عزيزتي بولا يعقوبيان: لا سعد الحريري ولا غيره أهل لأن يكون زعيماً وطنياً

رؤوف قبيسي:

أكتب إليك لأقول إن لي ملامة على الذين يصفقون اليوم لسعد الحريري من الأتباع والأنصار. أريد قبل أي شيء أن أبدد شكوك أصحاب الظنون، الذين يضعون الناس في خانات هويات طائفية، ويظنون أن أي معارض للحريري، لا بد أن يكون من مناصري جماعة 8 آذار، أو شيعياً، او قومياً سورياً، أو شيوعياً، أو ما شابه. ليسترح أصحاب الظنون، وحملة الأختام منهم بنوع خاص، فأنا لست من أصحاب هذه العقائد في شيء، ولم أنتم في حياتي إلى أي عقيدة دينية أو سياسية، وقد أذعت ذلك وكتبته غير مرة في »النهار« وغير »النهار«، لا حلم لدي إلا العيش في دولة لا يحكمها صيارفة الهيكل ولصوصه، دولة مدنية حرة عمادها العدالة والقوانين، ولا سلاح فيها إلا سلاح الدولة السيدة، لا سلاح »حزب الله« ولا سلاح أي حزب آخر، ولا سلاح الشرعية الفارغة التي يتغنى بها المنضوون في تيار المستقبل، وتيار 14 آذار.

من وحي إيماني بهذه الدولة أكتب إليك، لأني واثق كل الثقة بأنك تشاركينني الرأي والحلم، كما الغالبية من اللبنانيين، بأن الدولة المدنية هي الحل الوحيد الذي لا حل لنا غيره لهذا الوطن المثقل بالأوجاع، والإطار الوحيد الذي يجعلنا شعباً متجانساً، ويجمعنا على أهداف وطنية موحدة، تمكننا من درء الأخطار. أعرفك جريئة وذكية، لكن ربما يكون قد غاب عن بالك أن تطرحي على سعد الحريري الأسئلة الأساس التي تتصل بأساس الدولة وبنيانها، لا أن ينصب الحوار على مسألة عودته إلى لبنان، وفيه بدا الرجل، كأنه المخلص الذي على يديه يبرأ لبنان من أوجاعه، وينهض من بين الأموات!

قبل أن يحدث الحريري تلك الصدمة »التاريخية« بأسابيع، كان في لبنان، وصرح على أثر اجتماع بين حليفيه نبيه بري، ووليد جنبلاط وقال: »إتفاقنا ينقذ البلد«! هكذا بكل سهولة يقول إن اتفاقه وِشخصين آخرين ينقذ البلد! أي بلد هذا إذا كان أمنه واستقراره، مرهوناً بمزاج فرد أو ثلاثة أفراد، مهما كان شأنهم في الحياة العامة؟ أهذا هو لبنان الذي نريده آمنا مستقراً لنا وللأجيال الآتية؟ مهما يكن فقد أخلّ الحريري بهذا الإتفاق عندما استدعي إلى السعودية وأحدث تلك الصدمة. أخجل وأحسبك تخجلين أيتها العزيزة، أن ننتمي إلى هكذا بلد، منطق حكامه منطق رجال العصابات، لا منطق رجال ونساء الدولة السيدة الحرة؟ إذا كان الأمر كما أقول، لا يكون سعد الحريري عندئذ زعيماً وطنياً، مهما حاول أن يسّوق نفسه بالقول إنه يمثل كل اللبنانيين، ولا أحد غيره من المتربعين اليوم على كراسي الحكم يستحق هذا اللقب الشريف.

ما فتئ السيد سعد الحريري يضع اللوم على سلاح حزب الله، لكنه يعرف أنه لو لم يكن هذا السلاح موجوداً لما كان هو رئيساً للوزراء! لقد ورث الزعامة عن أبيه، وتعززت زعامته من كونه »سنياً« يقارع حزب الله »الشيعي« في لبنان. هذه هي الحقيقة العارية. أما الحقيقة الثانية فهي أن اللبنانيين لم يعرفوا حكاماً وطنيين في المطلق، ولم ينعموا بيوم واحد من الحرية منذ رحل الفرنسيون عن أرضهم، وما احتفالهم بعيد »الاستقلال« إلا مهزلة ما بعدها مهزلة. إذا كان هناك دولة يحق لها أن تحتفل بهذا العيد فهي فرنسا، لأنها خرجت من بلد صار مستنقعاً! قد يناسب حكام لبنان »الوطنيين« أن يحتفلوا بهذا العيد، لأنه مكّنهم من الإمساك بمقاليد السلطة التي كانت بيد »المستعمرين«، وهذا التحول صار مع الأيام وبالاً على البلد والناس. كان جورج نقاش يقول ضدان لا يصنعان أمة. بهذا الوتر من الضدين يرأس الحريري »السني« اليوم رئاسة الوزراء، ويتربع السيد نبيه بري »الشيعي« على كرسي المجلس النيابي، ويحلو للزعيم »الدرزي« وليد جنبلاط أن يظل أميراً على الجبل، ويصبح ميشال عون »الماروني« رئيساً للجمهررية!

هنا أود أن أخاطب الحريري عبر هذه الرسالة وأقول له: تأخذ سلاح حزب الله تعلة لتبني لك مجداً؟ ألفت نظرك أيها الوارث زعامة أبيك، إلى أن لبنان لو حافظ على الوصية التي تركها البناؤون الفرنسيون، وصار دولة علمانية كما هي فرنسا، ما كانت »سياسة توريث الكراسي« قاعدة من قواعد الحكم في لبنان، وما كانت إسرائيل تجرأت على غزوه، وما كان حزب الله وجد، ولا ظهر سلاحه. وأنت خير من يعرف أيها الوارث، أن هذا الحزب لم يخرج من لبنان »الدولة«، بل خرج من لبنان »المزرعة«، وهذه المزرعة ما زالت قائمة، ومن طالع سعدك يا سعد أنه مزرعة، وإلا ما كنت اليوم في منصبك. أحب أيضاً أن أذكّرك إن كنت ناسياً، أن هذه المزرعة هي التي صنعت اتفاق الطائف المشين الذي رعاه والدك الراحل، وصنعت قبله إتفاقاً آخر مشيناً، عنيت به »اتفاق القاهرة« الذي رخص لبندقية »أبوات« الفصائل الفلسطينية، ومكّنهم من التحكم بمقادير لبنان، وهم بدلاً من أن يقتلوا نسراُ من نسور صهيون الجارحة، صوبوا بنادقهم على عصافير الداخل، وشاركوا في خراب بلد كان جنة من جنان الشرق، كما وصفه المؤرخ فيليب حتي.

لست أدري ما إذا كنت تذكرين، قولي أثناء لقائنا على شاشة »المستقبل« قبل نحو عامين، إن جماعة 8 آذار و 14 آذار هم أعداء لبنان، ولا خير في أي واحد منهم مهما قالوا وفعلوا. مهما يكن، آثرت في ذلك اليوم أن أسمع حوارك مع الحريري، لأعرف إذا كان سيتفوه بشيء جديد. لم يقل الرئيس الغائب أو المغيّب، إن النظام اللبناني الذي هو أحد ممثليه الكبار فاسد يجب تغييره، بل صب جام »غضبه« على حزب الله وزاد بالقول إنه )أي الحريري( يمثل كل اللبنانيين، ناسياً او متناسياً أنه ممثل لطائفة، مثله كمثل الأخرين من أفراد جوقة الحكم. نعم، ثارت الحمية الوطنية عند اللبنانيين. وهم، لطيبة قلوبهم، ولفرط ما فقدوا من الآمال، صاروا يتعلقون حتى بحبال الهواء، ليشعروا بشيء من الاطمئنان، وبأن لهم وطناً حقيقياً. لكنها حمية عاطفية لا يمكن أن تدوم، لأن هذا النظام الطائفي سوف يجهضها وهي في المهد، ويقضي عليها قضاء تاماً، أو يحولها إلى سياسة كره وعداء تجاه أحد الأطراف! أؤكد لك أن هذا ما سوف يحصل، لأن أهل النظام لا يمكن أن يستمروا في الحكم، إلا إذا كان البلد منقسماً على ذاته، مشتتاً بين شيع ومذاهب!

. لا يا عزيزتي، لا سعد الحريري ولا غيره من الممسكين بمقاليد السلطة في لبنان يستأهل هذه الصفة، لأن نظام بلدنا لا »يفرز« زعماء وطنيين، بل زعماء طوائف. من ثمّ، ألم يكن سعد الحريري رئيساً للحكومة لسنة وأكثر، فما الذي فعل، وما الذي أنجزته هذه الحكومة غير المزيد من فقدان الأمل لدى الناس؟ قد يقول الحريري الذي يأخذ حزب الله ذريعة، إن هذا الحزب حرر جنوب لبنان من الصهاينة، لكنه لم يحرره من التبعية للخارج. لكن في المقابل، ماذا فعل هو ليحرر لبنان من التبعية للخارج؟ ألم يقدم استقالته من بعيد، وفي أداء غريب ما زالت تحوم حوله الشكوك، ولا نظير له في تاريخ الديبلوماسية؟! ألم يكن هذا التصرف من جانبه تكريساً للتبعية الخارجية بامتياز؟! أما سلاح حزب الله فلا أحد ينكر أنه حرر الجنوب من مخالب الصهيونية، وهذا تاج الحزب الذي لا غبار عليه، لكن هذا السلاح، لم يعد في نظرفئات من اللبنانيين وطنياً، والدليل أن لا إجماع عليه من جميعهم، إذ يراه بعضهم سلاحاً مذهبياً، وآخرون يرونه سلاحاً فارسياً، وما شابه من نعوت تزيد حدة الكراهية، ويدفع البلد جراءها أثماناً باهظة من مستقبله ومستقبل بنيه. أقول ما أقول، لا لأسجل موقفاً سياسياً من هذا الحزب، بل إشارة إلى واقع لبنان الراهن، ومكانة حزب الله فيه، علماً أن القيمين على هذا الحزب، يعرفون كيف تتبدل الظروف، وتأخذ طرقاً مختلفة المفارق، وهم أكثر الناس دراية بها وبذيولها على الأرض!

بقيت كلمة اخيرة آمل أن يتذكرها سعد الحريري، ولا يتركها تغيب عن باله، وهي أنه لو لم يكن »سنياً« لما أتته الزعامة منقادة، فلا يقل بعد اليوم إنه يمثل كل اللبنانيين، ولا يرطن بكلمة الشرعية، ولا يدع شيعته وأنصاره بعد اليوم يعزفون لحن الدولة الموهومة. الحقيقة العارية الجارحة أن سعد الحريري زعيم »طائفة« ولا شيء غير ذلك، ووجوده في الحكم إلى جانب زعماء الطوائف الآخرين، يؤخر قيام الدولة المرتجاة التي يحلم بها اللبنانيون الأحرار، والتي هي خشبة الخلاص الوحيدة لنا في بحرهذا الشرق المتلاطمة أمواجه. أما الكلمات المعسولة التي ما برح الرجل يرددها في غير مناسبة، ومنها أنه حريص على إرث رفيق الحريري ضنين به، وتلك الدموع التي كان على وشك أن يذرفها على الشاشة، وهو جالس في داره الواسعة الفارهة في الرياض، فلا قيمة لها في ميزان العدل والمساواة والرحمة، وهي ليست شيئاً، إذا قيست بقطرة دم طفل فقير، وآهات مواطن محروم في هذا الوطن المعذّب.