في حوار مع الشاعرة الإماراتية مريم الزرعوني

 الصمت والتدفق الشعريّ

الشاعرة مريم الزرعوني للحصاد:

” أؤمن بقدرة الكتابة على الخلاص.”

“قبل الأدب والكتابة وُجدت اللغة، وأنا واقعة تحت سحر اللغة الذي لا أرجو انفكاكه، بل أصبو إلى تلبّسها والتماهي معها، للمزيد من الإحاطة والكشف.”

“في أوج الدفق الشعوري يتعطّل الكلام، وتُوكل المهمة إلى الصمت.”

تمثل الشاعرة والفنانة التشكيلية والنحاتة الإماراتية مريم الزرعوني تجربة مهمة في الفن الحديث، وقد شكلت تجربتها أنموذجًا مميزًا في الشعر. تبدو في ممارساتها الكتابية بلاغة الصمت واستعادة اللحظات من أزمنة وأمكنة تحتفظ ذاكرتها بها. كذلك تتأمل في نصوصها فتقرأ أسئلة تبنى عليها بعض قصائدها لتقبض على فلسفة إنسانية وحياتية وجودية في داخلها. إنها الشاعرة التي تميل إلى الشعر وتبدي تعلقها بسحر اللغة من بين سائر الفنون التي تبدع فيها. فاللغة تحمل أوجه عدة لتوصل معنى الحياة وتفاصيلها اليومية، وهي تضم الشعر الذي يعدّ العنصر الجمالي الكاشف عن عمق الوجود الإنساني، كما أنه يفسح المساحات للشاعر كي يطلق ذاته في حالات تصنع فيها اللغة عوالم يبتدعها كاتبها لتمتزج بفضاءات العالم

صورة مريم الزعوني

الخارجي، خصوصًا ونحن وسط هذا العالم الذي يعيش فيه الإنسان سوء فهم للحضارة بالتقاتل والحروب والتدمير والقسوة. من هنا تأتي رسالة الشاعرة الجمالية في محاولة للتحرر والتحرير والبوح الكتابي. وقد وجدت الشاعرة مريم الزرعوني مساحاتها لتكشف عن هذا الدفق الشعوري في نصوص تنتمي إلى الجمال وتنتصر للإنسان وللحياة بصورها الجمالية وأحلامها المبتغاة.

تكتب مريم الزرعوني في ديوانها “لم يعد أمرًا ذا أهمية” والذي ترجم حديثًا إلى اللغة الفرنسية:

قصيدة بعنوان صورةٌ جماعيةٌ ولا رفاق:

في فمكَ يتكسرُ الماء،

يتمزق الهواءُ في رئتيك،

الصورُ في مخيلتك شظايا،

تتبخرُ العبرةُ،

ويُرابطُ الملح

ثمَّ تذروهُ الغصَّةُ في عينيكَ

وتتساقطُ الذاكرةٌ المُرَّةُ

سمًّا ينعقدُ في يديكَ

ذلكَ يعني أن تنكسرَ

فتضحكَ كثيرًا،

تضحكُ ملءَ قلبِكَ،

يتَّسِعُ، يتمَدَّدُ،

يُزاحمُ رئتيك،

وتضيقانِ بهوائهما الحزين،

تُسرِّبانِه معزولًا إلى الفضاء

يتبعُهُ يمامُكَ

هاجرًا أعشاشَ روحك،

هكذا يكتملُ انكسارُك.

الحصاد تواصلت مع الشاعرة مريم الزرعوني وكان لها معها الحوار الآتي:

  “الحصاد” في ديوانك ولوج إلى عالم المرأة حيث تتجلى فيه بلاغة الصمت على الرغم من أنّك قد تمكنت من تجسيد حيواتها بتفاصيلها. لماذا هذا الصمت المختبئ بين الجمل الشعرية؟

“مريم الزرعوني” سرّني أن وجدتِ في كل ذاك البوح صمتًا، ولعلّ الجواب في بيت أبي نواس: “مت بداء الصمت خيرٌ***لك من داء الكلام”، والحقّ أنني لم أتعمّد ذلك، لكنني أميل في الشعر إلى الاقتضاب والإشارة، فالشعر ليس محل الإسهاب والثرثرة، من حق القارئ أن يجد فسحة يستمع فيها إلى نفسه فيما يقرأ، يتأمّل، يفكّر ويؤوّل إن شاء، والكلام يحتمل في العادة الذم والمدح، أمّا الصمت، فممدوحٌ على الدوام، وقد مارسه الشعراء منذ القصيدة العربية الأولى، وفي أوج الدفق الشعوري يتعطّل الكلام، وتُوكل المهمة إلى الصمت. والبلاغيون يستحسنون الصمت ويقدّرونه ولهم فيه رأي، يقول الجرجاني: “الصمت عن الإفادة أزيَد للإفادة”.

“الحصاد”  عن الماضي واستعادة اللحظات من مرحلة الطفولة وحتى اليوم، كيف استطعت التعبير عن هذه السيرة من خلال الشعر؟

“مريم الزرعوني” أؤمن بقدرة الكتابة على الخلاص، وهذا لا يعني أنني أردت الخلاص من ذاكرة مرحلة الطفولة، لكن الكتابة ساعدتني، ولاسيما الشعر، لطالما شغل مختبر الطفولة مساحة لا أستطيع تجاهلها في وجداني، وألحت عليّ للتعبير عن ذاتها والتحرر، ثمة مشاهد وخبرات بمحمولات نفسية واجتماعية، ظلت تعترك في داخلي، حَوت مشاعر مختلطة، أبرزها الامتنان وربما الحنين آخرها، من أهمها علاقتي بالأجداد. إنّ تجليها في نصوصي الشعرية، شكّل انزياحًا مُرضِيًا إلى الأمام، وأفسح حيّزًا لتجارب مختلفة وجديدة، وأنعم عليّ بالخِفّة.

“الحصاد” حضرتك نحاتة وفنانة تشكيلية أيضًا بالإضافة إلى  كتابتك الشعر. ماذا تقولين عن هذا التوازن بين الجنسين؟ وإلى أي مدى تمدّين قصيدتك بسرديات الحياة والتعبير عنها من خلال الفن التشكيلي؟

“مريم الزرعوني” لست وحدي في الجمع بين الفن والكتابة، يحضرني الآن المفكر والشاعر الكبير أدونيس الذي مارس الفن التشكيلي وتوغل فيه حتى أقيمت له المعارض الفنية، بالإضافة إلى مترجم ديواني فهو شاعر و فنان تشكيلي كما أسلفت، أظنّ أنّ لا غرابة في الأمر، فكلا الحقلين وسيلة تعبير عن الفكر والشعور، بالنسبة إلي ظللتُ متنازَعة بين الاثنين، إلى أن حسمتُ الأمر لصالح الكتابة، ولكنّ الولع بالفن ظلّ مستحوذًا على حيّز مني، فكثيرًا ما ألهمتني الأعمال التشكيلية في المتاحف التي زرتها؛ لنصوص شعرية، وأثارت فيّ رغبة البحث عن مبدعيها، وحيثيات العمل ذاته، ما جعلني أتوجّه إلى الكتابة عن الفن في الملاحق الثقافية لعدد من الصحف العربية، وأنا راضية تمام الرضا عن الشكل الذي أعبر فيه عن شغفي بالتشكيل، إنها الكتابة مرة أخرى الكفّة الرّاجحة في الميزان تسعى لدفع كفّة الفنّ نحو الاتزان.

“الحصاد”  هناك تقدير مهم من المترجمين لتجربتك. ماذا تمثّل لك هذه التجربة؟ وما هي أهمية ترجمة الشعر إلى اللغات العالمية؟

“مريم الزرعوني” لطالما قرأت الشعر المترجم والفرنسي بالتحديد وأعجبت بشعراء مثل “بول فاليري” و”إيف بونفوا” و”فيليب جاكوتيه”، تحت تأثير تلك القراءات شغفت بالفرنسية بالرغم من قراءتها بالعربية، لقد أحببت صوت اللغة الفرنسية في ذاته، فحاولت تعلّمها ومازلت، كان سعيي في ترجمة ديواني الثاني إلى الفرنسية مدفوعًا بالكثير من العاطفة تجاهها، وأن أستمع إلى نصوصي تُتلى بالفرنسية. لقي الديوان قبول واستحسان مجموعة مترجمين، لكني كنت حريصة على أن يترجم الديوان شاعرٌ قبل أن يكون مترجمًا، فوُفّقت بمترجم شاعر وروائي وفنان تشكيلي، ذاعت مُكنته في الترجمة، إنّه الأستاذ محمّد حمّودان، فرنسي مغربي في باريس، سررت بالتقاطعات التي تجمعنا، فقد مارستُ الفن التشكيلي بالإضافة إلى الكتابة، أبدى استعداده للترجمة ومضينا في المشروع، ثم رشح الديوان لدار أكورا المغربية التي اعتنت به للغاية، وأشهرته في معرض الرباط الدولي للكتاب يونيو الماضي، حيث كان حفل التوقيع. ترجم الديوان إلى الإسبانية أيضًا الشاعر والمترجم القدير الأستاذ حسين نهّابة، ولاقى استحسان دار نشر إسبانية مهتمة بالشعراء العرب، وأرجو أن ترى الترجمة الإسبانية النور قريبًا. سُئلت مرارًا عن الترجمة إلى الإنجليزية، وسبب تخطي اللغة الأوسع انتشارًا، الحق أنني ما تخطّيتها بل تبعت شغفي بالفرنسية، أما الإنجليزية فكانت من نصيب روايتي الموجهة لليافعين والصادرة قبل أعوام، فقد اعتنى بها وترجمها أ.د صالح الشكري، وأعد دراسة نقدية بالإنجليزية عن مجمل إصداراتي في الشعر والسرد، ونحن الآن بصدد البحث عن دار النشر الأنسب.

“الحصاد” إنّ المتتبّع تجربة مريم الزرعوني ينتبه إلى أنشطة ثقافية أخرى تمارسينها منها مشاركاتك في المعارض الثقافية وغيرها. هل تتوسعين في عرض هذه التجربة أكثر؟

“مريم الزرعوني” الإمارات ساحة مثلى للأنشطة الثقافية على مدار العام، يكاد لا يخلو أسبوع من ندوة أو أمسية أو عرض فني، علاوة على معارض الكتب ومهرجانات الفنون والآداب الموزعة في المدن طوال السنة، الزاخرة بالجلسات والحوارات حول النتاج الإبداعي الأدبي، ومن منطلق إيماني بأنّ الأنشطة الثقافية جزء أصيل في الكتابة، وكوني عضوة في اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات، أحرص على الحضور والاطّلاع في فضاء تجتمع فيه العقول والأفكار، وتُعرض فيه تجارب الآخرين في أجناس الكتابة المختلفة. أما عن المشاركة والانخراط في تلك الأنشطة، فأرحّب به عندما تكون المشاركة إضافة لتجربتي، بعيدًا عن التكرار، أو في حال أصدرت عملًا جديدًا. ثمة شكل آخر من المشاركات أحرص عليه، وهو الورش التدريبية والإقامات الأدبية، لأنّ المَلَكة منفردة لا تصنع إبداعًا مميّزًا، أتطلّع دومًا لتجويد كتابتي، وتجديد أدواتي ومشاركة الآخر تجاربه الثامرة. لقد أفدت بشدّة من انتسابي لورشة كتابة طويلة امتدت لستة أشهر في مركز أبو ظبي للغة العربية، وأسفرت عن تجربة روائية في طريقها إلى النشر، كما أتاحت لي الإقامة الأدبية في أحد مراكز الكتابة الإبداعية العريقة في اسكوتلاندا، فرصة ثرية لحضور ورشات كتابة الشعر والسِيَر والمراجعات، وتقديم ورش كتابة إبداعية منطلقة من تجربتي مع اليافعين.

“الحصاد” ما الجديد الذي تتطلّعين إليه في مجالات الأدب والكتابة؟

“مريم الزرعوني” قبل الأدب والكتابة وُجدت اللغة، وأنا واقعة تحت سحر اللغة الذي لا أرجو انفكاكه، بل أصبو إلى تلبّسها والتماهي معها، للمزيد من الإحاطة والكشف. لهذا انتسبت في برنامج الدراسات العليا لنيل الماجستير في اللغة العربية وآدابها، والآن أنا في غمرة الجمال، وقتي مكرّس للدراسة والبحث، أما الكتابة الإبداعية فنصيبها فضول الوقت في هذه المرحلة، ولحسن الحظ أنّ لدي مجموعة من الأعمال المنجزة بين الشعر والقصة والمقال، أتطلّع إلى دفعها لدور النشر.

قصيدة بعنوان “بحثًا عن جسر”

مدجَّجٌ أنا بهذا العبور،

بعمرينا المتقاطعين هنا،

وطفولةٍ مُسنَّةٍ

دويٌّ كلها فواصلُ الأيام..

وعشبٌ أصفرُ يجرحُ الجوع.