الحشد الشعبي في العراق ما بين الولاء الخارجي وحاجات الوطن

د. ماجد السامرائي

تقرير أمريكي يشير الى تورط المالكي بعمولات

نائب رئيس هيئة الحشد (أبو مهدي المهندس) لا يذعن لقرار عادل عبد المهدي

دائما ما تكون الجيوش النظامية للشعوب والدول هي الحامية لحدودها وأوطانها، فهي التي تجند شبابها وفق قوانين وآليات معروفة في شرق العالم وغربه، وحين تتعرض الشعوب والأمم الى احتلال وغزو خارجي فإنها تنتفض وتنتظم بجحافل وميلشيات مسلحة بواسطة جيوشها الوطنية أو بتنظيماتها الشعبية لتدحر العدوان وتطرده من أوطانها، الأمثلة القريبة لنا كعرب شعب الجزائر العظيم ضد الغزو الفرنسي الذي صادر سياسيوه مبادئ تلك الثورة وأضاعوها بعد عقود قليلة بسبب غول السلطة، وشعب فلسطين الذي طرد من وطنه وتحوّل الى أول عنوان عربي للجوء والهجرة، والمثال الأقرب الى العراقيين تصديهم لاحتلال الانكليز عام 1920 وتصديهم للعدوان الايراني المسلح بشيعتهم وسنتهم وكل قومياتهم لست سنوات ما بين 1982 الى 1988 بعد رفض طهران وقبول العراق لقرار مجلس الأمن بإيقاف الحرب. ومقاومتهم المسلحة للاحتلال الأمريكي عام 2003 التي غدر بها من قبل السياسيين جياع المال والجاه الذين قايضوا السلطة بكل قيم الأرض والسماء فتهادنوا وخدموا الاحتلال العسكري والسياسي. ولقد أحتاجت النظم الآديولوجية الحاكمة الى ميليشات مسلحة تساند سلطاتها بآليات خاصة ابتدعها الاتحاد السوفييتي منذ ثورته الماركسية 1917 ثم تم استنساخها فيما بعد في العالم العربي خصوصاً سوريا والعراق ولبنان وأطلقت عليها تسميات مختلفة مثل  »الجيش الشعبي« أو الحرس الثوري أو  »الحشد الشعبي« وهي منظمات سياسية عقائدية ترتبط برأس النظام. ولكن في العراق كانت المعارضة المسلحة لنظام صدام خصوصاً الموجودة والمرتبطة بنظام طهران قد شكلت فصائل وميليشيات مسلحة أبرزها  »فيلق بدر« برئاسة الراحل (محمد باقر الحكيم) زعيم المجلس الاسلامي الأعلى، ثم تحول بعد عام 2003 الى منظمة سياسية إسمها (بدر) إنشقت على ذلك المجلس مثلما إنشقت منظمات أخرى عن (جيش المهدي) الذي قاده (مقتدى الصدر) وشكلت ما سميت (عصائب أهل الحق) وتوالدت المليشيات تبعاً لنفوذ مرجعياتها المذهبية، ولم يكن لهذا التوسع والانتشار من ضابط أو عائق رغم إن الدستور العراقي لعام 2005 قد منع وجود السلاح خارج إطار الدولة. وهذه الحالة قد شكلت إحدى الإشكاليات الكبرى التي واجهت مهمات ترسيخ الأمن العام في البلد وارتبطت هذه الحالة الشاذة بما حصل من تطبيق لسياسات الاقصاء السياسي والطائفي وغياب العدالة والمساواة مما وفر المناخات لبروز الارهاب وتجمعاته ثم احتلال  »داعش« لثلث الأرض العراقية بشكل مريب ما زالت صفحته غامضة لحد اليوم. وكان المثال المتجدد لإصالة العراقيين تصديهم الشعبي البطولي إثر فتوى المرجع الشيعي السيد (السيستاني) الى جانب القوات المسلحة وطردهم لتلك الفلول المغطاة بالاسلام المتطرف من أرض العراق في ديسمبر 2017 تاريخ انتهاء حرب تحريرالأرض. وكان من الطبيعي أن يعود الرجال الشجعان الى عوائلهم بعد انتهاء المهمة الوطنية مكللين بالنصر وعلى جباههم شارات الشرف والكرامة.

لكن بعض الأحزاب والقوى الشيعية التي كانت لديها ميليشيات مسلحة قبل حرب عام 2014 وخلالها استثمرت الحالة الشعبية الوطنية سياسياً لتبقي على تنظيمات  »الحشد الشعبي« التي شُرّع لها إطار قانوني في البرلمان عام 2016، الذي بين كيفية تنظيم وطبيعة ومرجعية عمل قوى الحشد الشعبي والفصل ما بين السياسي والعسكري على أن يتم فك ارتباط منتسبي هيأة الحشد الشعبي الذين ينظمون إلى هذا التشكيل عن كافة الأطر السياسية والحزبية والاجتماعية ولا يسمح بالعمل السياسي في صفوفه، وإن الحشد الشعبي هو جزء من القوات المسلحة ويرتبط بالقائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء وأصبح قوة عسكرية رديفة للجيش العراقي الذي همشّت وظيفته كمدافع أول عن الوطن، محاطة بهالة من القدسية التي ارتبطت بواقعة الدفاع عن العراق،وكانت نتائج هذا الاستثمار السياسي الحصول على مواقع برلمانية وسياسية متقدمة في هيكل الحكم. وكان يمكن لهذه المكافأة أن تتحول الى برامج لسياسات تخدم المواطن العراقي ضمن حالة التنوع الديمقراطي المفترض حتى في إطار الاسلام السياسي الذي انكشفت حقيقته المرة بتخليه عن مصالح الناس، لقد شعرت بعض الزعامات الشيعية التي لديها ميليشيات مسلحة واحتلت مواقعها السياسية الكبيرة كجيل ثان من القيادات الشيعية بأن استحقاقات هذه المواقع تفرض عليها خطاباً إعلامياً مهادناً في ظل سخونة المعركة السياسية الايرانية الأمريكية واحتمال انفجار لهيبها في أية لحظة وإنكشاف الحالة العراقية بعد أن فتحت إيران أبواب خيارها الاستراتيجي الوحيد بجعل العراق ساحة المنازلة الأولى ضد واشنطن والعواصم العربية من خلال ما لا يقل عن ثلاثين فصيل عراقي مسلح يدين غالبيتهم بالولاء لولي الفقيه (خامئني) وحصلت خلال الشهور القليلة الماضية بعض الحوادث العسكرية والأمنية داخل العراق كانت بمثابة إشارات استفزازية لواشنطن مثل توجيه صاروخ  »كاتيوشا« على السفارة الأمريكية ببغداد أو التحرشات على أطراف المعسكرات إضافة الى إطلاق طائرة مسيرة من داخل الأراضي العراقية الى السعودية مما دفع وزير الخارجية الأمريكي (بومبيو) الى القيام بزيارة خاطفة لبغداد كان خلالها واضحاً في تحذيراته للحكومة العراقية بأن تفسير ردها على العدوان الايراني على المصالح الأمريكية يعني بصورة مباشرة الرد العسكري على استفزازات بعض الفصائل الميليشياوية التابعة لطهران داخل العراق الذي سيتحول رغماً عنه الى حليف داعم لعدو واشنطن ايران، فسره أكثر التحذير الذي أطلقه مستشار الأمن القومي الأميركي (جون بولتون) في أيار الماضي من  »أن استخدام إيران للمجموعات الشيعية التابعة لها في العراق لمهاجمة المصالح الأميركية سيواجه بردّ قوي«. كانت أمريكا واضحة في طلباتها لعادل عبد المهدي وقبله حيدر العبادي بأنها ضد التمدد الذي حصل لفصائل  »الحشد الشعبي« العراقي وإن غالبية تلك الفصائل تنفذ الأجندات الإيرانية ضد ماأسمته واشنطن بمصالحها الاستراتيجية في العراق. هذا الظرف الصعب وضع عادل عبد المهدي أمام المسؤولية الحرجة باعتباره الحاكم الأول المسؤول عن حماية العراقيين، ووجد إنه لم يعد قادراً على التغطية أو التبرير، وإن النظام الايراني لا يبالي لما يمكن أن يقع فيه العراق من مشكلات أمنه الوطني ومن حرج جدّي للحكومة.

وهو يعلم بعدم قدرته على التحرش بمؤسسة  »الحشد الشعبي« الممتلكة لـ(150) ألف مقاتل الى جانب قوتها السياسية المتمثبة ب(فتح) بزعامة هادي العامري مسؤول منظمة بدر وقيس الخزعلي (عصائب أهل الحق) وهم الذين جاؤوا به الى رئاسة الوزارة الى جانب (سائرون) الصدر، لهذا اشتغل بدهائه الناعم وعمق تجربته السياسية الشخصية وبعد حوارات معمقة مع طهران وزعامات الحشد على تخريح آلية تهدئة عبر عنها بالأمر الديواني في الأول من (يوليو) الماضي بتنظيم وضع الحشد الشعبي بصورة توحي بإعادة هيكليته وضبط انفلات مقراته وإنهاء تجاوزات بعض منفلتيه وإخفاء أسماء تلك الفصائل المطاردة من الولايات المتحدة الأمريكية، وتأكيد ارتباطه بقائد القوات المسلحة وغيرها من التفصيلات التي صوّرت وكأنها ثورة على الحشد الشعبي وإدماجه بالقوات المسلحة، وهذه التفسيرات المضخمة بعيدة عن واقع هذا البيان الإجرائي. وخير من فسره أحد قادة الحشد الشعبي (احمد المكصوصي) في مقابلة نلفزيزنية قال فيها يأن قرار رئيس الوزراء مطبق فعلياً ولا جديد فيه، وأكد ذلك الناطق باسم الحشد (كريم النوري) معتبراً إن القرار سبق أن إتخذه رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي لكنه لم يطبقه، أما بيان حزب الله العراقي ولديه ميليشيا مسلحة فقد طالب بشمول (البيشمركة) الكردية بإجراءات ولاية رئيس الوزراء. وهذا مما يؤكد التفسير الأكثر واقعية بأن ما حصل هو توجيه رسالة سياسية الى واشنطن من بغداد هدفها إبعاد الاتهامات عن مؤسسة الحشد الشعبي في العراق بكونها مرتبطة رسميا برئيس الحكومة وليست بإيران، وإن الخطوة تشكل عمليات تطهير لبعض غير المنضبطين ستتم خلال شهر ولم يتم ذلك الإجراء التنظيمي بغلق المقرات وإنهاء ما سميت اللجان الاقتصادية مما حدا برئيس هيئة الحشد (فالح الفياض) بطلب مهلة شهرين لتنفيذ تلك القرارات. ورغم تجاوب أكبر ثلاث فصائل في الحشد الشعبي (بدر وسرايا السلام وعصائب أهل الحق) مع تعليمات ضبط قوات الحشد إلا أن هناك فصائل كثيرة لم تتجاوب ولم ترحب بهذا الإجراء خصوصاً  »كتائب حزب الله« العراقي، ورغم إن قادة هذه الحركة وجميع عناصرها عراقيون، إلا أنها تصنف بصفتها “ذراعا للحرس الثوري الإيراني” في العراق، إذ تتولى طهران تدريب عناصرها وتزويدهم بأسلحة حديثة. وقالت الكتائب في تعليقها على الأمر الديواني الخاص بتنظيم وضع الحشد الشعبي في العراق  »إنها في الوقت الذي تشدّ على يد الحكومة العراقية باتخاذها قرارات تحفظ أمن البلاد فإنها تؤكد أن محاولة تجريم المجاهدين والإساءة إليهم بنحو مباشر أو غيره، يمكن أن تسبب حالة من الانكفاء للخيارات الأساسية الداعمة للجهد الأمني، والذي يعزِز توجه العدو الأميركي لإعادة إنتاج داعش ومثيلاتها،واتهمت الكتائب الحكومة العراقية بالتقاعس عن منع الشبكات التجسسية المرتبطة بالسفارات، وعلى رأسها السفارة الأميركية، ومحاسبة بعض كبار الضباط العراقيين من الارتباط والتخابرِ معها، لما يشكله من خطر على أمن العراقيين.

كما إن مسؤول كتائب حزب الله العراقي هو نائب رئيس هيئة الحشد (أبو مهدي المهندس) الذي يشكل عقدة امام رئيس الحكومة العراقية لما يمتلكه من نفوذ واسع وسيطرة على جميع فصائل الحشد الشعبي وهو الذي يصدر الأوامر اليها في التحرك داخل وخارج المدن في المحافظات العراقية الغربية التي يواجه أهلها المشكلات الكثيرة في إعاقة عودتهم الى ديارهم. فالأوامر تصدر منه في السماح أو عدم السماح للمواطنين بالعودة وفق ما يصرح به في وسائل الاعلام العراقية. ولكن التطور الخطير هو قرار الخزانة الأمريكية الذي صدر شهر يوليو (تموز) بشمول إثنين من قادة الحشد الشعبي إضافة الى مسؤولين إثنين في الحكم بعقوبات صارمة، وهناك تسريبات تشير الى أن العقوبات الأمريكية ممكن أن تطال مجموعة جديدة من المسؤولين العراقيين إضافة الى رئيس الوزراء العراقي الأسبق (نوري المالكي) حيث نشر موقع “ديلي بيست” الأميركي نتائج تحقيق استقصائي عن عمولات مالية كبيرة تلقاها المالكي شخصيا وبعض أقرب مساعديه لقاء تسهيل حصول شركة أميركية يديرها الجنرال المتقاعد فرانك هيلميك، على عقود تفضيلية في أربعة مواقع عسكرية داخل البلاد ويقول التقرير  »إن علاقة المالكي بالجنرال هيلميك، ازدهرت بعد انسحاب جيش الولايات المتحدة من العراق العام 2011« مضيفا أن المالكي استخدم نفوذه لمنع أي شركة أخرى، من منافسة شركة “سوسي” التي يقودها صديقه الجنرال الأميركي المتقاعد فرانك هيلميك.

لا شك إن إيران لا تأبه بما قد يصيب العراق من أذى بسبب العقوبات الأمريكية والأخطر هذا الترابط الآديولوجي بينها وبين الفصائل المسلحة التابعة للحشد الشعبي، ولعل التعليمات المركزية لرئيس الوزراء بشأن ضبط فصائل الحشد الشعبي داخل أطر رسمية قد يخفف من الضغط الأمريكي العالي عليه وعلى حكومته، خصوصاً إن القيادات الرئيسية رغم ولائها لإيران (هادي العامري وقيس الخزعلي ومقتدى الصدر) تحاول وضع حلول ناعمة لا تستفز العاصمتين الإيرانية والأمريكية توافقاً مع سياسة عادل عبد المهدي التي يحاول من خلالها مسك العصا من الوسط لكن تلك العصا إذا ما اشتعلت النار حولها فمن العسير أن تحافظ على توازنها.

 

العدد 96 – ايلول 2019