصبح رومانية قبل أن تدعو الناس ليكونوا مسيحيين، وهذا يعني أن المسيحية كرسالة »محلية« لم تنتشر في العالم وتسود إلا بعد أن أصبحت رومانية! هذا ما يجب أن يحصل للإسلام في أوروبا حتى يهدأ ويستقر، ويصبح جزءا من ثقافة أوروبا، مثلما هو جزء من تاريخها. ما لم يحصل ذلك، لن تكون العلاقة بين الغرب و»المسلمين« في الغرب متجانسة، وسيشتد التنافر، خصوصاً بعدما قويت شوكة الإسلام السياسي، وضرب الإرهاب عشرات الأبرياء من الناس.

 في كتاب »الدولة اليهودية« لثيودور هرتسل، يقول الصهيوني العتيق إن الغيتو اليهودي في أوروبا هو الذي أوجد اللاسامية التي عاناها اليهود وعانتها أوروبا. كان هدف هرتسل من كتابه أن يقول لقومه من يهود المهاجر والشتات إن الحل لمشاكلهم ومشكلة اللاسامية هو عودتهم إلى »أرض الأجداد«، وبناء دولة خاصة بهم، يلجأوون إليها وقت المحن والخطوب، وها هم قد تمكنوا أخيراً من بنائها.

»المسلمون« في الغرب لا يحتاجون إلى أن يغتصبوا أرضا ليست لهم ليقيموا عليها دولتهم الإسلامية، كما فعل الصهاينة عندما قدموا إلى فلسطين متسلحين بخرافة اسمها أرض الوعد. دولهم »الإسلامية« هذه قائمة، وبإمكانهم أن يعودوا إليها إذا لم ترق لهم الحياة في الغرب. المشكلة أن غالبيتهم تؤثر البقاء في الغرب فيماهي تعتبر التكيف »حراماً« وخروجاً على »الصراط المستقيم«، وتتمسك بتقاليد وطقوس تراها من صميم الدين. يحصل هذا فيما المال يتدفق من دول »إسلامية« لدعم هذه« الحملات الإسلامية« على أوروبا، تساندها فضائيات من الشرق تدخل بيوت المهاجرين »المسلمين« لتحثهم على البقاء على ما هم عليه، وعلى عدم الاندماج، وتنهاهم عن التعامل مع »الكفار«، مواطني البلاد الأصليين!

قد يتساءل قارىء: ما الذي نعنيه بالتكيف، وما معنى القول أن يصبح الإسلام أوروبياُ؟

المسألة باختصار تتصل بالطريقة التي ننظر فيها إلى الدين، وإلى »الكتب المقدسة«. حين يكون الدين قشوراً وأشكالاً، لا جوهرا ولباباُ، يصعب التكيف. يقول تي أس إليوت »كان على المسيحية في تاريخها أن تتكيف دائماً مع الواقع، وهذا ما أبقى عليها عقيدة جديرة بالإيمان«. كانت المسيحية في القرون الوسطى كنيسة جامدة، شديدة البأس والبؤس، ولم تلن وتصبح منفتحة رحبة إلا بعدما تكيفت، وقبلت أن تتعايش مع الدولة المدنية العلمانية، حتى صارت علمانية في روحها. من بين كل القديسين اللاتين في التاريخ، كان أوغسطين أشهرهم وأرفعهم شأناَ، وكتابه المشهور »مدينة الله« لم يعط المسيح حقه كما أعطته الدولة المدنية التي نشأت الغرب، لأن أساس هذه الدولة قام على مبدأ المساواة والحرية وتقديس القانون. الإسلام لم يتبن هذه الدولة المدنية بعد ويا للأسف، بقيت طقوسه وأشكاله وقشوره جامدة وحجبت جوهره ولبابه، وابتعد عن أن يكون فعل إيمان حقيقي كما يجب أن يكون، لذلك يستغله الحكام والسياسيون، ليبقوه سلعة يتاجرون بها على حساب الشعوب المغلوبة على أمرها، وثرواتها وحاضرها ومستقبلها.