الكلمة العراقية الحرة لن تموت

د.ماجد السامرائي

لعل الاحتماء بالكلمة المكتوبة عبر الشعر أو القصة هو التعبير الحقيقي عن الخوف، ذلك إن أعلى درجات المواجهة مع الواقع تتم عبر الكلمة الصادقة الجريئة في مختلف الفعاليات الكتابية في الصحافة أو الإذاعة والتلفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي التي تحمل قدراً من الحماية.

والصحفيون في العراق شكلوا إنموذجاً فريداً في المواجهة المباشرة مع خصوم الشعب وقضاياه. فقبل عهد 2003 كان من تتيسر له ظروف النشر عبر الصحافة أو البرامج الاذاعية والتلفزيونية داخل العراق عليه احترام قانون  »السجّان« وإلا تعرّض للطرد أو السجن أو اختيار المنفى.

أما في عام 2003 وما بعده فقد منح المحتلون الأمريكان العراقيين الحرية المطلقة للتعبير لأنهم كانوا بحاجة الى معرفة مكنونات هذا الشعب الذي دوّخهم في طرق تصديه للأجنبي وفي أساليب تعبيره في ممارسة الحرية، مثلما دوّختهم رغبات مجموعة السياسيين الذين كانوا معارضين للنظام السابق ثم دخلوا بوابات قصر الحكم الجديد متكئين على سواعد ضباط البنتاغون وملبين لتعليمات حاكمهم (بريمر) الذي فضحهم بعد عام من إقامته ببغداد.

 لم تكن تلك المنحة الأمريكية  »الحرية المطلقة« بلا ثمن، فقد كان الهدف هو إطلاق نزعات الكراهية والثأر وحب الجاه والمال المكبوتة عند أولئك السياسيين تحت عنوان  »الطائفية« ولدى مجاميع من عصابات الفساد والقتل وتوريد الارهابيين تحت عناونين التطرف التي نمت وترعرت خارج العراق لتقكيك المجتمع العراقي ولتصبح غطاء لقتل الأبرياء.

ولهذا قام المحتلون الأمريكان بعد أيام قليلة من أبريل 2003 بإلغاء وزارة الاعلام وأصبح مئات الصحفيين والكتاب والفنيين في مجالات الاذاعة والتلفزيون في الشارع، وتم إختيار بعضا ممن تعاطى بايجابية مع الوضع الجديد للعمل في المؤسسات الاعلامية التي شكلت بتمويل مالي أمريكي قبل تشكيل المؤسسات الرسمية لأشخاص حملوا عناونين اعلامية دون أن يمارسوا تلك المهنة وتم تأسيس الصحف والقنوات الفضائية  »الحرة« التي انتقلت في ولائها بعد أشهر للمعسكر الحليف لايران في العراق.

لم تهتم الصحافة العراقية في هذه الفترة بأوضاع المدنيين العراقيين الذين يقتلون يومياً، في حين كانت هذه المحنة الانسانية الشغل الشاغل لمندوبي الصحافة الأجنبية في العراق، وقد أثار تقرير المجلة العلمية البريطانية (لانسيت) ضجة عالمية في الوسط الصحفي الأوربي حينذاك بإعلانهم تقريراً موثقاً حول موت (100 ألف) مدني عراقي عام 2004 بسبب قوات الاحتلال والقوى الطائفية.

فيما بدأت مواسم الكراهية والقتل الطائفي تزدهر وتم تجاهل الممارسات الاجرامية للاحتلال العسكري الأمريكي في بغداد والفلوجة وغيرهما من مدن المقاومة للمحتل، وانصرفت أقلام الجهلة والأميين المستجدين في العمل الصحفي والاعلامي لتأجيج الحرب الطائفية إعلامياً كمقدمة للاقتتال واستثمار تفجير مرقدي الإمامين العسكريين في سامراء بتاريخ 22 فبراير 2006 لتلك الحملة السوداء حيث قتلت الصحفية العراقية الجريئة مراسلة قناة العربية (أطوار بهجت) على مشارف مدينتها لأنها اقتربت من كشف حقيقة الجناة للتفجير الطائفي المذكور.

كان على أهل الكلمة أن يعبروا عن تفسير لكل الذي جرى ما بين 2003 و2007 كان صوت الرصاص في الشارع هو صاحب الكلمة الأخيرة وليست صفحات الجرائد والفضائيات، كان الخوف هو المهيمن على المشهد بعدم إعطاء تفسير لما يحصل، كان قول الحقيقة تقابله الرصاصة.

وهكذا برزت الحالة الجديدة التي كان على بعض الصحفيين العراقيين الأحرار معرفتها وهي  »لا اقتراب من عمليات الخطف والقتل والاعتقال لأبرياء العنف الطائفي، ولا اقتراب من إمبراطورية الفساد التي بدأت بالنمو السريع، وبعدها للصحفي الحرية في كتاباته مثلا عن الرياضة أو شؤون الاختلاف الفقهي في الوضوء والصلاة أو في نقل  »الانجازات الكبيرة« لحكومات ما بعد الاحتلال«.

كان على صاحب القلم الصحفي أن يختار ما بين أن يصبح واحدا من  »وعاظ سلاطين الطائفية« أوأن يصمت، واختفت من الاعلام الرسمي الحكومي والحزبي في الصحافة والقنوات الفضائية حقائق ممارسات الأعداء الحقيقيين للعراق وأهله وتقدمت عناونين وأسماء جديدة في معركة طائفية مقيتة لم يتجرأ بعض المؤمنين بالكلمة الحرة الصادقة أن يكشفوا أبعادها وأهدافها خوفاً من العاقبة، السجن أو الاختطاف أو القتل.

 تمت صناعة العدو من بطون التاريخ الملتبسة وقائعه وتم تلوينها بأبشع صور الفرقة والكراهية ليكون أهل الحاضر من الطائفة المعنية المرتبطة بالتاريخ الاسلامي الواحد مطاردين تحت آثامها السياسية في عراق اليوم، وأن يدفعوا ثمنها حياتهم أو حقوقهم المدنية، ولا خيار للسالمين منهم من المخاطر سوى الخضوع للحاكم الظالم بإسم الطائفة الفائزة بالسلطة.

هذه هي المعادلة الجديدة وهذا هو المناخ والبيئة التي وضع فيها العاملون في صحافة العراق أما من توهم منهم بأنه في مناخ الحرية الجديدة وانه قادر على تقليد جنود الصحافة الحرة في العالم الديمقراطي الحقيقي فعليه أن يوقع عقداً مع الموت المفاجئ في مغامرة مجنونة من الكوميديا السوداء.

وإن تراجعت موجة الارهاب قليلا بعد زوال دولتها الخرافية في الموصل عام 2017 وخبأ موديلها الاعلامي فقد دخلت بقوة قصة الفساد الذي كان الدافع الأول لنمو الارهاب وتوّطنه في العراق وسبب خراب هذا البلد في عقد جهنمي ما بين أمرائه وبعض الزعامات السياسية المهيمنة على الحكم.

وهنا أصبحت مهمة الكلمة الحرة وأصحابها أعقد وأخطر في مواجهة كارتلات الفساد وعصابات التهريب والمليشيات.

أصبح الصحفي مكشوفاً في معركة غير متوازنة، فالحكومات غارقة في عجزها عن مواجهة هذا العدو المفترس ولا تتمكن من توفير الحماية للصحفيين النزيهين، والقصة أكبر من الحماية المهنية التقليدية التي يمكن أن تقدمها النقابتان الصحفيتان في العراق (النقابة المركزية والنقابة الوطنية) لقد وثقت جمعية الدفاع عن الصحفيين في العراق خلال 2017 فقط تعرض (200) صحفي للاعتداء ما بين الضرب والتهديد والطرد والحجز من دون مذكرات قضائية وغالباً ما تحفظ قضايا الاعتداء على الصحفيين، وصنفت لجنة حماية الصحفيين التي تتخذ من نيويورك مقراً لها العراق كأسوا دولة من حيث مواجهة قضايا اغتيال الصحفيين.

الارقام الرسمية تشير الى قتل نحو 300 صحفي وإعلامي عراقي وأجنبي منذ عام 2003 وفق مرصد الحريات الصحفية المرصد في أحد تقاريره أشار إلى توثيق نحو 480 انتهاكا بحق الصحفيين خلال عام، بينما قالت الجمعية العراقية للدفاع عن حقوق الصحفيين إن ثلاثة عشر صحفيا قتلوا خلال بحثهم وتغطيتهم للمعلومة والحقيقة، وفي تقرير أعده المرصد ومنظمة مراسلون بلا حدود في أكتوبر الماضي سجلت 48 حالة اختطاف صفوف الإعلاميين والصحفيين العام الماضي.

الغريب في الأمر هو دخول القضاء بقوة على خط التهديد الذي يتعرض له الصحفيون في العراق بصدور مذكرات تبليغ واستقدام بدعوى انتقادهم لشخصيات سياسية أو ممارسات سلبية. منظمات صحفية أعلنت عن عشرات البلاغات كشفت فيها تهديدات بالقتل تلقاها الصحفيون خصوصا مع خروج التظاهرات في البصرة العام الماضي والمحافظات الجنوبية إضافة للعاصمة بغداد انتقد فيها المتظاهرون استمرار الفساد وطالبوا بمحاكمة المفسدين.

وقد عمدت مؤسسات إعلامية بارزة إلى غلق مكاتبها في العراق بعد تلقي الصحفيين تهديدات مباشرة من مليشيات ينتمي بعضها للحشد الشعبي بسبب تغطيتهم للمعارك الدائرة في العراق. جانب آخر يتعلق بتقييد حركة الصحفيين في عشرات نقاط التفتيش المنتشرة في بغداد ومنعت السلطات العراقية قنوات محلية وعربية من تغطية معارك الموصل ما بين عامي 2014 -2017، كما قامت السلطات الأمنية بالتعاون مع وزارة الاتصالات عبر أكثر من اثنين وعشرين موقعا إخباريا بنشر قوانين وتعليمات تحد من حرية النشر خلافا للدستور العراقي.

مما دفع مئات الصحفيين العراقيين الى هجرة بلدهم.وهناك قصص مرعبة عن تهديدات بالموت يتعرض لها صحفيون أدلوا ونشروا تقارير ووثائق عن مافيات الفساد في العراق، فيما لعب المال السياسي دوره في شراء ذمم بعض الصحفيين المرتزقة للتغطية على صفقات الفساد أو لبعض القنوات الفضائية خاصة الحزبية في عدم تغطية الاحتجاجات الجماهيرية المطالبة بحقوق المواطنة.

الكلمة الحرة الصادقة في العراق تواجه أصعب حلقات تاريخها الناصع، والصحفيون العراقيون عليهم المغامرة في كشف مسلسل الجرائم الانسانية ضد شعب العراق وفي المقدمة جريمة سرقة أمواله وخيراته. ورغم هذه الصورة المعتمة لكن هناك أبطال حقيقيون وشجعان من أصحاب الكلمة الحرة داخل العراق يواجهون المخاطر بصلابة، الى جانب زملائهم الاعلاميين العراقيين الأكفاء والشجعان في بعض الفضائيات العربية الحرة.

العدد 95 – اب 2019