تحية الى الدكتور المربي واضح الصمد

د. علي الصمد

مدير عام وزارة الثقافة اللبنانية

أرسطو، أعظمُ فلاسفة الإغريق قاطبةً، ماليءُ دُنيا الفلسفة وشاغلُ أربابها، على مدى العصور، ومُربيِّ الإسكندر المقدوني، كان يُمكِنُ أن تُخلَعَ عليه ألقابٌ شتّى، ولكنَّهُ خُلِّدَ بلقبٍ لا تؤتاهُ إلاّ الصفوةُ من البشر فعُرف بالمعلم الأول!

تمضي قرون، فيطلّقُ على الفيلسوف العربي أبي نصرٍ الفارابي لقبُ المعلم الثاني، تأسِّياً بالمعلم الأول. أوليسَ في ذلك إعلاءَ لشأن المعّلم والعلم في آنٍ، مصداقاً لقوله تعالى في القرآن الكريم :  » هل يستوى الأعمى والبصير، أفلا تتفكّرون؟؟؟

كأننا بالمعلم، حامل رسالة العلم والمبشِّر بها، في أي ميدان من ميادين المعرفة، يُنير لبني قومه، للأجيال، سُبُلَ الهداية، فتتفتّحُ قلوبُهُم وتتحطَّمُ الأقفالُ التي ضُربتْ عليها، ويذهب ماغشيَ ابصارَهُم، فإذا هُمُ مُبصرون!

أجل أيها الأحباء، ويعبُرُ هذا اللقبُ، يحطّ الرحالَ في هذه البلدةِ الوداعةِ، يطرقُ بكلتا يديه على باب عظيم من أبنائها البررة، عنيتُ المرحوم الدكتور واضح الصمد، يُناديهِ أن جئتُك لكي أتلبَّسَكَ وتتلبَّسني، وليغدو المعلمَ الأوَّلَ في بخعون، ولتُنشأ، على يديه، أجيالٌ وأجيال، ولينشروا في أربع جهاتِ الأرض، أطباء ومهندسين ومحامين ورجال أعمال، حاملين ذِكر معلمهم إلى يوم يُبعثون!

الدكتور واضح الصمد، غدا إحدى العلامات الفارقة في مسار هذه البلدة مسارِ الضنية، مُعلياً شأن قيم الحق والخير والجمال، باثَّاً إياها في نفوس تلامذته، وهي قيمٌ من روحِ الله، فاللهُ هو الحقُ المطلق، والخير المطلق والجمال المطلق!

وهكذا يغدو المعلمون – وواضح الصمد في عِدادهم- فيهم شيءٌ من روح الله تعالى، فهم – كالأنبياء- معلمو البشرية ومنتشلوها من وِهادِ الجهلِ، يرتقون بها إلى رُبى الهداية والنور!

ولعلها إشارةٌ إلهية ذاتُ مغزى كينوني أزلي، تدعو جهراً إلى تنكُبِ سبيل العلم، فاستُهِلَّ الذكرُ الحكيم، بدعوةِ النبي محمد (ص) إلى القراءة :  »إقرأ باسمِ ربك الذي خلق…«، فالقراءة هي مُبتدى الدعوة وسلاحها المكين، وهي مُبتدى العلم ومُنتهاه، والمعلم مأمورٌ – من موقع الرسالة، بأن يَقرأ وبأنْ يُعلّمَ، وفي ذلك الفضلُ العظيم!

اليوم، إذْ نحتفي بأبنائنا وأخوتنا الطلبة في ثانويات الضنية الزاهرة، ممن تفوقوا في الشهادة الثانوية العامة، بفروعها الأربعة، نحتفي في الوقت عينه بذلك المعلم الأول الذي شقَّ طريق المعرفة أمام الأجيال، ووسّع من آفاقها، مُحْدِثاً تغييراً مفصلياً في الهيكلية التربوية في بخعون، حيث أقتصِرَت على التعليم الإبتدائي، فكان للتعليم المتوسط أن يحلّ فيها بعد عقودٍ من الحرمان! وكم في ذلك من توفير جهدٍ ومشقةٍ على أجيالنا آنذاك إذْ كانت مضطرةً للإلتحاق بمدارس طرابلس لإكمال مسيرة التعليم، وقد حُرمت منها أعدادٌ كبيرة، بسبب ظروف أهاليهم المُعسِرة!

وإذ اطمأن الدكتور الصمد على أهل بلدته، وأدّى قسطهُ في المجال التربوي، وغدت بخعون، كما يُقال، ذاتَ اكتفاء ذاتي تربوياً، تابع تحصيله العلمي، حاز الدكتوراه، وغدا أحد الأساتذة البارزين في الجامعة اللبنانية، وعلى رُغم انتقاله الى القطاع الجامعي فهو باقٍ المعلم الأول في بلدتنا، وفي عموم الضنية، وهو لقبٌ تأبّدَ معه، وقد استحقه بجدارة!

اليوم، على السنة الثامنة على التوالي، وعسى أن لا تتوقف عقاربُ الزمن، فتكون سنواتٌ وسنوات اليوم نحتفي بكوكبةٍ من طلبة الضنية المُجلّين، هم حَمَلَةُ مشعل هذه المنطقة، بل هم نصفُ حاضرنا وكلُّ المستقبل! فهذه المنطقة التي عانت حرماناً مزمناً، على مختلف الصُعُد، لا يمكن أن ترتقي إلاّ بجهود أجيالها المتعلّمة، وبمتابعة مسيرة العلم والمعرفة، وهي مسيرة، والحمد الله، تُحرز تقدّماً مطرداً، وعساها تبلغ مسافاتٍ أكثر بُعداً، وتحتل مساحاتٍ أكثر رحابةً!

أننا، في وزارة الثقافة، لن نألوَ جهداً في أن نبذل ما وسِعَنا الجهدُ في تفعيل الحراك الثقافي ذلك أن التعليم لن يُبلغَ مداه ويأخذ بُعده الحقيقي ما لم تواكبه فعالياتٌ ثقافيةٌ، تُسهم في تنمية المنطقة، والثقافة هي روح العلم، يغتني بها وتغتني به.

باسم وزارة الثقافة التي أمثلُ اليوم في هذه العشية المباركة، وباسمي شخصياً كإبنٍ لهذه البلدة، وكنسيبٍ لصاحب الذكرى الدكتور واضح الصمد، أتوجّهُ إلى أبنائنا وأخوتنا الطلبة المتفوقين بكبير تهنئة وتبريك، داعياً إياهم إلى أن يتابعوا بعزم مسيرتهم العلمية والتعليمية الظافرة حتى تبلغ مداها والنهايات، ويكون لنا بهم نفعٌ كبير.

ولا يسعني إلا أن أتقدّمَ بجزيل الامتنان من لجنة التكريم التي أولتني شرف التكلم في هذه المناسبة العزيزة على قلبي، والشكر موصولٌ إلى عائلة فقيدنا الكبير، مثِّمناً مضيّهم في إحياء هذه المناسبة للسنة الثامنة على التوالي، من موقع الوفاء للمرحوم والدهم، معلمنا الأولى، وأحد بُناة نهضتنا التربوية في بخعون وفي عموم الضنية. وفي هذا المجال أستعيدُ الحديث النبوي الشريف :  »إذا مات ابن آدم، انقطع عمله الاَّ من ثلاث  »صدقة جارية، أو علمٌ يُنتفعُ به، أو ولدٌ صالحٌ يدعو له«.

عسى أن تبقى هذه الجائزة بمنزلة صدقة جارية! وعن العلم الذي يُنتفعُ به، فقد ارتوينا من علمك، أيها المعلم الأول، حتى الثمالة! وعن الولد الصالح، فأبناؤك، بإحيائهم ذكراك، كل عام، يدعون لك إلى يوم الدين!