أنقرة-دمشق: سرّ التقارب الطارئ

وساطة عراقية معطوفة على أخرى روسية تمهد لقمّة بين الأسد وأردوغان

 أعطت تركيا في الأشهر الأخيرة مجموعة من المؤشّرات المتراكمة التي تدل على استقرار في الشكل لمقاربة جديدة حيال سوريا تقوم على انفتاح مع دمشق ومضيّ في مسار تطبيع العلاقات مع النظام السياسي في سوريا. والأرجح أن هذا التحوّل يأتي متناسبا مع مؤشّرات أُخرى صدرت عن دمشق تشي بتقدّم مباحثات خلفية بين البلدين من أجل تجاوز مرحلة القطيعة منذ عام 2012. وفيما لاحت وساطة عراقية جديدة إلى جانب وساطة روسيا التقليدية في هذا الملف، إلا أن لهذا التطوّر أبعادا وتداعيات على شكل المشهدين الإقليمي والدولي وخرائطه.

المؤشرات الإيجابية

توّج الرئيس رجب طيب أردوغان مؤشّرات التقارب بين تركيا وسوريا في تصريح أدلى به، في 28 حزيران (يونيو) قال فيه إنه “لا يوجد أي سبب لعدم إقامة علاقات بين تركيا وسوريا”. وجاءت تصريحات أردوغان تعليقاً على تصريح صدر عن

لا شيء يمنع من إقامة علاقات طبيعية مع سوريا

الرئيس السوري بشّار الأسد، في 26 من الشهر نفسه خلال لقاء جمعه مع المبعوث الخاص للرئيس الروسي ألكسندر لافرنتييف في دمشق، قال فيه بأن “سوريا منفتحة على جميع المبادرات التي تهدف إلى تحسين علاقاتها مع تركيا”.

وتُعتبر تصريحات الرئيسين المتعاقبة أعلى مستويات التعبير عن تحوّل كبير حصل في دمشق وأنقرة مخالفا لسلسلة المواقف العدائية والمتشنّجة والمشكّكة التي شابت مواقف العاصمتين والرئيسين حيال احتمالات التقارب والمصالحة خلال السنوات السابقة. وقد رأى أردوغان في موقفه الجديد أنه “لا يوجد سبب لعدم إقامة العلاقات بين البلدين ومستعدون للعمل معاً على تطوير هذه العلاقات مع سوريا بنفس الطريقة التي عملنا بها في الماضي”.

وذهب الرئيس التركي إلى الإشارة بأنه  “لا يمكن أن يكون لدينا أبدا أية نيّة أو هدف مثل التدخل في الشؤون الداخلية لسوريا”، مذكّراً بعلاقات جيدة بين البلدين في الماضي و بأنه عقدنا لقاءات (في الماضي) مع السيد (بشار) الأسد، وحتى لقاءات عائلية، ويستحيل أن نقول إن ذلك لن يحدث في المستقبل، بل يمكن أن يحدث مرة أخرى”.

وكان سبق تصريحي الرئيسين، السوري والتركي، موقف أدلى به وزير خارجية تركيا هاكان فيدان، في 24 حزيران (يونيو) الماضي، قال فيه إن “تركيا تريد من النظام السوري استغلال حالة الهدوء ووقف إطلاق النار الحاصل “لحل المشكلات الدستورية” و”تحقيق السلام مع معارضيه”.وأشار إلى أن أنقرة لا ترى أن النظام “يستفيد من ذلك بما فيه الكفاية” وأكد على أهمية “توحيد سوريا حكومة ومعارضة”، “من أجل مكافحة الإرهاب في الحرب ضد حزب العمال الكردستاني”.

وقد أثار موقف الوزير التركي جدلا في صفوف  المعارضة السورية، لا سيما لجهة دعوته إلى وحدتها مع النظام من دون شرح مسار احتمال من هذا النوع وشروطه. وبغضّ النظر عن هذا الجانب، فإن مواقف الوزير والرئيس التركيين

الأسد: سوريا منفتحة على علاقات مع تركيا

بإمكانها أن تكون ثمرة مباحثات خلفية ناقشت أبرز ملفات الخلافات بين دمشق وأنقرة وقد تقود إلى عقد قمّة بين الأسد وأردوغان.

تركيا: جدل الرئاسة والخارجية

وكانت محاولات بذلتها روسيا سابقا لم تنجح في إقناع البلدين في إنجاز تقارب على الرغم من لقاءات جرت بين أجهزة المخابرات وتطوّرت إلى لقاء جمع وزيري خارجية ودفاع البلدين برعاية روسية. وقد وصلت محاولات التطبيع إلى طريق مسدود مع إصرار دمشق على شرط مسبق  يتمثل بانسحاب القوات التركية من الأراضي السورية. بالمقابل فإن أنقرة كانت رفضت هذا الشرط واعتبرت أن  وجودها في شمال سوريا هو لدواعي دفع  الخطر الذي يشكّله “حزب العمال الكردستاني” على أمنها القومي.

وتعتبر المواقف التركية الجديدة تطوّرا لافتا مختلفا تماما عن الثوابت التي ردّدتها أنقرة في مقاربة العلاقات التركية السورية. ورغم التقاط تغيّر في لهجة أنقرة حيال دمشق وودّ في تناول أردوغان لاحتمالات عودة العلاقات بين البلدين، غير أن تصريحات وزير الخارجية التركي قد لا تختلف في المضمون عن مواقف كان أدلى بها سلفه مولو جاويش أوغلو خصوصا لجهة التأكيد على  المصالحة وتوحيد النظام والمعارضة.

وكان وزير الخارجية التركي السابق قد تحدث عن هذه الأهداف، في آب (أغسطس) 2022، ما أثار حينها غضبا واسعا في صفوف المعارضة في شمال سوريا ظهرت خصوصا من خلال مظاهرات شعبية. وكان جاويش أوغلو اعتبر حينها أنه “من الضروري تحقيق مصالحة بين المعارضة والنظام في سوريا، بطريقة ما”، وقال إنه “لن يكون هناك سلام دائم في سوريا دون تحقيق المصالحة”. فيما أشار وزير الخارجية الحالي في تصريحاته الأخيرة إلى أن “ما نريده أن يقيّم النظام السوري هذه الفترة من حالة عدم الصراع بعقلانية، وأن يستغل كل هذه السنوات كفرصة لحل مشكلاته الدستورية”، بما عبّر عن ثبات وليس تبدّلا في الموقف التركي.

وتوفّر تصريحات الرئيسين التركي والروسي بيئة راعية لمباحثات تجري على مستويات مختلفة ومن خلال وساطات

رئيس وزراء العراق: نعمل على وساطة بين أنقرة ودمشق

متعدّدة (آخرها وساطة رئيس الوزراء العراقي محمد شيّاع السوداني) من دون أن تلامس مادة الخلاف. فيما بالمقابل، وتحريّا للموقف التركي الحقيقي، فإن ما صدر عن وزارة الخارجية في عهد جاويش أوغلو كما في عهد فيدان يعبّر بشكل واضح عن موقف أنقرة حيال ملفات الخلاف. كما أن تصريحات الجانبين الأخيرة أتت دائما على خلفية علاقات البلدين مع روسيا وتعليقا على سعيّها للتقارب بينهما. فإذا ما جاءت تصريحات الأسد في حضور المبعوث الروسي، فإن مواقف فيدان أتت بعد لقاء جمعه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو في 11 حزيران (يونيو) الماضي.

ما هي سياسة أنقرة؟

تقوم مقاربة تركيا لتوحيد النظام والمعارضة على ثوابت في سياسة أنقرة حيال المسألة السورية تتعلق بالموقف من قيام كيان كردي في شمال سوريا على الحدود مع تركيا يكون تابعا لـ “حزب العمال الكردستاني” المصنّف تنظيما إرهابيا. ويمكن ملاحظة أن موقف أنقرة قد تحوّل منذ اندلاع الأزمة في سوريا من مساندة المعارضة وتطبيق القرار الأممي رقم 2254 كأولوية، إلى أولوية أخرى أكثر إلحاحاً تتعلّق بالأمن القومي التركي هدفها القضاء، عبر الأدوات العسكرية، أو الدبلوماسية الدولية، أو “الحلّ السوري” بين نظام ومعارضة لتقويض طموحات “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) و “حزب الاتحاد الديمقراطي” من ورائها لإقامة كيان قد يكون مشابها لسابقة قيام إقليم كردستان في شمال العراق.

ويؤكد خبراء في الشؤون التركية أن تقديم تركيا ملف المعضلة التركية على كافة الملفات، ولأسباب تركية ذاتية، يعيد تموضع أنقرة في موقع الدولة التي تدافع عن حقوقها ومصالحها لا في موقع المدافع عن حقوق المعارضة السورية ومصالحها ضد النظام. وهذا تحوّل يمكن أن يكون مفهوما من قبل النظام السوري، لا سيما أنه ينطوي على اعتراف من

مشاريع عراقية تركية باتت تحتاج إلى علاقات الدولتين مع دمشق

قبل أنقرة بالدولة السورية الحالية وشرعيتها ودورها في الحفاظ على أمن الحدود بين البلدين. ومع ذلك فإن أنقرة تدرك أن الأمر ليس تقنيا يمكن حلّه فقط باتفاقات جديدة أو العودة إلى تنفيذ اتفاق أضنة المُبرم بين الطرفين في عام 1998.

ثوابت تركيا

تلفت بعض التحليلات في تركيا إلى العوامل التالية في سياسة تركيا حيال سوريا:

1-أنقرة ما زالت ترى أن أمن حدودها مع سوريا لا يمكن أن يتحقّق إلا من خلال حلّ جذري ونهائي للأزمة في سوريا.

2-الموقف التركي من العلاقة بين النظام والمعارضة السورية لم يتغير وهو على حاله منذ سنوات.

3-تركيا تريد حلا سياسيا في سوريا وفقا لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 الذي ينصّ على تشكيل حكومة انتقالية ومصالحة بين النظام والمعارضة السورية.

4-دعوة الوزير فيدان (وقبله جاويش أوغلو) إلى مصالحة النظام مع معارضيه تؤكّد أن تركيا بنّاءة وداعمة للحل السياسي، وأن المشكلة في دمشق التي ترفض الدخول في أي حوار بنّاء مع المعارضة السورية.

وتعتبر مصادر تركية مراقبة أن السياسة التركية حيال سوريا، وعلى الرغم من تأثّر التعبير عنها، بالتحوّلات والتكتيكات الظرفية، تقوم على عدّة قواعد:

أ-العمل على إقامة حلّ سياسي في سوريا ينهي الصراع المتفاقم على حدودها. وفيما لم تنجح المساعي الأممية ولا المقاربات الروسية والإيرانية في فرض أمر واقع يحسم الصراع، وبالنظر إلى الموقف الأميركي الأوروبي الغربي الرافض لأي تعامل مع دمشق قبل الشروع بعملية سياسية جدّية، فإن تركيا ما زالت ترى في القرار الأممي 2254 مدخلا وحيدا حتى الآن للحلّ مع الدفع باتجاه الحوار بين السوريين لإنضاج تسوية خلاقة.

ب-العمل على دعم وحدة الأراضي السورية ورفض أي سيناريوهات تقسيمية للبلاد، وخصوصا قيام كيان كردي مستقل أو يحظى بحكم ذاتي منفصل القرار والأجندة عن الدولة في سوريا. وسواء تحقّق الأمر بأدوات سورية أم تعذّر ذلك

الرياض عيّنت سفيرا في دمشق ما يوفّر بيئة مصالحة تركية سورية

بسبب الانقسام الداخلي، فإن تركيا لن تسمح بإقامة “دويلة للعمال الكردستاني في سوريا”، وفق ما يُتشر من مواقف، وأن الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا الحالية تشكل تهديدا لسلامة الأراضي السورية، وأن الحفاظ على وحدة الأراضي السورية سيضمن الأمن القومي التركي.

3-العمل على إدارة أكثر تشدّدا لملف الهجرة من سوريا. ويجري ذلك من خلال إعادة تنظيم وقوننة الوجود السوري فوق الأراضي التركية، ومن خلال اتّخاذ إجراءات ميدانية لمنع تدفق موجات جديدة من المهاجرين وتسهيل العودة الطوعية للاجئين السوريين إلى بلادههم.

تحوّلات التقارب

تحدثت الأنباء عن استئناف أنقرة ودمشق محادثات كانت مجمدة بوساطة من موسكو. وجرت المحادثات على المستوى العسكري على أن يجري اجتماع آخر لاحقا في بغداد.

ورغم أن مستوى المحادثات وأهدافها المعلنة بدت ميدانية تتعلق بالشمال السوري، غير أن الأمر جرى بعد لقاء وزير خارجية تركيا بالرئيس الروسي في موسكو وفي أعقاب حديث رئيس حكومة العراق عن مبادرة لتطبيع العلاقات التركية السورية. فكيف نفهم هذا التطوّر داخل السياق العام؟

في هذا السياق نقلت وكالة “نوفوستي” الروسية عن مصادر تركية أن وفدين عسكريين، سوري وتركي، أجريا، بوساطة روسية، مفاوضات في 11 حزيران (يونيو) في قاعدة “حميميم” الجوية غرب سوريا، وهو أول اجتماع من نوعه بشأن القضايا الأمنية على الأراضي السورية. وقالت المصادر إنه من المتوقع أن يعقد الاجتماع المقبل في بغداد. وقالت الوكالة أن المعلومات نشرتها صحيفة تركية نقلا عن مصادر مقربة من الحكومة السورية،

ولفت المراقبون أن الإعلان عن أن اللقاء المقبل بين الوفدين سيعقد في العاصمة العراقية بغداد يلتقي مع سياق جهود رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني لرأب الصدع بين سوريا وتركيا. وكان السوداني كشف آخر أير (مايو) الماضي، في مقابلة مع قناة “خبر ترك” التركية الخاصة، أن بلاده تعمل على المصالحة بين تركيا وسوريا وأن خطوات قريبة سترى النور، وأنه على اتصال مستمر مع الرئيسين السوري والتركي لتحقيق ذلك. أضاف: “نحاول التوصل إلى أساس مماثل للمصالحة السعودية الإيرانية بين سوريا وتركيا”.

وقد ذكرت مصادر “نوفوستي” أن اللقاء في “حميميم” جرى في اليوم التالي للقاء بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير الخارجية التركي هاكان فيدان في موسكو. كان رئيس التركي رجب طيب أردوغان كشف في هذا الصدد أن فيدان بحث بالتفصيل، خلال زيارته إلى موسكو، مع بوتين موضوع الانتخابات في مناطق الأكراد في سوريا. وأضاف أنه يأمل “أن لا تتمكن منظمة حزب العمال الكردستاني الإرهابية وغيرها من العمل بحرية في سوريا”.

واللافت أن بوتين قال في تصريحه أيضاً إن الحكومة السورية “لن تمنحهم (الأكراد) الإذن بإجراء الانتخابات أو القيام بحرية بخطوات في هذا الاتجاه”، بما اعتبر تحوّل في موقف أردوغان واعتراف بدور لدمشق في هذا الصدد. وكان من المقرر إجراء انتخابات الإدارة الذاتية الكردية في شمال سوريا في 11 حزيران (يونيو)، لكن تم تأجيلها إلى 8 آب (أغسطس). وذكرت تركيا مرارا أنها لن تسمح بحدوثها، محذرة من احتمال القيام بعملية عسكرية في المنطقة الحدودية.

مرونة الطرفين

وترجح بعض التحليلات وجود تنسيق مكثّف بين موسكو وبغداد لإعادة إطلاق جهود لتطبيع العلاقات التركية السورية. وكان عقد اجتماع لوزراء خارجية روسيا وسوريا وإيران وتركيا في موسكو في 10 أيار (مايو) 2023 لوضع خطّة مشتركة لمصالحة بين دمشق وأنقرة، لكن الجهود توقفت بعد تعذّر لقاء الرئيسين التركي والسوري. وكانت روسيا قد قدمت خريطة طريق لتطبيع العلاقات بين البلدين تشمل، حسب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، حل مشكلة استعادة الحكومة السورية السيطرة على جميع أنحاء البلاد، وضمان أمن الحدود السورية التركية، والقضاء على احتمال وقوع هجمات عبر الحدود وتسلل الإرهابيين.

وفي حزيران (يونيو) الماضي نشرت صحيفة “يني شفق” التركية المعارضة، أن أنقرة نجحت نسبيا في التفاهم مع دمشق لمواجهة العديد من التحديات التي تواجه البلدين وأن ذلك ربما يؤدي إلى استقرار المنطقة. وتحدثت الصحيفة عن معطيات تفيد بانسحاب أميركي من سوريا دفع كافة الأطراف إلى الاستعداد لما بعد المرحلة الأميركية والتموضع وفق تحوّلات إقليمية ودولية مقبلة.

يذكر أن وزير الخارجية السوري فيصل المقداد كان أعلن في 5 حزيران (يونيو)، وبحضور نظيره الإيراني آنذاك، علي باقري كني، أن “تعبير تركيا عن استعدادها للانسحاب من الأراضي لسورية ممكن أن يكون كافيا لإعادة العلاقات بين البلدين”. واعتبر الموقف الجديد تراجعا من قبل دمشق عن شرطها السابق بالانسحاب الكامل قبل أي تطبيع.

ورغم خطوات التقارب فما زالت مصادر سورية تستبعد لقاء بين الرئيسين التركي والسوري قبل تحقيق تقدم في عدّة ملفات سيتمّ التفاوض بشأنها على مستويات أمنية ودبلوماسية مختلفة. بالمقابل قالت مصادر تركية مراقبة أن أنقرة تفضل مفاوضات مباشرة مع دمشق من دون آلية تكون طهران جزءا منها. وتعتبر هذه المصادر أن طهران أظهرت ضيقا من التقارب بين تركيا العراق وأنها قد تعمل على عرقلة تقارب بين تركيا وسوريا.

-بالمقابل تعتقد مصادر مقرّبة من دمشق أن واشنطن تنظر بعين القلق إلى الجهود التي تبذلها روسيا والعراق من أجل تقارب بين تركيا وسوريا، فيما ترى مصادر تركية أن واشنطن غير مرتاحة لتطوّر العلاقات بين تركيا والعراق والتي أدت أيضا إلى التحوّلات الجديدة في ترتيب علاقات دمشق وأنقرة.

وساطة العراق

في حزيران (يونيو) أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شياع السوداني عن مساعيّ تجريها بلاده من أحل تحقيق مصالحة بين دمشق وطهران على منوال المصالحة التي جرت بين طهران والرياض. وفيما لم يصدر ما ينفيّ هذا المسار من الجانب التركي فإن التطوّر طرح آنذاك أسئلة بشأن توقيت الأمر ومدى استعداد نظام الأسد ونظام أردوغان للقفز نحو المصالحة إضافة إلى ما سيعنيه ذلك على مستوى التوازنات الإقليمية والدولية في سوريا.

وقد أعلن رئيس الوزراء العراقي، في مقابلة مع قناة “خبر ترك” التركية الخاصة أن بلاده تعمل على المصالحة بين تركيا وسوريا وأن خطوات قريبة سترى النور، وأنه على اتصال مستمر مع الرئيسين السوري والتركي لتحقيق ذلك. أضاف: “نحاول التوصل إلى أساس مماثل للمصالحة السعودية الإيرانية بين سوريا وتركيا”.

وكانت بغداد قد استضافت في عهد رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي سلسة جولات من الحوار بين الرياض وطهران بدأت في كانون الأول (ديسمبر) 2019 وانتهت إلى إبرام اتفاق بين البلدين في بكين برعاية صينية في 10 مارس 2023. ويعتمد محمد شياع السوداني على علاقات ثقّة تمّ بناؤها بين الرئيسين السوري والتركي من خلال زيارات وتواصل خلال فترة عهده، سواء منذ زيارته دمشق عام 2022 ولقائه الرئيس السوري كأول سابقة لرئيس عراقي منذ 13 عاما، أم لقاءاته مع الرئيس التركي التي توّجت بالزيارة التي وصفت بالتاريخية التي قام بها أردوغان إلى بغداد في نيسان (أبريل) الماضي.

واللافت أن رئيس الوزراء العراقي شدد على أن مصادر التهديدات الأمنية التي تواجه العراق وتركيا من سوريا تنبع من المناطق التي لا تسيطر عليها الدولة السورية بحسب تعبيره. ما يعني أن عودة الدولة إلى هذه المناطق يحتاج إلى تسوية داخلية ما زالت غير واضحة العالم.

أتت الوساطة العراقية معطوفة على وساطة كانت روسيا قد حاولتها بين أنقرة ودمشق ونجحت في ترتيب اجتماعات لمسؤولي الأجهزة الأمنية السورية والتركية،  وصولا إلى لقاء وزيري خارجية البلدين في موسكو في مايو 2023. ورغم تداول أنباء آنذاك عن لقاء محتمل بين الرئيسين السوري والتركي غير أن الأمر لم يحصل وتوقفت وساطة موسكو عند هذا الحدّ.

والظاهر أن التحفّظ كان سوريا ويدل على ذلك ما قاله الرئيس الأسد في مقابلة مع وكالة “سبوتنيك” الروسية خلال زيارته موسكو في آب (اغسطس) 2023 من أنه لا جدوى من الاجتماع مع الرئيس التركي حتى تنهي أنقرة الاحتلال غير الشرعي للأراضي السورية، مطالباً الإدارة التركية بوقف دعم الإرهاب.

واشنطن-الرياض

ويدور ال السوري التركيب حول إصرار دمشق على انسحاب كامل للقوات التركية من شمال سوريا مقابل إصرار تركيا على وجود عسكري يمنع أي “كيان إرهابي” من تهديد أمن تركيا، في إشارة إلى المناطق التي تسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) ذات الطابع الكردي في شمال شرق سوريا والتي تعتبرها أنقرة امتداد لحزب العمال الكردستاني التركي PKK المصنّف إرهابيا.

وقد تزامن إعلان السوداني مع إعلان “قسد” عن إجراء انتخابات بلدية في 11 حزيران (يونيو) التي تمّ تأجيلها لاحقا، في مناطق تواجد الأكراد في شمال سوريا. وتعارض أنقرة بشدة هذا التوجه وتعتبره محاولة لتقسيم سوريا وإقامة حتى إقليم كردستان في شمال سوريا بدعم أمريكي.

والواضح أن تحوّلا قد استجد في موقف تركيا من الانسحاب من شمال سوريا. فقد قال وزير الدفاع التركي، يشار غولر، في حزيران (يونيو)، إن تركيا قد تفكر في سحب قواتها من سوريا بمجرد ضمان أمن الحدود التركية بالكامل. ولفت إلى أن المشكلات نشأت في المنطقة بسبب فراغ السلطة الذي خلقته الحكومة السورية، ولو كان لديهم القدرة على السيطرة على المنطقة الحدودية لما وصل الوضع إلى هذا الحد. وعُدّ هذا التصريح بمثابة عرض قد تحمله المبادرة العراقية إلى دمشق.

وتختلف تصريحات الوزير التركي عن تلك في كانون الأول (ديسمبر) 2023 التي قال فيها إن  لبلاده شرطين لسحب القوات التركية هما: وضع دستور جديد، وإجراء انتخابات حرة نزيهة. وقال إن “هذين الشرطين قد يمهدان الطريق لإنهاء الصراع المستمر في سوريا لأكثر من 10 سنوات”. وأكد أن أي سلطة ستأتي مستقبلاً إلى سوريا بعد تعديل الدستور وإجراء انتخابات حرة، ستقبل بها تركيا ومن ثم ستسحب قواتها من هناك.

أتى تحرّك السوداني غير بعيد عن زيارة مهمة قام بها إلى الولايات المتحدة في نيسان (أبريل) الماضي أعاد من خلالها التأكيد على متانة علاقات بغداد وواشنطن. والتحرّك غير بعيد عن نقاش في الولايات المتحدة بشأن انسحاب القوات الأميركية من سوريا. وإضافة إلى الخلفية الأميركية المحتملة، فإن هناك جانبا اقتصاديا لافتا. فأثناء زيارة أردوغان إلى بغداد أشرف والسوداني على توقيع مذكرة تفاهم رباعية إلى جانب كل من الإمارات وقطر للتعاون في تنفيذ مشروع “طريق التنمية”. وهو مشروع طموح يصل ميناء الفاو بتركيا. وتحدّثت أنباء عن رفض واشنطن إشراك سوريا في المشروع من خلال ربط ميناء الفاو بالموانئ السورية. غير أن كثير من طموحات التنمية بين العراق وتركيا باتت تحتاج إلى علاقات ثلاثية طبيعية تجمعهما مع سوريا لما لمشاريع التنمية من تداخل مع سوريا. واستفاد السوداني أيضا من أجواء عربية حاضنة، فقد أتى تحركهه بعد إعلان السعودية التي تمتلك علاقات جيدة مع رئيس الوزراء العراقي والرئيس التركي تعيين سفير لها لدى دمشق إثر لقاء جمع وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس السوري بشار الأسد في المنامة على هامش القمّة العربية الأخيرة.

أثار موقف الوزير التركي جدلا في صفوف  المعارضة السورية، لا سيما لجهة دعوته إلى وحدتها مع النظام من دون شرح مسار احتمال من هذا النوع وشروطه. وبغضّ النظر عن هذا الجانب، فإن مواقف الوزير والرئيس التركيين بإمكانها أن تكون ثمرة مباحثات خلفية ناقشت أبرز ملفات الخلافات بين دمشق وأنقرة وقد تقود إلى عقد قمّة بين الأسد وأردوغان.

يمكن ملاحظة أن موقف أنقرة قد تحوّل منذ اندلاع الأزمة في سوريا من مساندة المعارضة وتطبيق القرار الأممي رقم 2254 كأولوية، إلى أولوية أخرى أكثر إلحاحاً تتعلّق بالأمن القومي التركي هدفها القضاء، عبر الأدوات العسكرية، أو الدبلوماسية الدولية، أو “الحلّ السوري” بين نظام ومعارضة لتقويض طموحات “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) و “حزب الاتحاد الديمقراطي” من ورائها لإقامة كيان قد يكون مشابها لسابقة قيام إقليم كردستان في شمال العراق.

أثناء زيارة أردوغان إلى بغداد أشرف والسوداني على توقيع مذكرة تفاهم رباعية إلى جانب كل من الإمارات وقطر للتعاون في تنفيذ مشروع “طريق التنمية”. وهو مشروع طموح يصل ميناء الفاو بتركيا. وتحدّثت أنباء عن رفض واشنطن إشراك سوريا في المشروع من خلال ربط ميناء الفاو بالموانئ السورية. غير أن كثير من طموحات التنمية بين العراق وتركيا باتت تحتاج إلى علاقات ثلاثية طبيعية تجمعهما مع سوريا لما لمشاريع التنمية من تداخل مع سوريا.

أعلن وزير الخارجية السوري فيصل المقداد في 5 حزيران (يونيو)، وبحضور نظيره الإيراني آنذاك، علي باقري كني، أن “تعبير تركيا عن استعدادها للانسحاب من الأراضي لسورية ممكن أن يكون كافيا لإعادة العلاقات بين البلدين”. واعتبر الموقف الجديد تراجعا من قبل دمشق عن شرطها السابق بالانسحاب الكامل قبل أي تطبيع.