1948-2023
علّمني جدّي فلسطين
صراعاً دموياً لن يشيخ
جاءت الإجابات بكلّ اللغات وتحت عيون البشرية بحثاً عن المنظومات الدولية وريثة الحروب العالمية المحكومة بأرذل المواقف التي ارتكبت عبر”سيادة” الدول صانعة الذكاء وناشرة العولمة الإنسانية المقلوبة.
وجاء”طوفان الأقصى”( 7أكتوبر2023) بعد ستة حروب بالصواريخ والقصف بالطيران وتكديس الضحايا بين ال 2008 و 2022، كانت تشدّ الإنتباهات وسرعان ما يأكلها النسيان. من “الفجر الصادق”(2022) إلى “حارس الأسوار”(2021) ف”صيحة الفجر” (2019) ف”إنتفاضة القدس أو السكاكين” ( 2015 ) نحو “الجرف الصامد” (2014) نزولاً حتى “عامود السحاب” 2012 و”الرصاص المصبوب”(2008). إنها لكوارث تاريخية تمسح شعارات العدالة والحريات والحقوق وفضائل الجمهوريات والديمقراطيات البائسة التي لن تستطع الشعوب المظلومة بلوغها لأنها مصطلحات للإستبداد. أتصوّر بأن زعماء الدول الذين ابتكروها والأنظمة التي تروّج لها بإسم الحضارة، هم من فصائل أنكيدو وغلغامش وقايين وهابيل وكأنّ لا نهاية لتاريخ الدماء والحروب إلاّ بأظافر الشعوب.
يحدوني طرح أمرين منذ العام 1947 يختصّ ب “فلسطين” المقيمة 8 قرون في تاريخ يتمطّى بالدماء والكوارث:
1- في الجواب الوجداني: وُلدت مع فلسطين في ال1948 في نائي الجنوب اللبناني وقد علّمنا جدّنا فارس الخوري فلسطين بقوله أنّ “لا قيمة للحضارات والأمم إن نسيت قيم الحضارة الزراعية بإستقامة الأثلام وطمرنا للبذار والمواقف الإنسانية العريقة. ذهب مندوباً لسورية إلى أميركا ليعود إلى دمشق بانتهاء دورة بلاده في مجلس الأمن(13/1 /1949) ووقف في القاعة العامة للأمم المتّحدة لدى جلسة التصويت على القرار 181 القاضي بتقسيم فلسطين في 29/10/1947 طالباً من جميع السفراء العرب وبصوتٍ عالٍ المغادرة وكان من بينهم الأمير سعود بن عبد العزيز ورياض الصلح وشارل مالك، لكن النتيجة جاءت ب 33 صوتاً مع إلى 13 ضد و 10 ممتنعين منهياً الانتداب البريطاني ومُقسّماً فلسطين إلى: (دولة عربية 11000 كلم مربع) و(يهودية 15000) وبقيت القدس وبيت لحم دولة ثالثة تحت وصاية دولية). جاء القرار ومثله العديد من القرارات الدولية المتلاحقة هيئة الأمم تجعلني أشبّهها ب مطابع الأمن الدولي باعتبار أنّ قرارات من هذا النوع تكشف وكأن الإنسان هو “الوحش الأول الضاري” الذي لطالما كان يصفه العم النائب اللبناني فريد بن يوسف جبران بقوله: ni foi ni loiأي لا إيمان ولا قانون. واستعيد قوله متطلعاً بالعين نفسها الى فلسطين لأذكّر بما علّق عليه فارس الخوري غاضباً بعد صدور القرار: “القضية ليست عربية يهودية، ولا قضية الشرق والغرب، بل هي قضية صراع دموي لن يشيخ وسيطول جدّاً بين العواطف الدولية العمياء وترهل العقول لدى معظم ممثلي دول العالم ومواقفهم وصولا إلى طغيان شرائع الغابات على الشعوب بدلاً من القوانين الدولية الإنسانية العادلة”.
هكذا راح التاريخ الدموي يسيل حتى القرار الدولي 242 في ال 1967 مع المفكّر نعّوم تشومسكي صاحب فكرة الدولتين كحلّ لتسوية الصراع أحدها لإسرائيل تقوم على 67 بالمئة من الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1948 والأخرى لفلسطين تقوم على 22 بالمئة من أراضي فلسطين التاريخية قبل هزيمة العرب الذي اتّخذ عنوان “النكسة العربية” شرط الإعتراف بإسرائيل. وجاءت النتائج مخيبة من حيث إقامة دولة على حدود 1967 عبرالمفاوضات الثنائية والتسوية برعاية أميركية بما لم يفضِ إلى نتائج قابلة للتحقيق حتى بعد اتفاق أوسلو في مدريد في ال1991، ثمّ تمطّى التاريخ إلى إلى 13 أيلول/ سبتمبر 1993 عندما مهر ياسر عرفات وإسحاق رابين توقيعهما في حديقة البيت الأبيض على اتّفاق سلطة حكم فلسطينية ذاتية انتقالية سُميّ إتّفاق أوسلو واعتبر فاصلة جديدة في تاريخ نكبة فلسطين. وجاءت بعدها انطلاقة “انتفاضة الأقصى” (28 سبتمبر/أيلول 2000) تعبيرا قويّاً عن انكشاف الطريق المسدود أمام عملية السلام بعد أن جهد اليمين الإسرائيلي معطّلاً اتفاق أوسلو على خلفية العمليات الاستشهادية لفصائل المقاومة الفلسطينية.
2- كبرنا نشهد المغالاة في القتل والمشاهد الدموية الهائلة فوق طمس الحقوق، وبدا رؤوساء العالم مغالين يُحقّقون بانزياحهم لمصالح إسرائيل غيرمبالين للإبادات المتكررة، وكأننا مجدّداً نعيش أسطورة “أنكيدو” أو “غلغامش” البابلي قبل 5000 عاماً. تحالف الأوّل مع الثاني فساواه في قوّته وبطشه لينشب قتال عنيف بينهما، ليرتبطا بعدها بظروف قويّة تحطّمت بموت “أنكيدو” المأساوي .وطاف “غلغامش” باحثاً عن أسرار الخلود بعدما أسرته صدمة الموت. وظهر القلق طافياً في النص القديم مكرّساً الفكر الوثني في السلوك المتجذّر عميقاً في أرض الشرق والغرب، ليمتدّ إلى المسيحية حيث تناول اليهود المسيح بالصلب رمزاً مقيماً أبدياً في ذاكرة العالم المسيحي، والبادي في عقائد اليهود الذبيحة التي بها اكتفى الرب والتي لم تعتق البشرية من الإمعان عبر 2023 سنة من تقديم الذبائح تكفيراًعن ذنوبهم. واستمرّ المسلمون أيضاً أصحاب كلمة الله الثالثة الأخيرة بتقديم الذبائح تحقيقاً للقيم الكبرى والغفران، مع أنّ الفكر الدولي يتجاوز أمامنا الكرامة والتقوى والمساواة بين الشعوب، وكأنّ مسألة العدل والإنصاف ستبقى محنة الفكر والسلوك البشري الذي لم ولن يدرك روح العدالة والإنصاف.
قد يقوى التنافر والتغاير عند المساواة بالقوة بما يقود مجدداً الى القهر والقتل بهدف الإلغاء إن لم يلمس أحد المتساويين نعمة العدالة والإنصاف في تساويهما. هذا هو التاريخ الثابت بين حتميّة الموت واستحالة الخلود لكأنّ قلق الإنسان العربي في كلّ زمان ومكان مقيم في عجزه عن تجنّب القتل المُفاجيء.
تُرى من هو “أنكيدو” ومن هو “غلغامش”؟
لا حاجة لإجهاد العقول والنصوص. الأسماء تتعادل وقد تتشابه كثيراً في تعميم مجانية القتل أمام دولٍ كبرى ودولة صغرى بين قوسين تتشابه وتمشي على رؤوس أصابعها وتتفرّج على الخرائب الى درجةٍ من الوحشية حيث تتعادل فيها الحياة بالموت مع أنّ الوجه الآخر المظلم للحياة هوالموت.
كاتب لبناني وأستاذ مشرف في المعهد العالي للدكتوراه
عضو الهيئة العليا للاشراف على الإنتخابات البرلمانية في لبنان