كركلا يرحل راقصاً إلى فينيقيا ويعود مسرعاً الى… صجسر القمرش

جاد الحاج ـــ جبيل لبنان

درج عبدالحليم كركلا على مواجهة التحديات الكبيرة من خلال محاولاته ربط الرقص بخلفيات تاريخية وفولكلورية متنوعة. والواقع انه أصاب النجاح الأوسع في ما يخص الرقص أكثر مما أصاب في معالجة عمق مواضيعه التاريخية. وتبدو هذه الحقيقة جلية الوضوح في عمله الاخير »فينيقيا« الذي عرضته مهرجانات جبيل في النصف الاخير من شهر آب )اغسطس( الماضي. بديهي ان »فينيقيا« موضوع واسع وخصب ولا يخلو من الالتباس في بعض الحقائق العائدة إلى سيطرة الفينيقيين على البحر المتوسط وغزوهم المحيط الأطلسي وصولاً إلى القارة الأميركية.

   انتشرت حضارة الفينيقيين من طريق البحر والتجارة والابتكار الصناعي والحرفي على امتداد ما لا يقل عن 1200 سنة )بين 1500 و300 قبل الميلاد( ولذا من غير المنطقي ان نتوقع تغطية شاملة لـ»فينيقيا« التاريخ والحروب والمستعمرات والاختراعات والمدن التي أسسوها على طول الشواطئ الشرقية للمتوسط. لكن هناك علامات بارزة في مراحل الانجاز الفينيقي قلما اختلف حولها المؤرخون فبقيت مداميك اساسية لدورهم الريادي في استنباط حروف تلقفتها الحضارات القديمة واستعملتها وطورتها وكتب بها غير الفينيقيين نصوصاً موصوفة.

يعتقد المؤرخ الاغريقي سترابو ان الفينيقيين جاؤوا من البحرين. وفي القرن التاسع عشر تبنى تلك النظرية الفنان الألماني أرنولد هيرين استناداً إلى المؤرخين اليونانيين الذين كتبوا عن صور )تايلوس( بالفارسية و)تاير( باللاتينية. لكن لا شيء يؤكد وجود سكن في البحرين او هجرة منها في الفترة الواقعة بين 2200 و1600 قبل الميلاد. ولذا تبقى نظرية أبو جرير الطبري أقرب إلى المنطق، فهو يعتبر الكنعانيين، أجداد الفينيقيين، من العرب البائدة الذين كانوا من جنس العمالقة. ويشير إلى ذلك ابن خلدون القائل ان أول ملك للعرب كان في الشام وكان من العمالقة. في ذروة سلطانهم، أي في السنة الألف قبل الميلاد، ابتكر الفينيقيون  إثنين وعشرين حرفاً ساكناً، وكان الاغريق أول من اعتمدها وطورها إلى نص أبجدي بحروف متحركة وأخرى ساكنة. لكن الحروف الاولى بقيت محفورة على قبر أحيرام ملك جبيل في تلك المرحلة. واضافة إلى الحروف أسس الفينيقيون اقتصاداً عالمياً سبق العولمة الحديثة بدهور! وبنوا مستوطنات بحرية أصبحت مدناً شهيرة مثل بيبلوس وصور وصيدا وأرواد وبيريتوس )بيروت( وقرطاج وغيرها.

بعد غزوة الفارسي سايروس لفينيقيا سنة 539 ق.م  تأسست أربع ممالك رئيسية على الشاطئ الشرقي للمتوسط: صيدا، صور، أرواد وجبيل. غير ان الازدهار المشترك بين تلك المدن لم يكن  ليصمد إلى الابد ، فقد ثارت صيدا سنة 350 ق.م  وسحق ثورتها ارتحششتا الثالث واضرم فيها النار ، ثم استولى الاسكندر الكبير على أرواد وأطاح بملك صيدا فانبرت صور تقاوم بضراوة دامت اكثر من ستة اشهر ما جعل الاسكندر قاسياً بشكل وحشي على أهلها،  أعدم ستة آلاف منهم فور عبوره أسوار المدينة، ثم صلب ألفين من  مواطنيها البارزين ، وغنم اكثر من ثلاثين ألف صوريّ جعلهم عبيداً للبيع لاحقاً. عملياً بدأت نهاية الحقبة الفينيقية المزدهرة بعد سقوط صور، الا ان الفينيقيين لم يذوبوا تماماً بفعل وجود قرطاج التي ما لبثت أن حاربت روما حتى سنة 146 قبل الميلاد لدى مصرع هنيبعل في حملته الملحمية الاخيرة. وانتشر الاثر الفينيقي على امتداد الشواطئ التي شملت أوغاريت في شمال فلسطين وقبرص وعكا وجزر السيكلاد وكريت وكيليكيا وطرطوس ورودوس وارمينيا. لكنهم نقلوا الكثير من اعمالهم ونشاطهم إلى صقلية ومالطا تجنباً لمنافسة الاغريق الذين عرفوا اوج انتشارهم المتوسطي بعد سقوط صور. وانطلق الفينيقيون نحو افريقيا من البحر الاحمر وعبر رأس الرجاء الصالح. ثم ابحروا نحو المجهول غرباً … وفي دراسة للباحثة هينيكا زودهوف بعنوان »عفواً كولومبوس لست أول من اكتشف أميركا« أوردت زودهوف حججاً دامغة  عن عبور الفينيقيين للمحيط الاطلسي ووصولهم إلى القارة  الاميركية، من بينها شواهد تضم آلاف القطع الاثرية التي عثر عليها في مقابر غواتيمالا، اضافة إلى نقوش بعضها شهير ومعروف مثل نقش بارابيا في ولاية يوتا الاميركية. وهناك مؤشرات تؤكد على اتساع التجارة الفينيقية وتخطيها المنتجات المحلية من الاخشاب والزيوت والخمور والحبوب والعسل والجلود إلى استيراد وتصدير الصوف من اسبانيا والحجارة الكريمة من مصر والشرق الأقصى، والنحاس من قبرص واليونان، والمعادن الثمينة والتوابل والخيول والقطن والكتّان والعاج والابنوس…

  ما اوردناه للتوّ نذر يسير جداً مما يختزنه تاريخ شعب اسس المدينة ذ المملكة المستقلة على شواطىء المتوسط، وترك بصمة الابجدية كالوشم على وجه التاريخ. حصار صور مثلاً  ملحمة تحاكي ذروة المقاومة والبسالة مما يشبه ما عاشه ويعيشه مقاومو العالم من اميركا اللاتينية إلى فلسطين في عصرنا الحاضر. وديانات الفينيقيين وحدها موضوع يثير المخيلة ويحض على التوظيف الفني، ناهيك بالتأمل في اصول تقاليدِ ومعتقدات دينية وطقوسية لا تزال في حيّز الممارسة حتى اليوم. على سبيل المثال: نلحظ وجود ثالوث مقدس يشمل آلهة المدن الفينيقية الكبرى: بعل الحكيم المسن،  عشتروت إلهة الحب والجمال، والفتى- الذبيحة ادونيس، ثلاثة يتجلى حضورهم في آلهة صيدون وجبيل وصور، ولو ضمن تباينات سطحية. وفي  طقوسهم ملامح الأضاحي الإبراهيمية التي تناولت التطهر قبل الصلاة ودخول الهيكل، وارتداء الكهنة ملابس فخمة، ونبذ الخنازير.  وفي مراسم الحداد على موت احد الآلهة  حلق الفينيقيون رؤوسهم و لطموها واقاموا المناحات المطولة التي تذكرنا بعاشوراء، لكنهم ايضاً انتظروا القيامة المتوقعة قريباً،  حيث  كانوايعتقدون ان الاله قام من بين الاموات وصعد إلى السماء!

 قطف عبدالحليم كركلا من كل ما ورد اعلاه وما لم يتسع له المجال، حوالى عشرين دقيقة تقريباً لإفتتاح عرض صفينيقيا الاسطورة المستمرةش على مسرح مهرجانات بيبلوس الدولية: شاشة ضخمة تتصدر خلفية الخشبة وموسيقى عريضة الاوتار، موغلة في التصعيد التمهيدي، رافقت انبلاج  وحي من بحر بيبلوس    سطع  على الشاشة وراحت امواجه تفور وصتتبركنش . . . هو!هوو!هووو! وتسطرت  حروف الابجدية على المدى الأزرق، ثم ما لبثت ان هرّت مثل قطر المطر كي تتوزعها الأمم الجاهلة، فاعترتنا  قشعريرة الحمض النووي مدركين صلات القربى بيننا وبين فينيقيا الجدود: هذه حروفنا ايها العالم! لولاها لما عرفتم الكتابة والقراءة!  وابحرنا  مع النص السمين المنبعث من كل حدب وصوب  نرفرف بالفخر والاعتزاز، وجلس أحيرام ) رفيق علي احمد( على عرشه ونطق سطوراً قليلة غير مفسرة باللغتين المنقرضتين: الفينيقية والفرعونية، اعدهما له خبيرا اللغات القديمة، البروفيسوران الايطاليان انريكو اكوارو وباولو دي فيتا. وهنا ترجمة خطاب احيرام: »فلنخشع كلنا امام الهتنا بعلة جبيل، انضموا اليّ انا الملك احيرام لنصلي ونشكرها.ش ثم قال ملك الفراعنة رمسيس: ص أووو، ايها الملك العظيم. جئت اليك من ارض النيل ولديّ معاهدة لجمع شعبينا. آلهتنا باركت هذا اللقاء وهذه الصداقة.ش وعندئذ تحرّكت المجسمات الضخمة على طرفي المسرح شاهدة على النقلة الجغرافية بتماثيل فرعونية . . . وبدأ العرض الراقص.

صممت الرقصات أليسار كركلا واخرج المشهديات شقيقها إيفان. وكما هي العادة مع كركلا تدفقت الملابس مثل موج  كاد ان يغرق سبّاحيه. ملابس رائعة من دون شك. لكنها زائدة في الفضفضة احياناً وفي بعض اللولبات الارضية لاحظنا اعتراضها حركة الراقصين. الا ان الرقص الجماعي جاء موفقاً واستطاعت جودته الواضحة ان تحرك تفاعل النظارة  كما لعبت الأداءات الفردية ايضاً دوراً جذاباً في  هذا المضمار. وليت كركلا اكتفى بالرقص والديكور من دون ديباجات شفهية سرعان ما تدحرجت عبر الازمنة إلى نسخة باهتة من صجسر القمرش للرحابنة، حيث يقع الخلاف بين فلقتي ضيعة ويتكرر موّال المخاتير ومجنون القرية )رفعت طربيه( الذي قتل حاله ليضحكنا حتى ابكانا شفقة على موهبته المهدورة بنصّ لا يستحق حبره ولا حتى حبر نقده. وينسحب هذا الوصف على كامل حورات صفينيقياش بل كأنها كتبت قبل اختراع ابجدية المسرح ولم يسمع كاتبها بالشاعرية وخفة الدم والابتعاد عن المباشرات الثقيلة.