لبنان المخطوف الى صمته وعزلته

حطام غزة شاهد على تمسك الفلسطينيين بوطنهم، وهذا القطاع الذي تضربه الآلة العسكرية الاسرائيلية بلا هوادة هو المساحة الوحيدة الحرة من وطن يتمسك به الفلسطينيون. وفي عالم لا يرحم ليس للمواطن الحر سوى الموت ودمار العمران سبيلاً الى مواطنته المهددة.

والحال ان غزة تموت وحيدة تحت السماء المفتوحة للشكوك والدعاء، فيما تعاند اسرائيل للقضاء على ما تبقى من فلسطين التاريخية، وفي ظنها بل في يقينها انها ستطوي صفحة ذلك الوطن العريق، يبدو الاسرائيليون كأنهم يستبدلون عنواناً بعنوان، “هنا اسرائيل” بدل “هنا فلسطين”. ولكن، هل يدخل ذلك حقاً في يقين المواطن الاسرائيلي العادي. انه يستبدل عدواً له اسم وعنوان بعدو شبح يراه في يقظته ومنامه، مؤرقاً عيش من يقيم سعادته على آلام الآخرين. لقد انطوى زمن الهنود الحمر ومسلمي الطوائف الاسبانية، فالعالم صار قرية صغيرة، والذين ينعمون بأوطان يظنونها راسخة تراهم يتحسسون رؤوسهم وضمائرهم ويرون في احلامهم ما يشبه الوعيد المخيف. والعالم إذ يقوم على قوة عمياء ليس عالماً صالحاً لسكن البشر.

بعد غزة تأتي الضفة وقد بدأ جسدها يتلقى الطعنات وسلطتها الأسيرة لا تستطيع حراكاً، بل حتى كلاماً، في مربعاتها المقفلة والحاضرة فقط لالتقاط الصورة في المحافل الدولية حيث لا مجال سوى لكلام مكرور يمل من سماعه المؤيدون فضلاً عن الذين يغمضون أعينهم ويرغبون في دفع فلسطين الى ماض مضى وانقضى.

مأساة غزة تفتح المجال بل تتوازى مع مأساة جنوب لبنان. لا أحد من اللبنانيين يقول رأيه مسموعاً على الملأ خوف ان يتهم بالخيانة، إذ لا تترك اسرائيل مجالاً للشك في صورتها العدوانية والظالمة والمتربصة شراً بمن تعيش معهم أو تجاورهم من أهل البلاد الأصليين. ويبدو جنوب لبنان عينةً من واقع دول المشرق العربي المزري. دول مفككة أو واقفة على خيط مهددة بالسقوط في أي لحظة، هذه هي حال سورية والعراق… والاردن.

وعن الحال في لبنان ومحيطه، انقل هنا تأملات صديقين مهاجرين في الولايات المتحدة. قال الأول إن “حماس” على رغم بطولاتها اصغر من مأساة اهل غزة غير المسبوقة سوى في الحرب العالمية الثانية، وضابط ايقاع المجزرة الغزاوية هو الرئيس جو بايدن الذي لا ترى عيناه سوى حلبة انتخابات الرئاسة الاميركية. أما اسرائيل التي يديرها بنيامين نتانياهو بالتنسيق مع الرئيس الاميركي، فتحكمها مجموعة من المتخلفين المتعصبين التي بدأ يهود العالم المستنيرون يغسلون ايديهم من غبائها وآثامها. لكن المتخلفين القتلة مدججون بالتكنولوجيا العسكرية الحديثة. علامة من علامات انحدار الشعوب حين تتلاقى في قيادتها التناقضات. أما لبنان الشريك، برضاه أو بالرغم منه، بالحرب العربية – الاسرائيلية وفي الحروب العربية – العربية، فنراه منجذباً، طوعاً أو بالأمر الواقع، نحو أفكار وممارسات سبق أن جربها واورثته الندم. وربما هذا وغيره من اسباب صمت أدباء لبنان وشعرائه عن وطنهم الواقع اليوم في فم التنين.

ومما قال الصديق الثاني ان أزمة لبنان والخطر الذي يواجهه واضحان وليسا في حاجة الى شرح أو تعليق، فنصف لبنان مخطوف في عملية ابتزاز عاطفي تحت شعار وطني، أما النصف الآخر فهو صامت، أو أنه متعدد الرأي امام الاحداث الدموية وصولاً الى التفتت: انظر مثلاً الى مجلس الوزراء والنواب.

ولبنان، بالتالي، يحتاج الى معجزة ليستعيد قيامته، خصوصاً بعدما فقد ثقة اصدقائه في اوروبا واميركا والعالم العربي والتصقت به صفة الايديولوجي المغامر الذي يتقن لغة السلاح أكثر مما يتقن مهارة البناء وآليات الانفتاح والابداع. ويبدو لبنان اليوم اسيراً لنخبه القائدة أو التي ترشح نفسها للقيادة، وهؤلاء لا يتقنون سوى خبرة الحرب الأهلية التي تربوا في اجوائها وقادوا عملياتها القائمة على القتل والفساد. وقد تعهدوا أخيراً، فاعلين وشهوداً، نهب المال العام والخاص، فتحول لبنان الى تجمع فقراء رغماً عنه، مع ما يترتب على هذا الافقار من انتشار الولاء الاعمى والتعصب، حتى صار اللبناني المشهور بالذكاء اشبه بكائن ضيق الافق يمكن ان تقوده الى حتفه وهو يهتف لك بالولاء. وهكذا انسحب المواطنون الشرفاء المؤهلون لقيادة سليمة، بفعل ضغوط الميليشيات المقنّعة التي تحكم في مرحلة السلم المزيف كما حكمت في مرحلت الحرب الأهلية،وفي هذا أثبتت قدرتها على الاستمرار بالتأقلم مع المصالح المتغيرة للقوى الاقليمية والعالمية.

كنا نقول ان لبنان واسرائيل عدوان يتنافسان في مجال الحداثة والتنوع. واليوم نقول انهما يتنافسان في مجال التعصب والانكفاء. هكذا يقل عدد اصدقاء لبنان، وسوف يفاجأ الاسرائيليون بقلة عدد اصدقائهم في العالم… يوم ليس ببعيد.