الخيارات الصعبة لحكومة اللون الواحد

عصام الجردي

ينتظر دائنو لبنان الأجانب حملة سندات اليوروبوندز التاسع من آذار المقبل، لمعرفة ما اذا كانت الحكومة اللبنانية الجديدة ستلتزم سداد استحقاق 1 2 مليار دولار أميركي. وتراقب وكالات التصنيف موقف لبنان من التزاماته الخارجية. وكانت أرسلت أكثر من اشارة إلى احتمال تصنيف لبنان في مندرجات درجة D القريبة من اعلان لبنان دولة متوقفة عن الدفع. الأمر الذي يحاول لبنان تفاديه. ويفاضل بين الوفاء بالتزاماته الخارجية من جهة، وبين تأمين ما يكفي من العملات الأجنبية لزوم تمويل اعتمادات استيراد المواد الأساسية من جهة ثانية. وفي مقدمها القمح والدواء والمستلزمات الاستشفائية والوقود.
المفاضلة الصعبة المذكورة كالمستجير من الرمضاء بالنار. عدم سداد التزامات الدين في موعدها، تستحق معه كل السندات الخارجية دفعة واحدة. والتوقف عن الدفع يغلق نوافذ العلاقات المالية بين الجهاز المصرفي اللبناني وبين الخارج. ويعقّد فتح الاعتمادات المالية خارج التحويلات النقدية المباشرة Cash Collateral، ويرفع تكلفة العمليات ومعدلات الفوائد على الجانب اللبناني. وتحصيل حاصل، يوصد باب التحويلات الخارجية من اللبنانيين العاملين في الخارج على نحو كبير جدًا خلا المنقول نقدًا. في اختصار، يعزل النظام المالي والمصرفي في لبنان عن النظام المالي والمصرفي الدولي. وهذا أمر يحاول لبنان اجتنابه إلى حد كبير، خصوصًا إنه لم يخلّ يومًا بالتزاماته الخارجية حتى في خلال الحرب الأهلية طيلة خمسة عشر عامًا. هذا لا يعني عدم وجود اتجاه في لبنان، يؤثر الاحتفاظ بما تبقّى من عملات أجنبية لضمان استيراد المواد الحيوية، والحاجات التي لا تحتمل التأجيل. يستند أصحاب الاتجاه إلى رأي مفاده اذا كان لبنان لن يسدّد التزامات ديونه الخارجية في 2020 البالغة نحو 4 5 مليارات دولار أميركي مع فوائدها، وسيطلب دعمًا من صندوق النقد الدولي للتفاوض مع الدائنين الخارجيين على هيكلة ديونه، فلماذا يفرّط بما لديه من احتياط العملات الأجنبية لسداد الديون؟ خصوصًا، أن سداد الدين سيتنكبه مصرف لبنان من موجودات المصارف اللبنانية لديه، وتوظيفاتها في شهادات الايداع والودائع، بعد أن نفد احتياطه الصافي من العملات الأحنبية. وهنا المشكلة الكبيرة. مع أن الاتجاه الغالب لحظة كتابة هذه المقالة قبل 24 سلعة من مثول الحكومة اللبنانية الجديدة برئاسة حسّان دياب أمام المجلس النيابي لنوال الثقة، هو الوفاء باستحقاق آذار في انتظار التطورات.
وضعية مصرف لبنان من العملات الأجنبية سالبة بفجوة من 44 مليار دولار أميركي. أي تمويل مباشر منه عبر توظيفات المصارف لديه ليست معزولة عن الأزمة التي يواجهها القطاع المصرفي في لبنان الذي يفرض قيودًا Capital Controls على السحوبات بالليرة اللبنانية والعملات الأجنبية من دون غطاء قانوني. وبالتوافق مع مصرف لبنان وقبول حكومي. موجودات مصرف لبنان من توظيفات المصارف لديه هي في الواقع من ودائع اللبنانيين في المصارف. وخروج العملات من مصرف لبنان لأي سبب من الأسباب بما في ذلك لسداد ديون الدولة، أو لتوفير تمويل استيراد السلع الحيوية، إنما هو استنزاف لودائع اللبنانيين، وتوسيع فجوة الثقة المتصدّعة بين المصارف وبين جمهورها، وقت تراجع فيه سعر صرف العملة اللبنانية بنحو 35 في المئة عمّا كان عليه فترة تثبيت سعر الصرف على 1507 7 ليرات لبنانية للدولار الأميركي التي انتهت منذ شهرين ونصف شهر. خرج مصرف لبنان من السوق بعد نضوب أسلحته من العملات الأجنبية والدولار الأميركي للدفاع عن سعرالصرف الباقي على سعره القديم يتعامل به مصرف لبنان مع المصارف إلّا أن السعر الحقيقي لدى الصيارفة الذين يمسكون بتجارة العملات يراوح) حتى العاشر من شباط 2020) عند حدود 2000 ليرة و2020.
كل ذلك على أهميته، وجه من وجوه الأزمة اللبنانية غير المسبوقة في تاريخ لبنان منذ استقلاله 1943. لكنه لا يعكس عمق الأزمة الحقيقي، وائتلاف المخاطر الذي تواجهه الحكومة اللبنانية الجديدة. لقد واجهت دول عدة مشكلات ديون وركود وبطالة وتضخم. جبه الأزمات والتصدي لها جاء عبر حكومات عميقة ونظام سياسي متماسك، وسياسات تأمنّ لها الدعم الشعبي الداخلي، رغم الاعتراضات القوية على خطط الاصلاحات المالية والهيكلية وبرامج التقشف القاسية. لبنان يواجه أزمة صلبة بحكومة هشّة سياسيًا وشعبيًا. ويحتاج إلى دعم مالي فوري ليتلقط أنفسه لتبدأ الحكومة وضع سياسات والشروع في الاصلاحات خطوات أولى في طريق الحلول. ولا يبدو حتى الساعة أن نوافذ الدعم المالي متاحة لا عربيًا ولا دوليًا. يمكن اختصار الأسباب في اثنين سياسي خارجي وداخلي. الأول، لا تحظى الحكومة الجديدة بدعم عربي على خلفية تأليفها من طرف »حزب الله« وتيار رئيس الجمهورية ميشال عون وحركة »أمل« التي يرأسها رئيس مجلس النواب نبيه برّي. الدول العربية الخليجية منها خصوصًا تعتبر أن الحكومة موالية طهران ولن تحظى بأي دعم. ولم يتلقّ رئيسها حسّان دياب بعد أسابيع ثلاثة على تأليفها أي تهنئة دبلوماسية عربية، أو اشارة يفهم منها دعمٌ للحكومة. الولايات المتحدة لم تخف المواقف نفسها من الحكومة. والدول الأوروبية تقف في الوسط. وتتحدث عن اصلاحات لا بدّ للحكومة من التزامها بسرعة. غموض الخيارات اللبنانية الحكومية تجاه المسلك الذي ستنهجه الحكومة لمعالجة من الأزمة، والذي يبدو شبه مستحيل من دون الدعم العربي والدولي، سواءٌ بالذهاب إلى صندوق النقد الدولي لطلب اعادة جدولة الدين، ومعونة مالية وفقًا لبرنامج اصلاحات، أم بالتوجه إلى خيارات أخرى قليلة جدًا، ناجم عن كون مفاتيح صندوق النقد الدولي والمصرف الدولي هي في يد واشنطن والدول الأوروبية. حتى التزامات مؤتمر سيدر البالغة نحو 10 8 مليارات دولار أميركي المخصّصة لتمويل للبنى التحتية، سيوكل أمر رقابتها ومتابعتها إلى صندوق النقد والمصرف الدوليين. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي استضافت عاصمته باريس مؤتمر سيدر، وعمل بجدّ على دعم حكومة سعد الحريري السابقة، يبدو إنه صرف النظر عن زيارة بيروت بعد استقالة الحريري وتأليف حكومة موالية »حزب الله«.
أمّا السبب الداخلي فمردّه إلى غياب الدعم السياسي والشعبي لحكومة دياب. وأي اجراءات ستتخذها ستكون »موجعة« على ما قاله رئيس الجمهورية قبل فترة. علمًا، أن اللبنانيين يعانون الوجع الآن، وتضيق أمامهم سبل العيش الكريم، تراجعًا في سعر صرف العملة، وارتفاع أسعار بنحو 35 في المئة. وبطالة فوق 30 في المئة ونحو 40 في المئة لا يحظون بأي غطاء صحي. وفي العادة، أن تتحمّل شعوب الدول التي واجهت إعسارًا في سداد الديون، ومشكلات مالية ونقدية، بعد الشروع في برامج الاصلاح والتقشف والذهاب إلى صندوق النقد الدولي. وليس قبله كما هي الحال في لبنان. تركيبة الحكومة نفسها لن تساعدها على تبني خطط اصلاح مالي واداري، رغم وجود عدد من الوزراء والوزيرات الاختصاصيين فيها. القرار لن يكون عمليًا في الحكومة، بل عند »حلف اللمقاومة« الذي أتى بها. خصوصًا في ما يتصل بمحاربة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة، وتحرير الادارة العامة والقطاع العام من الزبائنية السياسية. واصلاح الادارة مفتاح الاصلاح المالي، والحكم الرشيد. ووعاء تنفيذ كل أنواع الاصلاحات القطاعية والهيكلية.
قمع الثورة
ويعتقد على نطاق واسع، أن الحكومة تضع في أولوياها كيفية وأد الثورة السلمية في لبنان المستمرّة منذ نحو أربعة شهور، أكثر من اهتمامها بخطط الاصلاح وبمخارج الأزمة. وتدرك الصعوبات الجمّة التي تعترض سبيلها للولوج إلى الدعم العربي والدولي. وربّما تعلم الحكومة (أو لا تعلم) أن قمع الناس السلميين في الشوارع سيضيّق عليها أكثر فأكثر نوافذ الدعم الدولي. التصريحات والمواقف التي صدرت من واشنطن ودول أوروبية عدة ومسؤولي الأمم المتحدة، ركزًت على استجابة مطالب الحَراك في الشارع، جنبًا إلى جنب مع الاصلاحات المطلوبة التي عجزت عنها حكومات سابقة، ولن تقوى عليها حكومة من فريق واحد، بخطاب سياسي لا علاقة له بسبل حل الأزمة المستعصية في لبنان. بينما تستعد واشنطن لفرض عقوبات اقتصادية جديدة ونوعية على مقرّبين من »حزب الله« وفريق الحكومة السياسي. وفُهم إنها ستكون عقوبات نوعية هذه المرّة، تطال الدائرة المقرّبة من رئيس الجمهورية و »التيار الوطني الحر« وحركة »امل«. وفيها لائحة من الأسماء تشمل رجال أعمال مشتبهين بالفساد وتبييض الأموال وسيكون للعقوبات وقعٌ مدويٌ.

 

العدد 102 –اذار 2020