سهيل بشروئي من علامات التنوع اللبناني

ليس جديداً ما يمرّ به لبنان من تجارب على الحافة بين حياة وطن وموته، فلطالما مرّ لبنان بمثل هذا الاختبار، وكتبت له النجاة لكنه كان يخرج من التجربة مجروح القلب دامي الجسد. وها هو الآن منخرط في اختبار أكثر صعوبة مما مرّ به.

في هذه الأيام يتمسك اللبنانيون بالأمل مهما كان ضئيلاً، ومن علامات الأمل مظاهر وشخصيات أعطت لبنان نكهته كوطن للحرية والتنوع، وهذا ما أكسبه قوة وقدرة على مواجهة الصعاب والعبور نحو عيش السلام.

عندما اشتعلت حرب لبنان عام 1975 كان سهيل بشروئي (1929-2015) يعلّم الأدب الإنكليزي في الجامعة الأميركية في بيروت وما لبث أن تولى رئاسة دائرة تدريس هذا الأدب حتى العام 1986.

الحرب في وطن جبران خليل جبران لامست وجدان بشروئي الشاعر والناقد والباحث والمترجم والأكاديمي، هو الذي اعتبر لبنان تجسيداً لما ينبغي أن تكون عليه أوطان الشرقيين: الحرية وقبول الآخر وتعدّد الأديان وحقوق الإنسان.

كانت الحرب تهدد العينة أو النموذج، وتذكّر بشروئي بتاريخ أسلافه الذين اضطُّهِدوا في إيران أواسط القرن التاسع عشر ودفعوا الى المنافي، من بغداد الى اسطنبول الى عكا حيث سجن بهاء الله منشئ الديانة البهائية ثم دفن قرب حيفا. وأسلاف بشروئي، ولنقل الجماعة الدينية التي ينتمي اليها، يعتبرون أنفسهم حاملي نهج الخروج من دائرة العنف التي ولّدتها عصبيات التاريخ الديني، نحو الإيمان المستعلي على وقائع التاريخ والقائم على الاعتراف بالآخر.

لابد من هذه الإشارة, من أجل معرفة أعمق بشخصية بشروئي الثقافية، على رغم أنه لم يشر إلى ذلك في أي علاقة اجتماعية أو أكاديمية أو ثقافية مع أشخاص أو مؤسسات، إذ كان يكفيه حضوره الثقافي والعطاء بلا حدود ولا شروط، وكان يردّد أمام أصدقائه دائماً هذه الأبيات لمحيي الدين ابن عربي:

لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي

إذا لم يكن ديني إلى دينه دانِي

وقد صار قلبي قابلاً كل صورة

فمرعى لغزلان وبيت لأوثان

ودير لرهبان وكعــــــبة طائــف

وألواح ومصحف قرآن

أدين بدين الحب إني توجهت

ركائبه، فالحب ديني وإيماني

ومن العصر الحديث يذكر هذه الأبيات لأحمد شوقي:

الدين لله، مَن شاء الإلهُ هدى

لكلّ نفس هوىً في الدين داعيها

ما كان مختلِفُ الأديان داعيةً

الى اختلاف البرايا، او تَعاديها

الكتْبُ والرسْلُ والأديانُ قاطبةً

خزائن الحكمة الكبرى لواعيها

محبّةُ الله أَصْلٌ في مراشدها

وخشيةُ الله أسٌّ في مبانيها

وإذا كانت الصداقة تدفعني للكلام على بشروئي، فوفائي له كلبناني هو الدافع الأكبر، لأن هذا المثقف آثر الانتماء الى لبنان، هو الذي ولد في الناصرة لأب، هو بديع بشروئي الذي تخرج في الجامعة الأميركية في بيروت مطلع القرن الماضي وعمل في التعليم ثم في الإدارة المدنية للانتداب البريطاني. يقول عنه المؤرخ نقولا زيادة أنه كان قائم مقام جنين ويعود إليه الفضل في بناء مدارس كثيرة في فلسطين. وقد بث هذا الأب في أبنائه حب لبنان الذي جسّده سهيل لاحقاً في انتمائه الى هذا الوطن، وفي غير لفتة الى جبران عزّزت عالمية صاحب “النبي” وأوجدت لتراثه مركز دراسات في جامعة ميريلاند الأميركية، اكتسب ديمومته لاحقاً تحت اسم “كرسي جورج وليزا زاخم للدراسات الجبرانية”. والتفت بشروئي للعرب الذين أحب الجانب المضيء من تراثهم، فكتب بالإنكليزية ونشر كتاباً عن التراث الأدبي العربي، وآخر في عنوان “حكمة العرب” حظي باهتمام نخب أميركية وأوروبية أعربت عن دهشتها من نسبة مادة الكتاب الى أمة تبدو صورتها سلبية جداً مع صعود عصبيات مسلحة تهدّم بحماسة منجزات الدولة العربية الحديثة، آخذة في طريق الخراب أيضاً أثار الأمم القديمة: صور تفجير تدمر لا تغيب عن خيال المثقفين الإنسانيين، والكتاب الثالث عن العرب صدر بالإنكليزية أيضاً قبل وفاة بشروئي بأسابيع في عنوان “1500 سنة من الأدب العربي”.

عاش بشروئي طفولته في فلسطين وشبابه في مصر حيث تتلمذ في جامعة القاهرة على طه حسين، وتخرج في أكسفورد، وعلّم قليلاً في الخرطوم، ثم في بيروت حوالي عشرين عاماً وجد خلالها تجسيداً لهويته المتعدّدة فانتمى الى لبنان مرآة لشخصه ومنارة للعرب والعالم. وأمضى بشروئي باقي عمره في الولابات المتحدة أستاذاً وباحثاً في جامعة ميريلاند وخلال ذلك مارس التعليم زائراً في جامعات أميركية وأوروبية وآسيوية وإفريقية، كما تواصل مع مراكز أبحاث وشخصيات قيادية في العالم، مثال ذلك صداقته للأمير تشارلز ولي العهد البريطاني الذي جمع بشروئي خطبه وقدّمها في كتاب نقل لاحقاً الى العربية.

هل يستعيد العالم اليوم سيرته الدموية في أواسط القرن التاسع عشر الممتدة أوروبياً الى الحربين العالميتين الأولى والثانية؟ سؤال ربما حضر في بال بشروئي، ربما منذ حرب لبنان في سبعينات القرن الماضي، وصولاً الى الحروب الحالية المستندة الى أيديولوجيات مغلقة.

كتب بشروئي كثيراً عن السلام الإنساني الطالع من التجارب الخاسرة، وعن عناصر الوحدة الغالبة على عناصر الفرقة لدى الأفراد والجماعات والأمم. ولاحظ في إشارته النقدية الى وليم بليك وجيمس جويس، ودراساته عن وليم بتلر بيتس وصولاً الى عزرا باوند وتوماس ستيرنز إليوت، شعوراً مشتركاً لدى هؤلاء بأنهم في عصر المأزق الإنساني، إذ تتقدّم على غيرها ملامح الإحباط والخيبة والحيرة بل الانحلال أحياناً، لأن الانسان أكثر تعرضاً للقسوة والعنف والقمع، ما يؤدي الى شعور بوجود خطيئة ما وأسباب للمذلّة واليأس. اما الأمل والايمان والمحبة، يقول بشروئي، فإن هؤلاء الشعراء لم يحسّوا بوجودها إلّا في القواميس.

ولأن الحياة أقوى من الموت والروح باقية بعد الجسد، يطفر الأمل من قاع الآلام وينير الطريق لأجيال لاحقة. هكذا يخرج الإيمان من القاموس مالئاً الأرواح الحائرة باليقين.

إن عزيمة البناء لصيقة بالإنسان من حيث هو إنسان، فمن قال إن دمشق القديمة التي رأينا صورها حطاماً في أرشيف فتنة 1860 ستعود عامرة بأهلها وزائريها؟ لقد عادت لما يزيد عن مئة سنة، وها هي اليوم مجدداً في فم التنين.

الإنسانية في دورات عنف، والإنسانية أيضاً في دورات سلام، فما هي القوانين التي تحكم الأمرين؟ نجيب بأنها كامنة في الإنسان الذي عمل بشروئي، ويعمل الإنسانيون أمثاله، على تأصيله وفق العدالة والمحبة والحقوق الأساسية.