في حوار مع الروائيّة والشّاعرة سارة الزّين

بيروت- من ليندا نصّار

تعدّ الأديبة سارة الزّين، ابنة الجنوب اللّبنانيّ، من الوجوه الحاضرة في الوسط الثّقافيّ. الكتابة بالنّسبة إليها روح وسطوة آلهة مقدّسة لا ترحم ولا يكفيها شيء، بالنّسبة إليها، العزلة الكتابيّة هي أساس العمل الإبداعيّ. تختار سارة الزّين مواضيعها منطلقة من قلقها المعرفيّ وانشغالها بالسّؤال الخاصّ المنفتح على الاحتمالات كافّة. في كتاباتها، تناولت الرّوائيّة شخصيّة المرأة بكلّ انفعالاتها وهواجسها، وعبّرت عن خصوصيّة التّجربة من معرفتها بذاتها باتّجاه معرفة الآخر، متسلّحة بلغتها السلسة وتقنيّات السّرد الرّوائيّ، ولم تخفي سارة الزّين شاعريّتها إذ جعلتها تتسلّل إلى أعماق كتبها، في أثناء تجسيدها للواقع في المتخيّل الرّوائيّ، عاملة على ابتكار الصور التي تزيد النّصّ جماليّة.

نشرت سارة الزين قصّتها الأولى »شعاعٌ في الليل الحالك« عن عمر لا يتجاوز الـ 15 عاما

ونشرت بعدها روايتها الثانية »على شاطئ الخلود« وهي على مقاعد الدراسة المدرسية وبعدها أصدرت روايتها الثالثة »ليتها تموت«. شاركت الروائية في العديد من الامسيات والمهرجانات العربية

بقراءات وكتابات نقدية في بعض الدواوين لشعراء لبنانيين.

»الحصاد«: تحضر شاعرية السرد في تجربتك الروائية. ما الذي يمكن أن تضيف لغة الشعر إلى الروائي؟ هل أنت مطمئنّة إلى المسعى الجماليّ الّذي اعتمدته في الكتابة الروائية؟

سارة الزّين: »الشعر والسرد مختلفان ومتداخلان في آن واحد… كثيرا ما أَعمدُ إلى إدخال السرد في قصائدي التفعيلية، وكذلك لا بدّ من أن يظهر شيء من الشاعرية في الرواية والسرد. وغالبا ما يلجأ الشعراء إلى الرواية في مراحل لاحقة كي يفرغوا فيها ما في جعبتهم من خبرات وتجارب لا يمكن للشعر الإحاطة بها. غير أنّي دخلت عالم الشعر من سنتين فقط بعد أن نشرت 3 روايات في عمر مبكر وكتبت روايتين لم أنشرهما بعد.

اللغة الشعريّة بما تحمله من جمالٍ وإحساسٍ وبلاغة ورمزيّة، تضيفُ الكثير إلى الروائيّ. الأمر شبيه بطبق طعام من دون منكّهات… من دون لذّة! اللذة تكمن في شاعرية النص! في قدرة الكاتب على تطويع الحرف والفكرة بطريقة إبداعية، والأمر دقيق جدا، فإذا كثرت المنكّهات

سارة الزين

والبهارات فسدت الطبخة! وإذا كانت قليلة كان الطبق باهت الطعم! لا يجب على الشاعرية أن تطغى وتخدش تقنيات السرد الروائي، الأمر يحتاج إذن إلى دربة وشغف شعري ممزوج بحرفية سردية، للوصول إلى ذلك النغم الضائع عند كلّ الكتّاب والشعراء.

الاطمئنان والوصول واليقين أعداء الإبداع والابتكار، أمّا السؤال والشّكُّ والبحث والأرق فإنّها المفاتيح العتيقة الثمينة التي تساعد الكاتب على تحدّي ذاته وتوسيع أفقه وتغذية حرفه الشعريّ والسرديّ«.

»الحصاد«: ماذا تعني لك الكتابة؟ وإلى أيّ نوع تميلين بشكل أكبر: إلى الشّعر أو إلى الرّواية؟

سارة الزّين: »الكتابة روح… سطوة… آلهة مقدّسة لم ترحم السومريين ولا الكنعانيين ولا اليونانيين ولا الرومانيين… فكيف لها أن ترحمنا؟! تحتاج إلى قرابين كثيرة كي ترضى.. ولا يكفيها شيء!

الكتابة وحشٌ ينمو تحت جلدِ الأديب. يؤرّق ليله ومضجعه، يحمل وجعا لذيذا، »مورفين« يبعث على الهستيريا والإدمان..

الكتابة أشبه بموت ولود! لا يحلو إلا بالزفرات!

أما في المفاضلة بين الشعر والرواية، فالأمر صعبٌ وخطير، منذ فترة اعتزلت كلّ شيء وعشت بضعة أيّام أكتب فيها روايتي الجديدة، أعيش فيها علاقة توحّد مع الأبطال والشخوص والأحداث، أدخل سجني الانفراديّ طوعا وشوقا، وكنت أراقب الشعر من بعيد يتلصّص عليّ بثوبه الملكيّ من حين إلى آخر، يدعوني إليه… وكنت على مسافة جنونٍ وحرفٍ منه… أنظر إليه وهو يمدّ حباله مستمسكا باللاوعي المنسوج بالشوق واللهفة كي يلج عالمي

ويتنصت على زفراتي وخيانتي له مع الرواية ولكني لم أعطه بعد اذن العبور… فقد أحكمت الرواية قبضتها عليّ في تلك الفترة… وبعد أن انتهيت من الكتابة، تمنّع عنّي الشعر طويلا، لم تكن استمالته من جديدٍ سهلة، تطلّب الأمر منّي نزفا ووجعا وتعبا كي أرضيه…

لطالما قلتُ إنّ الشعر مهلكي، وحتفي بين رويٍّ وقافية… ولكنّ الرواية عالمٌ خطيرٌ وفتّاك، سحرٌ خاص، شيءٌ من شعوذات »يوسّا«، مع جموح »مورافيا«، وجنون »كازانتزاكيس«… خلطةٌ لا يشبهها شيء… نارٌ لا يمسّها الرماد… ولا تأخذها سنةٌ ولا نوم! عالمٌ مسكونٌ بألف جنّ.. والآلهةُ فيه ولود!

لذلك فالحالة التي أمرّ بها هي التي تحدّد لي ميلي«.

»الحصاد«: كيف يمكن للكتابة أن تلمّ بتفاصيل الإنسان هذا الكائن الهشّ الّذي يواجه كلّ ما يحيط به سواء في مجتمعه أم في وطنه؟ ما البعد الذّي تحمله رواياتك؟

سارة الزّين: »الكتابة هي الترجمان الأقدس لهذا الكائن الهشّ… لأوجاعه وصرخاته وتنهداته ونزفه… والحزن وحده نحّاتٌ ماهر! يفجّر القصيدة بإزميل حادّ، وهو أبلغ شاعرٍ عرفته.

الكتابة هي نوعٌ من التصوير الفنّي للواقع وقد تكون نوعا من الهروب إلى فضاء أوسع وأرحب، بحسب خيارات الكاتب (الكتابة الواقعية أو الرومانطيقية أو الفانتازيا… وغيرها).

غالبا ما أركّز في رواياتي على البعد النفسي، وقد غرقت في قراءة كتب تتعلّق بعلم النفس والأمراض النفسية وتواصلت مع أطباء ومعالجين نفسيين قبل أن أنهي روايتي الجديدة كي أتمكن من الحديث عن شخوص الرواية بدقّة ومصداقية تقارب أوجاع الناس وهمومهم«.

»الحصاد«: لا أحد منّا يستطيع أن يجادل في مدى خصوصية المتخيّل الذي يعمل الروائي على إبداعه في نصوصه. هل المجتمعات العربيّة ألهمتك بالكتابة لأنها تسمح للمبدع بأن يهيم في أسئلة اللامحدود؟ ماذا أضاف إليك اختصاصك وقراءاتك وثقافتك لفتح فضاء الرواية على عدّة نواحٍ؟

سارة الزّين: »هذا السؤال مهم جدا، وهناك كتاب رائع للدكتورة الناقدة يمنى العيد يتحدث بإسهاب حول الشق الأوّل من سؤالك.

بالنسبة إلى رواياتي الثلاث الأولى، فقد كتبتها قبل أن أبلغ التاسعة عشر من عمري، ثلاث روايات كانت نتيجة شغف ونهم شبابيّ عارم، ولم أكن أحمل في جعبتي من خبرة أو قراءات أدبية إلا القليل، ولكنّني كنت أستقرئ الناس والمجتمع جيّدا، كنت أراقب بصمت، وأقوم بتدوين كل ما يلفت نظري.

كنت أرى أن المجتمع العربيّ يعيش تخبّطا وجوديّا مريبا، وكانت السياسة تأخذ حيّزا كبيرا من وقتي وكنت يوما بعد يوم أقتنع أكثر أن السياسة أشبه بكيس فحمٍ تلوّث كلّ من يقترب منه، لذلك ابتعدت وفتّشت عمّا يغذّي الثقافة والفكر ويقرّب المرء من إنسانيّته وفلسفة وجوده على هذه الأرض. المواطن العربي الذي يعيش على هامش الحياة راضيا بالقليل استفزّني غير مرّة للكتابة عنه، لطالما آمنت أن الهوامش ستنقضّ يوما ما على متن النص وتغيّر المعادلة.

نعم جذبتني الفلسفة وأسرتني… وبما أنّها كانت أمّ العلوم لم أجد تناقضا بين اختياري للعلوم الطبيعية في دراستي وبين أهدافي وطموحاتي والكتابة. بل شعرتُ أنّ الجانب العلميّ يرفع النص الأدبيّ أكثر ويثريه ويُبرزه، ويمنع عنه الشطحات غير المبررة.

أولم يكن »ليوناردو دافينشي« رسّاما ومهندسا وجيولوجيّا في الوقت نفسه؟!

العلوم الطبيعية جعلتني أقترب أكثر من تكوين النفس البشرية، من التحليل المنطقيّ للأشياء، من الطبيعة التكوينية المؤثرة في الإنسان«.

»الحصاد«: ما سرّ اختيار وطرح هذه المواضيع في رواياتك؟ هل يعود ذلك إلى تفجير مشاعر وانفعالات المرأة في داخلك بفعل الرّغبة الشّديدة بالتّعبير عمّا تحمله كلّ امرأة في قلبها؟

سارة الزّين: »غالبا ما تفرض الفكرة نفسها على الكاتب، الأمر متعلّق بسطوة الحرف وسيطرته، السطوة اللذيذة التي يراها البعض نوعا من الإلهام، أو الجموح والوحي أو شيئا من اللاوعي الباطني المكبوت الذي يتفجر عبر الكلمة والكتابة.

ليتها تموت

هناك أحيانا حدث معيّن أو مشهد ما في حياة الكاتب يدعوه إلى كتابة الرواية، لم تؤرّقني المرأة يوما، ربما لأنني تربّيت في منزل كان دور المرأة فيه أساسيّا وبارزا وكانت المرأة فيه تعيش حياتها بشكل طبيعيّ بعيدا عن سطوة الرجل وشرقيّته عليها كما الحال في العالم العربي. وكنت أرى أن على المرأة أن تمارس حقوقها عمليّا لا أن تطالب بها من وراء حجاب. لذلك آمنت بها كثيرا، وبأن العقل البشري لا يعيقه جنسٌ أو دينٌ أو حزب، وأن العصبيات تخنق أصحابها أوّلا، وأن أجمل ما يقدّمه المرء هو الأثر الطيب بين الناس والخلق الحسن. لذلك حاولت عبر الرواية أن أشير إلى الجانب الأخلاقي الذي لا يمكن للمادة أن تتطوّر بعيدا عنه. وكذلك لا كمال للأدب إذا ما لم يحط بالشقين المادي والروحي معا«.

»الحصاد«: تحمل رواياتك وخصوصا »ليتها تموت« مشاهد للمرأة بشخصيّتها السّهلة والمعقّدة، بقوّتها واستسلامها. هل استوحيت هذا التصوير للمرأة من نمط عيشها في الدّول العربيّة؟ أو أنه شكل من أشكال التخييل الذاتيّ في السرد الروائي؟

سارة الزّين: »في رواية »ليتها تموت«، تحدثت عن امرأة ثلاثينية عزباء تعشق التحكم بأقدار الناس ولا تؤمن بالحب. تعيش تخبّطا ذاتيّا واضطرابا نفسيّا حول مفهوم الدين والحب والرجال والمرأة.

نعم أظنّ أن أغلب النساء العربيات المتحررات يعشن نوعا من التخبط، وذلك لأن العقليّة العربية المحدودة والمنغلقة كانت لهنّ بالمرصاد، وما زلنا حتى هذا اليوم نعاني من فكرة قاتلة لأفق المرأة وهي أنها بحاجة دائما للرجل وأن تكون خلف ظلّه! وكأن كينونة المرأة مرتبطة بالرجل وغير مستقلّة بذاتها.

أنا طبعا أؤمن بتكامل الرجل والمرأة معا، ولكنّ هذا التكامل يجب أن يقوم في الأصل على بناءٍ حقيقيّ متينٍ وواعٍ وواثقٍ وثابت لكلٍّ من الرجل والمرأة!

الفجوات العرفية والفكرية والاجتماعية هي التي جعلتنا نورث بعضنا جيلا بعد جيل عقدا كثيرة ومتعبة تحدّ من قدرتنا على الشروق.

وفي الإجابة عن سؤالك أقول، لقد أخذت من الاثنين معا، ففي البداية كنت قد استلهمت واستوحيت هذه الشخصية من نمط عيش المرأة عامّة، ولكنني ومن خلال الأحداث والتفاصيل التي تفرض نفسها على الكاتب، غرقت في التخيّل كي أعطي النص بعدا معيّنا ولكي أزيد على الأحداث جانبا مختلفا فيه صدمة حينا ومخالفة للأعراف السائدة حينا آخر.

الانزياح لا يتعلّق فقط باللغة، بل أيضا بالأفكار والتفاصيل، باعتبار أنّ الموضوعات لا مساس بها وهي مطروحة في الطرقات، لذلك لم يبقَ الا الأسلوب والأفكار والتفاصيل التي تحيي العمل الأدبي وتثريه«.

»الحصاد«: هل تؤمن الروائيّة والشّاعرة »سارة الزّين« بقدرة الرواية على تفجير المسكوت عنه عن طريق الكتابة الروائية؟ وإلى أي حدّ تعتبرين نفسك استطعت أن تحفري في أعماق الشّخصيّات في روايتك؟

سارة الزّين: »أؤمن وكثيرا.. بل وأكثر من ذلك… أنا على يقين أن الكلمة تغيّر مصير الشعوب، وتبدّل أمما وحضارات، وأن بإمكان العمل الروائي أن يصنع جدلية مصيريّة، على أن يكون المجتمع قارئا واعيا ومتلقيا حرّا وأن لا يغلّف نفسه بالأطر التي تحدّ من إعمال العقل والفكر وتطوير الذات.

لقد جاءت الرواية الواقعية كرد صارخ على المدرسة الرومانسية، وقد أحدثت رواية »مادام بواري« للروائي الفرنسي »غوستاف فلوبير« ضجة كبيرة بسبب جرأته حيث صوّر فيها ما هو واقعي ووضيع وتافه كما وصوّر ما هو نبيل ورفيع، وروايته أثارت قضّية »الأدب المكشوف«.

أمّا بالنسبة إلى روايات وشخوص الرواية، فلقد حاولت في روايتي الجديدة أن أمكّن الشخوص من إبراز هويّتها ورأيها ووجودها، فلقد لفت نظري الشاعر والأديب والأمين العام السابق لاتحاد الكتاب اللبنانيين الأستاذ غسان مطر خلال رعايته لحفل توقيع روايتي الثالثة إلى أنّه يجب عليّ التركيز أكثر على تثبيت هويّة شخوص الرواية. وهذا ما عملت عليه لاحقا، لأنّ الروائي إذا ما لم يصوّر الشخوص بدقّة وحرفية عالية لن يستطيع التأثير من خلالها على القارئ المتلقّي.. ولن يتمكّن من إحداث فرق يذكر أو تفجير المسكوت عنه والذي من المفترض أن يسعى إليه ليحمل عمله هدفيّة وبعدا ساميا ورسالة عملية حقيقية.

وبتّ أميل إلى أن تكون الشخوص متطوّرة في الرواية لا أن تكون نمطية، وأن تكون النهايات مفتوحة كي يستطيع القارئ المشاركة في التأويل والخيال.. ولكي يحدّد هو ويقرر بنفسه ما الذي ينبغي تغييره«.

العدد 92 – ايار 2019