الأحلام : لغة اللاوعي الرمزية والمشحونة بالتأويلات  

دوّن ملوك ما بين النهرين أحلامهم على ألواح من الشمع في الألفية الثالثة قبل الميلاد وبعد ألف عام كَتب المصريون القدامى في كتاب الحلم تعداد أكثر من مئة حلم ومعانيها.

كذلك فإن الكتب المقدسة تحدثت عن أحلام يوسف ويعقوب وميّزت بين أضغاث الأحلام والرؤى ,وذكرت تفسير النبي يوسف لحلمي سجينين كانا معه, وحلم فرعون عن البقرات الثلاث والسنبلات الخضر والذي انبأ يوسف فرعون مصر بأن حلمه هو عبارة عن سبع سنين من الخير والعطاء ستمر بها بلاده ,ثم ستليها سبع سنوات عجاف يهلك خلالها الشعب .لذلك فإنّه من الضروريّ أن يحتسب الناس لمثل هذه الأيام الصعبة بتخزين الحبوب لمواجهة العوز والقحط وأوقات الشدّة.

يبدو أن الأحلام رافقت الانسانية على مر الأزمنة ,فكانت بصيرة الانسان الثاقبة منذ وُجد على هذه الأرض وسنده في اللحظات الصعبة , على الرغم من اختلاف الناس والمُفسرين والفلاسفة وعلماء النفس في تحليل هذه الظاهرة.

إن عالم النفس النمساويّ “سيغموند فرويد” اعتبر أن تفسير الأحلام هو المدخل لمعرفة خفايا الانسان وما يعتريه من مشاعر ورغبات , تُملي عليه تصرفاته وأفعاله رغم جهله بمصادر الحلم وآلياته .لذلك فإن الحلم من المنظور الفرويديّ هو حالة تُشبه الهذيان , وهو يختلف عن المرض النفسيّ كون  أعراضه قصيرة ولا تُشكل اي ضرر على الحالم ومحيطه , إن الأحلام بالنسبة له ما هي إلّا المدخل الأساسيّ لدراسة الأمراض العُصابية والذُهانية.

اعتبر فرويد ايضاً أن الحلم ظاهرة  مشتركة لدى جميع الناس دون استثناء ,فضاعف من جهوده لتفسيرها وتحليلها  ,لأنّه وجد انّه من خلالها يستطيع الوصول إلى اللاشعور كما إلى الرغبات المدفونة عند مرضاه, وقد اعتبر فرويد أن العُصاب والحلم منشأهما الكبت.

إذاً  كيف ينشأ الحلم ؟ ولماذا تتجلى المشاهد الغريبة والمحرمة أثناء النوم ؟ وهل من علاقة بين الطفولة وتكرار الاحلام؟

إن حدوث الحلم متعلق باللاشعور وكل ما يقاومه الانسان في الواقع , وما يُرافقه من توتر وكبت للرغبات والحاجات الشعورية , تتجلى مشاعره على شكل مشاهد , تبدو حقيقية ومألوفة تُرضي الانسان المستغرق في نومه . لذلك يعتبر فرويد بأن الأحلام ليست نشاطاً واعياً , بقدر ما هي حلول لمواقف وأحداث نفسية لم يستطع الانسان إشباعها على أرض الواقع.

لذلك فإن وظيفة الحلم بحسب رأيه هو تحقيق لرغبة مكبوتة ,مُعتبراً من جهته بأن الرقابة الشديدة للانا قد تُشوه مضمون الحلم , وهذا ما يتجلى من خلال الكوابيس التي يؤكد انّها بمثابة تهويل وترهيب للحالم كي لا يصل إلى إشباع رغبته بسبب تدخل العقل والانا الواعي.

كذلك يعتبر انّه ما من حلم دون معنى أو قيمة نفسية واضحة , بل هو استجابة لواقع غير مُشبع ,وبذلك يُحقق للإنسان نوعاً من الرضا النفسي والعاطفي لأنه يعبر عن نفسه من خلال النوم بحرية مطلقة على عكس ما يحدث في لحظات الواقع واليقظة , فيتخلص بذلك من عوارض القلق والتوتر ويحصل على نوع من الاشباع الجزئي.

وهكذا فإن الاحلام تحمينا من التوتر وتمنحنا نوماً خالياً من التفكير والتحليل, وتساعدنا على إفراغ جزء كبير من الرغبات . وبذلك تُعتبر نشاطاً نفسياً يُعبّر عن الأفكار المدفونة في اللاشعور أو اللاوعي, وهو المصطلح الخاص بمدرسة التحليل النفسي.

من هنا فإن آليات الشعور التي تُخبئ لحظات وأحاسيس تلاشت بسبب النسيان والكبت تظهر من جديد على شكل انفعالات في الحلم , وبالتالي فإن تفسير هذه الأحداث هو المدخل لتحليل الشخصيات المريضة وعلاجها فيما بعد.

وهكذا نستنتج أنّه لا حلم دون معنى ,وبالتالي فإن كل صورة لها دلالاتها ومكامنها النفسية العميقة . لهذه الأسباب مجتمعةلجأ فرويد إلى تفكيك رموز الحلم وشيفرة الصور والكلمات لتحليل لاوعي الحالم والولوج إلى خبايا نفسه , وما يُحاول إخفاءه بواسطة المقاومة التي تُعتبر إحدى الآليات الدّفاعية , إلى جانب التكثيف والنقلة , ويعتبر فرويد أن عالم الاحلام يرتبط مباشرة بالطفولة المبكرة والليبيدو والكبت.

ويعتقد فرويد أيضاً أن تكوين الأحلام يرتبط بذكريات آفلة , تتجدد في الحلم كي لا تظهر في اليقظة , على شكل رموز لفظية أو صورية , وقد حلل هذه الظاهرة لدّراسة السلوك الانساني والحالات المرضية من خلال منهج التنويم المغناطيسي. 

وهو لا يعتبر من جهته أن الأحلام تمتلك مضموناً جنسياً فقط , بل إشباعاً لحاجات الانسان الأولية كالجوع والعطش والحرية والأنانية وغيرها , وذلك لتحقيق نوع من الاشباع لكل هذه الاحتياجات القديمة واحتمال مصاعب الحياة والعيش المتوازن .

طوّر المحلل النفسي كارل يونغ , التلميذ النجيب لفرويد والذي تفوق فيما بعد على معلمه , نظرية تكوين الأحلام وتُعتبر نظريته هي الأكثر أهمية في العصر الراهن.

تعتمد التحليلات اليونغية على أن الأحلام هي نوع من الدمج بين حياتنا الواعية واللاوعية , وقد أطلق عليها تسمية التفرد أي سعي العقل إلى الكمال .وقد ربط بينها وبين عالم الأساطير واعتبرها نماذج يُحتذى بها وبأنها نوع من الطاقات , ومن صراع الانسان ليس فقط مع المجتمع، بل مع نفسه أيضاً, وهي ترتبط بجسم الانسان والتغييرات الحاصلة داخله.

ولتحقيق التوازن بين كل هذه الاحتياجات القديمة والعيش المتوازن ,وانطلاقا من كل هذه التحليلات يأتي دور المحلل النفسي لمساعدة الناس على فهم أحلامهم الليلية ومدى ارتباطها بالواقع وبعقبات الطفولة , ومساعدتهم على التصالح مع الماضي من خلال التكيّف مع المشاكل السابقة واعتماد أنماط نفسية صحية.

أمّا عن مكونات حياتنا الأسطورية فهو ما أطلق عليه يونغ تسمية “اللاوعي الجماعي” , وهو يعكس إيمانه بمصطلح التخاطر , ليس باعتباره خارقاً  للطبيعة ويحتاج إلى أدلة , لا يمكن الوصول إليه من خلال معرفتنا الحالية , وقد أعطى أمثلة مثل الانبهار المتزايد بالموت بعد منتصف العمر و طقوس العبور الى الأنوثة.

إن فكرة يونغ عن الأحلام هي جماعية وعالمية وتشريحية وبيولوجية وبالتالي موضوعية وتجريبية, وقد بحث في سبب الحلم وأصوله النفسية والموضوعية . على عكس تحليل فرويد الذي يمكن تسميته بالذاتي والافتراضي.

امّا اندريه بروتون وهو أحد مؤسسي الحركة السريالية التي نشأت في فرنسا بعد الحرب العالمية الأولى  فقد عرّف هذه الظاهرة  بانها “الرغبة في التقاط الحلم”، أو” الحلم وسيلة للمعرفة واستكشاف اللاوعي”. ويعتبر بروتون أن الحلم وجد لمواجهة الواقع وحدد من خلال مؤلفاته عن الأحلام موقفه من العالم والجسد والحرية والعالم , مُعتبرا أن الانسان يبحث عن الحرية في أحلامه . وقد شاركه في هذه الحركة كل من بيكاسو واراغون وسلفادور دالي وبول ايلوار وخوان ميرو وغيرهم وقد تأثرت هذه الحركة بنظرية فرويد وافكاره, سواء في تفسير الأحلام او في التحليل النفسيّ. 

لذلك فإن المفهوم الأساسي لهذه الحركة اعتمد على التداعي الحر للأحلام التي عاشها هؤلاء المبدعون والفنانون ,متجاوزين الواقع المحسوس تاركين للاوعي واللاشعور مهمة التدفق دون رقابة من الأنا او العقل معتبرين الحلم تعبيراً حقيقياً عن تحرير طاقة المكبوت في النفس البشرية, وبالتّالي تحرير الكتابة من كل أشكال الضغط الّلغوي لتكون نصوصهم غير مُقيدة بالشكل ، إلى جانب الغاء الحدود الفاصلة بين النثر والشّعر.

 بناء على ذلك فإن هذا المشروع هو بمثابة ثورة شاملة على كل ما هو تقليدي وسائد وخروج عن النمطية ,ونوع من ثورة فكرية ساهمت في تحرير  الفن من الأشكال الجاهزة وفتحت الطرق للتعبير عن ما يجول في العقل الباطن والتخلص من سلطة المجتمعات ,والكتابة بتلقائية بعيداً عن التقنيات الكلاسيكية.

تُعتبر” قوبلا خان” التي الّفها الشاعر الانكليزي صامويل تايلر كولريج ناتجة عن حلم عاشه الشاعر اثناء نومه في حقل, وقد اضطر الى تناول نوع من المسكنات بسبب وعكة المت به فاستلهم الرجل النائم سلسلة من الصور البصرية والكلمات البسيطة عند استيقاظه ليكتب قصيدته الشهيرة المؤلفة من ثلاثمئة بيت ,بناء على الرؤيا التي تجلت له خلال النوم. 

وليست هذه الحالة التي حدثت مع كولريج هي الفريدة من نوعها، بل هذا ما حدث مع عازف الكمان والموسيقي جوزيب تارتيني الذي حلم بان الشيطان يعزف سوناتا رائعة ولما استفاق ألف مقطوعته الشهيرة 

  .trillo del diavolo

أمّا بالنسبة إلى الفيلسوف الفرنسي باشلار فهو يقتبس من كتاب قديم اسمه “فن العيش” تصنيفات لأنواع الاحلام , وهي أحلام الصفراويين وهي من طبيعة النار، والحرائق، والحروب، والجرائم. وأحلام السوداويين وهي من طبيعة أعمال الدفن والقبور والأشباح والفراغ والخنادق وجملة الأشياء المحزنة. وأحلام النخاميين وهي من طبيعة البحيرات، والأنهار، والفيضانات، والغرق. واخيرا أحلام الدمويين، وهي من طبيعة طيران العصافير والسباقات والولائم واشياء لا نجرؤ على التلفظ باسمها .

وبالنسبة له فإن أحلام اليقظة هي كون فوّاح ونسمة عطرة تخرج من الأشياء بواسطة حالم.

عالم الأحلام دهليز من خفايا النفس البشرية, بكل تناقضاتها, وهو يشبه الى حد بعيد عالم السحر والتوقعات والنبوءات , يمنحنا  تارة السعادة عبر أحلام مضيئة,  وتارة أخرى يُصيبنا بالحزن عبر الكوابيس المزعجة التي تنتابنا في لحظات القلق والتعب .  لكن وفي المحصلة,  تبقى الاحلام مزيجاً من مصطلحي الحياة والموت ورمزية الغيب وتأويلاته التي لا تنتهي .