انتفاضة أكتوبر لشباب العراق

كشف معادلة الصراع الحقيقي بين الشعب والنظام السياسي

د. ماجد السامرائي

في الأول من اكتوبر الماضي انطلقت تظاهرات حاشدة في العاصمة بغداد والمحافظات الوسطى والجنوبية، كانت تجمعات الشباب المتظاهرين في ميدان التحرير ذات طابع سلمي ركزّت في اليوم الأول على القرار الحكومي الجائر بطرد الساكنين في الدور المتجاوز عليها بما سمي  »العشوائيات« ويعدون بعشرات الألوف دون أن توفرلهم السلطات المختصة البدائل من السكن، الى جانب طرد البائعين المتجولين في بغداد من مواقع الأكشاك المسماة بالعراقية (البسطات) ومنع أرزاق آلاف العوائل دون ان توفر البديل المشرّف، كما سبق يوم انتفاضة أكتوبر تظاهر مجموعة من خريجي الدراسات العليا العاطلين المحتجين أمام مقر الحكومة ببغداد وتم تفريقهم بخراطيم المياه والقنابل المسيلة للدموع وعجّل ذلك بالانتفاضة الكبرى.

وتزامنا مع تظاهرات ميدان التحرير ببغداد إنطلقت تظاهرات شبابية واسعة في مدن الناصرية والكوت وكربلاء والديوانية والبصرة التي سبق أن قمع شبابها عام 2018 بالرصاص ولم تنفذ مطالبهم المشروعة بالعمل والخدمات. كان الرد البوليسي على تظاهرة ميدان التحرير عنيفا باستخدام المياه الساخنة والقنابل المسيلة للدموع، ثم تحوّلت الى استخدام الرصاص ضد الشباب العزل من السلاح ووقع عدد من الشهداء الضحايا مما ضاعف شدة تلك المظاهرات، وتطورت فيما بعد الى هياج شبابي واسع في جميع المحافظات الوسطى والجنوبية، وبدلا من خيار الانحياز الى الجمهور من قبل رئيس الوزراء عبر خطاب شعبي يعلن فيه التضامن معهم اختار في الأيام الأولى الصمت وتوجيه الأجهزة المعنية بقطع الانترنيت وإعلان حضر التجوال وغلق الطرق وهو خيار الدولة البوليسية وليست الدولة الديمقراطية. وقد يكون من الصعب حصر الخسائر البشرية من الشباب العراقي بسبب طول الفترة ما بين كتابة هذه السطور ونشرها لكن الرقم كان حسب وزارة الصحة العراقية ليوم 8-10-2019 ما بين 165-180 شهيدا وأكثر من خمسة آلاف جريح بعض منهم جراحه خطيرة.

إن أهم تحول نوعي في طبيعة تظاهرات أكتوبر عن سابقاتها إنها يتيمة لا أب ولا أم لها سوى الشعب، ولم يخضع الشباب المنتفض لأجندات سياسية، وخرجت بصورة خاصة عن عباءة الزعيم الشيعي مقتدى الصدر رغم إن المتظاهرين هم من الشباب الشيعة ومن المناطق المعروفة بغالبيتها الشيعية كمدينة  »الثورة« ببغداد وكذلك مناطق الشعلة والزعفرانية وغيرها من المناطق المسحوقة في شرقي العاصمة بغداد.، بل إن أكثر مدن الانتفاضة قوة هي مدينة الناصرية جنوبي العراق. كمإ إن المنتفضين قد رفعوا سقف مطالبهم الخدمية الى سياسية طالبت بإسقاط النظام السياسي أو إجراء تغيير جذري في بنيته ومنهجه الذي خلف الدمار للعراق منذ عام 2003 ولحد اليوم.

إن انتفاضة الشباب العراقي لا يمكن تحجميها بمطالب معدودة وإنما هي تعبير عن سخط عام على الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية. لقد اهتزت أركان النظام (البرلمان والحكومة والرئاسة) حيث سارع رؤسائها الى التشاور السريع لمواجهة التداعيات فعقدت اجتماعات متواصلة فيما كان الدم يسيل في شوارع بغداد والمدن الأخرى واتخذت بعض القرارات المتعلقة بذوي الدخل المحدود فأصدرت الحكومة سلسلة قرارات وصفتها  »بالمهمة«، خلال جلستين استثنائيتين برئاسة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، ردا على مطالب المشاركين في الاحتجاجات. وتضمنت القرارات الجديدة عدة فقرات أبرزها تسهيل الحصول على أراض سكنية، وبناء وحدات جديدة، إضافة إلى منح 175 ألف دينار (نحو 145 دولارا) شهريا للعاطلين عن العمل، لمدة 3 أشهر.

وإنشاء  »مجمعات تسويقية« حديثة بمناطق تجارية في بغداد والمحافظات. كان الغرض من تلك القرارات هو امتصاص النقمة المباشرة للشباب، لكن تلك القرارات افتقدت الى أهم عنصرين الأول: إلقاء القبض على القتلة وإعلان هوياتهم على العراقيين وإحالتهم الى محكمة خاصة يحضرها ذوو الشهداء وتنقل عبر الشاشات لكي تطفئ نار أهل المغدورين، والقرار الثاني هو إحالة رؤوس الفساد الى القضاء وفضحهم عبرالاعلام ورئيس الحكومة يعرفهم واحدا واحدا ولديه ملفاتهم، هذان الإجراءان لم تتخذهما حكومة عادل عبد المهدي لكي لا تغضب الأحزاب الحاكمة. لقد استطاعت انتفاضة الشباب وعرس الدم أن تحاصر جميع صنوف الطبقة السياسية لدرجة إنهم صمتوا في اللحظات الأولى وتركوا لرصاص القناصة والمدسوسين داخل الأجهزة الأمنية أن يأخذوا دورهم الدموي في الاجرام والكراهية والحقد على شعب العراق وقتل شبابه، ثم بدأت مرحلة الإفصاح عن الوجه السياسي المواجه لهذه الانتفاضة وهو في الحقيقة وجهان الأول تطميني يحاول تخفيف الأزمة وتقديم بعض الحلول العاجلة والثاني تحريضي بوليسي أعطى الوجه الآخر الأكثر خطورة على أمن الشعب رغم إن رواده يدعون حماية أمنه.

الرئاسات الثلاث تحدثت بلغة متباينة في التعبير لكنها انطلقت من مضمون واحد في التهدئة غرضها الرئيسي هو الدفاع عن العملية السياسية في مرحلتها التنفيذية الحالية ومحاولة حمايتها وحماية زعمائها من مخاطر الإزاحة والتغيير على يد الشعب، عبرت عن ذلك في لغة الاستمالة العاطفية وتبرير ما حصل من وجهة نظر السلطة وطبقتها السياسية، وتفاوتت لهجة الخطاب تبعا لاستحقاقات الموقع الوظيفية والإمكانيات الشخصية في توصيل الخطاب، وتقدم رئيس البرلمان (محمد الحلبوسي) على كل من رئيسي الجمهورية والوزراء شكليا في تلقائية الحوار التلفزيوني غير المكتوب رغم إن الثلاثة كانوا متفقين على نمطية مضمون واحد في طلب الإجراءات أو في الوعد بتنفيذها لاستيعاب الصدمة الشعبية وعبور اللحظة الحرجة بعد إعتقادهم إنها عبرتها أمنيا رغم إن الأمور ما زالت غامضة وحرارة دم الشهداء ما زالت ساخنة. لكنها كانت أشبه بمرافعة ما بين الشعب والسلطة،  »مضبطة« الشعب واضحة فيها فقرات يومية في بطالة الشباب وفقدان السكن وغياب الضمان الاجتماعي للفقراء كنتائج لحصاد مرير لستة عشر عاما، وما حصل هو استكشاف خيوط واقعية من الصدمة الكبيرة التي سربّت بعض زعامات الفصائل المسلحة إنها كانت على علم بتوقيتها في الأول من اكتوبر الحالي وألبستها ثوب  »المؤامرة على السلطة القائمة« وهذا ما عبر عنه بعد أيام رئيس الحشد الشعبي (فالح الفياض) في مؤتمره الصحفي يوم 7 أكتوبر بنفس يوم خطاب رئيس الجمهورية.

أما رئيس الوزراء فحاول في خطابه تبرئة نفسه والدفاع عن مسؤوليته في الحكومة لمدة عام. الخطاب الأكثر وضوحا جاء من قبل رئيس الجمهورية (برهم صالح) الذي يبدو إنه وبتنسيق مع زميليه رئيسي الحكومة والبرلمان قد أحاط استحقاقات قيادة سلطة الحكم بقدر من الإفصاح عن أسباب الأزمة المباشرة وعن حلول سياسية أكثر مما هي اجرائية يتولاها رئيس الوزراء، فقد أدان المجرمين مطلقي النار على الشباب وطالب بفتح تحقيق قضائي وأخذ قرارات جادة وتشكيل لجنة حوار مع المتظاهرين من العقلاء والحكماء متجاوزا تولي كل من رئيسي البرلمان والحكومة للحوار مع المتظاهرين، وفتح حوار سياسي شامل وبناء لدعم الاصلاح وتشكيل كتلة وطنية كبيرة ودعم اجراء الحكومة لأداء تعديل حكومي جوهري وتفعيل المحكمة المختصة في ملفات الفساد من دون استثناء لأحد، ويبدو هذا الطلب خياليا، كما طالب برفع تجاوزات الأحزاب على سكن المواطنين. وكرر المطالبة بتشكيل مجلس الخدمة الاتحادي الذي كان قانونه مودعا في مجلس النواب منذ عشر سنوات وكذلك تشريع قانون جديد للانتخابات. خطاب رئيس الجمهورية (برهم صالح) يكتسب خصوصيته الشكلية عن زميليه إنه جاء بلغة خطابية باللغة العربية الأدبية لكي يثبت بأنه رغم  »كرديته« لكنه يحسن الأداء الخطابي العربي الى جانب ما ذكر إنه أراد تأكيد كرديته في خطابه على منبر الأمم المتحدة قبل أيام حين ختم ذلك الخطاب بعبارة باللغة الكردية.

قد تخفف وعود الإجراءات الآنية بعضا من آلام جراح الشباب إذا ما تحققت فورا خصوصا في القبض على زعامات الفاسدين وإحالتهم للقضاء لكنها لا تداويها، لأن المشكلة الحقيقية هي في أزمة مأزق النظام السياسي وسياسات أحزابه وهي أزمة سياسية وليست أزمة مطالب فقط وهذا ما عبر عنه مباشرة خطاب رئيس هيئة الحشد الشعبي (فالح الفياض) في ختام تلك الخطابات الثلاث الذي كشف عن الوجه الحقيقي للمواجهة بين المنتفضين الشباب وبين السلطة حين هدد بالقصاص الرادع والرد القاسي ضد من أسماهم بمن  »أردوا بالعراق سوءا« لكنه لم يسمهم، ووضع السلطة في مواجهة الشعب وبرر ذلك بأنه وحشده  »يدافعون عن دستور ودولة بنوها بالدماء والتضحيات« وافترض وجود معركة بينهم كسلطة وبين الأعداء الذين خسروا المعركة معها في جولة التظاهرات هذه رغم إنه لم يحدد من هم الأعداء الذين يخوضون معهم المعركة في انتفاضة أكتوبر، لكنه كشف إنهم في قيادة الحشد على أقل تقدير يعرفون من يقف خلف المظاهرات وهم في الحشد جاهزون لأية مهمة تطلبها الحكومة، والمخطط الذي يقف خلف المظاهرات هو إسقاط نظام الحكم الحالي ومخططه قد فشل، ويعتقد الفياض إنه  »لا مجال لأي إنقلاب أو تمرد والعراق لا يحكم من قبل طائفة بعينها« لقد ألغى (الفياض) في خطابه ما حاول الرؤساء الثلاث (النواب والحكومة والجمهورية) إيصاله للمنتفضين وللشعب، بكشفه أن المعركة التي عبرّت عنها انتفاضة الشباب والرد القمعي الدموي ضدها هي صدام بين السلطة وبين أعداءها. وإن هناك مؤامرة تحدث عنها غيره في الداخل وبعض مناصريهم في الخارج من الذين غيرّوا جلدهم الطائفي من المتلونين والراكضين وراء الدولار بتأكيدهم بأن هناك مؤامرة فصولها وسيناريو يقود الى إسقاط النظام تموله دول الخليج، وإن هناك قيادة ومقر سري كان يقود التظاهرات وإعلام خليجي يدعمه وله علاقة حسب زعمهم الخائب بعملية  »أرامكو« في السعودية لكن تم إفشاله. كما صدرت بعض التصريحات من زعماء  »شيعة« متطرفين أعلنوا استعدادهم للنزول المسلح للشارع لقتال من يسمونهم  »النواصب والوهابية والبعثيين الذين يريدون إسقاط دولة الحسين«.
إن سياسة القمع الدموي للجمهور المطالب بحقوقه تتناقض مع الديمقراطية التي يقولون بأنهم في ظلها. كما إن فحص القرارات الاستثنائية التي اتخذتها الحكومة تدين سلطة الحكم إذ أنها تكشف حقيقة الهوة الواسعة بين الشعب والسلطة كما تشير الى أن واقع السلطة كان بعيدا عن تحقيق الحد الأدنى من الضمان الاجتماعي للعاطلين وعدم معالجة عمليات تعطيل وتفكيك المصانع الكبيرة في البلاد وتردي الأراضي الزراعية وعدم دعم الفلاحين لإفساح المجال أمام المواد الغذائية الإيرانية لتغزو السوق العراقي، وعدم وجود أي أثر لتنمية حقيقية في وقت هدرت المليارات التي ذهبت الى جيوب اللصوص الذين ما زالوا موجهين للسلطة. انتفاضة الول من أكتوبر الشبابية حتى وإن تم تعطيل حركتها لكنها قدمت إنموذجا بالدم الزكي بأن هذا الشعب حي وأسقط المراهنات على تعطيل إرادته

أرقام وحقائق

الأرقام الرسمية تشير الى (ثلاثة ملايين ونصف مهجر واربعة ملايين نازح داخل العراق ومليون ونصف يعيشون في مخيمات وخمسة ملايين ونصف طفل يتيم ومليونا أرملة وستة ملايين عراقي لا يجيدون القراءة والكتابة

نسبة البطالة 32

35 من العراقيين تحت خط الفقر

9 عمالة الأطفال دون خمسة عشر عاما

انتشار 39 مرض ووباء أبرزها الكوليرا وشلل الأطفال والكبد الفايروسي وارتفاع نسبة الاصابة بالسرطان والتشوهات الخلقية

تراجع مساحة الراضي المزروعة من 48 مليون دونم الى 12 مليون دونم

استيراد 75  من المواد الغذائية من إيران

التعليم الأساسي في أسوأ حالاته (14 ألف و658 مدرسة تسعة آلاف منها متضررة و800 طينية والحاجة الى 11 ألف مدرسة جديدة

الديون العراقية 124 مليار دولار ومبيبعات النفط من 2003 الى 2016 بلغت ألف مليار دولار لم تسهم في حل أية مشكلة من مشاكل العراقيين

 صنفت منظمة  »الشفافية الدولية« العراق في المرتبة 117 من أصل 133 دولة عام 2003، قبل أن يتقهقر لاحقا إلى المرتبة 169 من بين 180 دولة.

العدد 98 – تشرين الثاني 2019