بين القرآن والسيرة 3-3

الدين يُخرج الإيمان من القلوب، لأن المرء حين يتديّن يتعصب، يعتقد أن دينه هو الطريق وهو الحق، في حين أن المؤمن يقبل الناس أجمعين. فولتير، حامل لواء الحرية العقلية في فرنسا، بنى كنيسة لأهل بلدته وكان يقول: »لا أومن بما به تؤمن، لكني أجرد سيفي دفاعاً عن حقك في أن تؤمن بمعتقدك الذي لا أصدّقه«.
لا أعتبر المتديّن مؤمناً. ولست من المعجبين برجال دين يمثّلون الشيع والمذاهب، لكن لبعضهم بعض المواقف المشرّفة. أنحني احتراماً لشيخ جليل من لبنان، أقرّ العلمانية والزواج المختلط بين الطوائف، هو الشيخ عبد الله العلايلي. كما أنحني احتراماً لإمام جليل، موسى الصدر، أتذكره بقامته الفارعة، واقفاً في كنيسة في بيروت، يلقي كلمته التي كان مطلعها: »اجتمعنا من أجل الإنسان الذي كانت من أجله الأديان، والأديان واحدة حيث كانت في خدمة الهدف الواحد: دعوة إلى الله وخدمة الإنسان«، إلى آخر كلمات تلك الخطبة الرائعة وما فيها من معان إنسانية هي غاية في العدل وغاية في الرحمة.
أطرب حقا حين أسمع أصواتاً تدعو إلى التقارب الفكري والتلاقي الإنساني بين المسلمين، وبين المسلمين والبشر أجمعين، كتلك التي يطلقها بين حين وآخر رئيس الجامع الأزهر الشيخ أحمد الطيب، والتي يطرحها بشكل فلسفي بين حين وآخر رجل من لبنان، ذكي العقل والفؤاد هو المطران جورج خضر. أو قول الأب ميشال الحايك »أنا آرامي سرياني ماروني أنطاكي بيزنطي روماني لبناني عربي انساني«. أتقبل هذه الدعوات وأراها تضرّعَ قلوب عامرة بالإيمان قبل أن تكون أي شيء آخر، ذلك أن الفرق كبير جداً بين أن يكون المرء رجل دين، وأن يكون فوق ذلك رجل إيمان!
من طبائع النفس البشرية أنها لا ترسو على حال. لا بأس إذا تجزأت الأديان وظهرت المدارس المختلفة، شرط أن يبقى الدين فعل إيمان، لا طقوساً ومظاهر. في التاريخ تعرضت المسيحية إلى تغييرات هزت أساسها وبنيتها وهيكلها، وقسمتها شرقية وغربية، وحين ظنت أنها استقرت في روما كاثوليكية منيعة الجانب، لم تلبث أن وجدت أن عليها أن تكون رومانية قبل أن تدعو الرومان ليكونوا مسيحيين، فكان ذلك سبباً لظهور حركة مسيحية بروتستانتية بدأت تزاحمها على الجانب الآخر من أوروبا. أما الكنيسة الأرثوذكسية »المستقيمة الرأي« في القسطنطينية، فتغيرت هي الأخرى وتحولت كنائس. هذا ما حدث للإسلام الذي صار هو الآخر، طوائف ومذاهب ومدارس، وأخذ من كل بلد دخله، شكله وثقافته ورؤياه.
مهما يكن من أمر، فقد يكون من المفيد أن نستوحي قانونين من قوانين علم الإجتماع، وضعهما إبن خلدون، فحواهما »أن الناس جميعاً متشابهون مهما تختلف أزمنتهم وأمكنتهم، وأنهم مختلفون مهما تشتد بينهم وجوه الشبه«، ولعل من المفيد أيضاً أن نعلم، أن هذه التيارات المختلفة، نوع من اجتهاد يثري الديانات ويعتقها من أسر العقل الواحد، ويكسبها رحمة شمولية واسعة.
لعل الحوار الوارد في الأناجيل بين المسيح والسامرية عند بئر يعقوب، هو صوت الإيمان الصارخ في برية الملتهين بالقشور، عندما جاءته فقالت: »أباؤنا سجدوا في هذا الجبل، وأنتم تقولون إن أورشليم هي الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه«. فأجابها: »لا يا امرأة، لا في هذا الجبل ولا في أورشليم. الله روح والذين يسجدون له فالبروح والحق ينبغي أن يسجدوا«.
أليس في الأناجيل »إن الله يريد رحمة ولا يريد ذبيحة« وفيه أيضاً »فإن قدّمت قربانك أمام المذبح وهناك تذكرت أن لأخيك شيئاً عليك، فاترك قربانك أمام المذبح واذهب أولاً واصطلح مع أخيك. حينئذ تعال وقدّم قربانك«؟
أليست هذه الكلمات كلها دعوات لتقديم الإيمان على الطقوس؟!
ألا يدعو المسيح إلى نبذ القشور وما في الدين من طقوس بقوله: »فإذا صلّيتم فلا تكونوا كالمرائين. إنهم يحبّون القيام في المجامع وفي زوايا الشوراع مصلّين ليظهروا للناس. الحق أقول لكم إنهم استوفوا أجرهم. وأما أنت فمتى صلّيت فادخل مخدعك واغلق بابك، وصلِّ إلى أبيك الذي في الخفاء، وأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية«.
يجب أن نفهم القرآن والأناجيل على أنها دعوات إلى التخلي عن القشور والبحث عن الجوهر، فإذا لم نفعل سادت شرائع الغاب وصحّ القول »الدين أفيون الشعوب« لا فائدة ترتجى من التعليق بما سلف والقول »هكذا ربينا وهكذا سنبقى«، ولا معنى من إبقاء خلافات تؤدي إلى التناحر والتجزئة، علماً أن الأناجيل حذرت من الجمود بحسب قول المسيح »لماذا تفسدون الوصية بالتقليد«، كما حذر القرآن منه بالقول »هكذا كان آباؤنا ولو كان آباؤهم لا يعقلون«.
لا أحد يختار دينه ساعة يولد. بيئة المرء تطبعه بطابعها الخاص، وتلبسه الرداء الذي ارتداه أبواه وأجداده. هكذا يصير المرء مسلماً أو مسيحياً أو يهودياً أو بوذياً، وهكذا يصير سنياً أو شيعياً أو درزياً أو كاثوليكيا أو أرثوذكسياً، فيعتقد أن دينه ومذهبه هو الحق، وبقية الأديان والمذاهب على باطل. عند ذلك، عند ذلك فقط، تستحضر »الشياطين« أعراسها، وتولد العصبيات، وتتحرك الغرائز، وتسيل الدماء أنهاراً
قيمة الدين بقدر ما فيه من لباب، »أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال«. اللباب هذا هو الإيمان »بأن الخلق كلهم عيال الله وأقربهم إليه أنفعهم لعياله«. هو جواهر المعاني التي تعتق النفس البشرية من عقال التقليد إلى رحاب الإيمان الطلق، حيث النفس الحرة ونجواها الكونية، وحيث الصلاة السرمدية التي لا تأسرها طقوس ولا تحدّها معابد، لأنها فوق المكان وفوق الزمان، ولأنها النور الذي يبدد عتمة الديجور، ويبقى مشتعلاً في حياتنا كالجمر الأبدي.

العدد 101 –شباط 2020