يشكل الأدبُ موروثًا ثقافيًا حضاريًا كبيرًا، فهو يزخر بمختلف الفنون والأشكال الأدبية، وقد اهتم الأدباء والشعراء بالمكان بشكل واضح، فاقتنصوا فيه لحظاتٍ مناسبةً للقراءة، فكان إلهامًا ووحيًا لهم ينسج من خيالاتهم، فيتجلى في كتاباتهم وأشعارهم.
تكامل الجغرافيا والسرد الأدبي عبر التاريخ:
يوضح المستشرق الروسي (أغناطيوس يوليا نوفيتش كراتشكوفسكي) معنى الأدب الجغرافي قائلًا: “وليست الغاية الأساسية منه تقديم عرض عام لتاريخ الجغرافيا بقدر ما قصد به معرفة تاريخ الأنماط الأدبية المرتبطة بعلم الجغرافيا بصورةٍ أو بأخرى” موضحًا أن الأدب الجغرافي هو تلك النصوص الأدبية وغير الأدبية التي شكلت الجغرافيا جزءاً أساسيًا من بنيتها أو كان لها وشائج تربطها بها، وعلى إثرِ ذلك فإن أنماط الأدب الجغرافي لم تظهر دفعة واحدة، ولا في عصر واحد، بل ظهر عبر عصور متعاقبة، ويعتبر تراثًا سرديًا ارتبط ظهوره بانتشار الإسلام في الأقطار والبلدان العربية؛ وهذا التراث غني بالنصوص التي كتبها الأدباء، فيشكل إطارًا معايرًا لكتب البلدان وأدب الرحلات والمعجمات الجغرافية، بل كان رحمًا توالدت فيه عدة أنواع من الكتابات الفنية الجمالية، وتطورت على مدى التاريخ إلى إنتاج نصوص مثّلت علاماتٍ فارقةً في الأدب العربي والأدب العالمي.
لا جرم أن الأدب الجغرافي يقدم موضوعًا جغرافيًا من وجهة نظر أدبية تفرضها شخصية الرحال ومكوناتها الثقافية، بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر، ويكون في توازن بين الموضوع والذات.
إن مساهمة الجغرافيا في إحياء التراث العربي لا تقف عند كتب البلدان والرحلات والمعجمات الجغرافية، بل إن المادة الجغرافية الموجودة بها تفوق ما قد نجده في الكتب الجغرافية؛ فعلى الجغرافي أن يأخذ من تلك العلوم جميعًا.
تواشج الأدب بالجغرافيا:
اشتغل مؤرخو الأدب بعلاقة الجغرافيا بالأدب منذ القرن التاسع عشر، حيث اعتبر (هيبوليت تين) البيئة والعرق والجنس من مقومات الأدب العربي، وذهب إلى تأكيد الأثر الكبير للوسط الجغرافي في تشكيل شخصية الكاتب العربي.
وفي ضوء ذلك يعدّ (أندري فير) من رواد هذا التوجه الجديد في دراسة علاقة الأدب بالجغرافيا في كتابه الأول بعنوان: (جغرافيا مارسيل بروست) سنة 1939وفي كتابه الثاني (الجغرافيا الأدبية) سنة 1946 ومنذ التسعينات من القرن المنصرم بدأ الاتجاه في هذه الدراسات يتحقق من خلال العديد من المؤتمرات والإعدادات المتخصصة، وخير مثال على ذلك (فرانكومونتي) الذي عمل على تشكيل (أطلس للرواية الأوربية 1800-1900) سنة 2000 الذي أثار اهتمامًا واسعًا لدى المهتمين بالجغرافيا الأدبية.
لقد كانت جغرافيا الأدب العربي قديمًا وحديثًا غنية بالفضاءات العربية في شموليتها وخصوصيتها المتعددة، حيث تفتح لنا مجالات واسعة للاكتشاف الفضاء الذي نعيش فيه. ومما لا شك فيه أن الأماكن والشوارع تعمل على حفظ الثقافات، وهي جزء لا يتجزأ من الجغرافيا. من هنا، نجد الشعراء المعاصرين أكثر الواصفين للأمكنة؛ لذلك فإن الإبداع الفني هو جزء من خيال لا يقف عند حدود الممكن و المتجسد في الواقع، بل يتجاوز إلى خلق أشياء جديدة، وكأنه يهب لها الحياة من جديد.
يتكئ الأدب كثيرًا على علم الجغرافيا، ففي الأدب نجد جميع أنواع الجغرافيا الطبيعية والبشرية؛ كما نجد الأديب يقوم بمسح سطح الأرض التي يعيش فيها، للتعرف على أعلامها الجغرافية؛ لكي يوظفها في نصه الإبداعي، ويجعل القارئ يجول معه في الطبيعة، ويتعرف على حياة الناس وثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم في تلك البيئة؛ وهنا يتفاعلُ المتلقي مع هذه الطبيعة وأعلامها الجغرافية، فيحلل ويكتشف ويلاحظ جغرافيا المحيط من خلال النص، وهذا يدل على امتزاج الجغرافيا بالأدب. فالأدب لا يستغني عن الجغرافيا.
إن ذكر الأماكن في العمل الأدبي يزيد من رونق النص وجماله، ويَلفِتُ انتباهَ القارئ، لِمَا لهذه المواضيع المختلفة من أداءٍ فني يرسمه الأديب بها داخل النص الشعري أو القصصي أو الروائي، فتزداد جاذبية النص؛ ذلك لأن المتلقي يعيش داخل هذه الأمكنة بخياله، فيطوف ويجول، فيتمتع بهذه المناظر، ويشاركُ الأديبَ في العيش معه؛ وهنا نجد أن المبنى المكاني مع المبنى اللغوي يشكلان معًا جسد النص وأداءه الفني؛ ومن هنا، فإن العلاقة بين الأدب والجغرافيا علاقةٌ وطيدة، تعمل على تبادل المعرفة والأخبار والجمالية الفنية، ولا يمكن إنكار هذا مُطلَقًا في أي حال من الأحوال.
شعراء يحكون عن الأمكنة:
المقصود بالمكان هو المكان الملهم للشعور والشاحذ للذاكرة والمشكل للخيال، فالمكان يسيطر على القارئ ويتقاسم أحاسيسه معه حتى من دون أن يكون قد زاره أو عرفه من قبل، فالعلاقة بين الصورة الشعرية والنمط الخيالي هي علاقة بحث مستمر عن تبريرها في الواقع المحسوس، ويمكن وسم جغرافيا معينة بعلامات ثقافية خاصة بها، حيث يمتد المكان إلى ما وراء الواضح إلى عالم الشعور والعاطفة والحرية.
مما هو متفقٌ عليه عند الدارسين والباحثين في الحقلِ الأدبي، أن الشعر -لدى العرب- هو قلبُ معرفتِهم النابض؛ إذْ تجتمع فيه مختلف أحوالهم الحياتية، والاجتماعية، والنفسية، والثقافية، والعادات والتقاليد، فكان الشعر في الجاهلية عند العرب ديوانَهم الذي يُودِعُون فيه حِكَمِهم وعلومهم، وكان الشعر عندهم -إلى حدٍّ ما- بمنزلةِ الكتب السماوية في غيرهم من الأمم، ولولاه ما عرفت الجغرافيا العربية مواقع الصحراء، ومرابعها، وواحاتها، وجبالها، ووديانها؛ وكل ذلك مدون عند الشعراء، ومخلد فيها؛ فنجد أن الجغرافيا مبثوثة في ثنايا القصائد الشعرية بشكلٍ أساسُه الفن الجمالي. في القصيدة تجد كل ما له علاقة بالجغرافيا، إذ لا تخلو قصيدة واحدة من ذكر الأماكن، فهي أعلام جغرافية خلدتها القصائد التي تُكتَبُ بماء الذهب.
لا غرو في ذلك، فإن المتتبع للشعر الجاهلي يستطيع أن يعرف الكثير من المعارف والأفكار الجغرافية عند العرب، حيث نجد استلهام العرب قصائدهم من الأمكنة، وخاصة المعلقات؛ فهذا امرؤ القيس يقول:
قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزلِ بسِقْطِ اللِّوى بين الدَّخولِ فحَوملِ
فتوضحَ فالمقراةِ لم يعفُ رسْمُها لِمَا نسجتْها من جنوبِ وشمألِ
ففي هذين البيتين خمسة مواضع للأمكنة، ذكرها الشاعر، وهي: سِقط اللِّوى، الدَخول، حَومَل، تُوضِح، المِقراة؛ ومن هنا، أصبح الشعر العربي القديم مصدرًا هامًا من مصادر كتابة الجغرافيا الأولى.
امتزج العربي بالبيئة التي يعيش فيها امتزاجًا كلياً، وكما كان يعرف الأماكن التي يعيش فيها وألفها، فكذلك كانت هي الأخرى قد عرفته وألِفته، فكان تفاعل الشاعر الجاهلي مع المكان حسيًا ومعنويًا، فأخذ صورًا من مدلولات مختلفة برزت من خلال رؤيته الفنية التي جسدت المكان في الواقع.
الفضاء الحكائي عند الروائيين:
أما في النص الروائي، فإن الأمر لم يختلفْ كثيرًا عن الشعر؛ فإن الفضاءَ أو المكانَ الحكائي يُعَدُّ القاعدةَ الأساسية في أي عمل أدبي، خاصةً الكتابةَ الروائية، والذي تبنى عليه سائرُ الأحداثِ والتوقعات والتنبؤات التي يحملها النص الفني. وتعد الرواية نوعًا من الجغرافيا؛ لأن عالم الرواية يحوي أماكن ومواقع وفضاءات متنوعة تشغلها الشخصيات. لذلك فإن جنس الرواية شكل تعبيري جغرافي؛ وذلك لحضورِ المكان والحدود والآفاق، وتعدد الرؤى ووجهات النظر بشكل مكثف. لقد تناول الروائيون في الشرق والغرب فضاء المدينة وما طرأ عليها من تحولات وطرق العيش، والقيم المجتمعية، والعادات السائدة في رواياتهم، بهدف تناول إشكالاتها وظواهرها المختلفة؛ وبناءً عليه تم وصف المشهد الحضاري والمشهد الريفي ومعتقدات المجتمع، وكانت الكتابات في معظمها تحاول نبذ الأفكار التي جاءت بها سياسة التصنيع وتهميش العالم القروي والليبرالية الاقتصادية؛ والنتيجة أن معظم الكتابات كانت تعبر عن جغرافيا أخلاقية.
جمالية المكان ودوره في السرد الأدبي:
ففي رواية “البؤساء” للكاتب (فيكتور هيكو) اختار باريس لتكونَ فضاءً للحكاية، فوصف فيها أزقة الفقراء المهمشين في مشهد جغرافي مظلم، محاولًا التعبيرَ عن الرفضِ ونقدِ الأوضاع السائدة، فشكّلت عالمًا يعارض حياة المجتمع إبانَ ما قبل الثورة الفرنسية. كما نجد عند الروائي الليبي (إبراهيم الكوني) في روايته “نزيف الحجر” نموذجًا ساطعًا في سرد تفاصيل عالم الصحراء وحياة الطوارق، حيث يعبر فيها عن جمالية هذا الفضاء، ويشكل أحد عناصرها الفنية الذي تجري فيه الأحداث، وتتحرك من خلاله الشخصيات.
إن الفضاء الروائي له وظيفة أساسية لا ننكرها، ألا وهي الوظيفة الجمالية؛ فالفضاء يُسهم في تأكيد شعرية الرواية، سواء أكانت روايةً عربية أم عالمية، حيث نجد كثيرًا من الروائيين استطاعوا أن يجعلوا من صفحات رواياتهم مسرحاً، لتقديمِ فضاءٍ يُسهم في إضفاء جمال أخّاذ على خطابهم الروائي.
فالعلاقة بين الأدب والجغرافيا متشبثة بعضها ببعض، إذْ يؤكد المفكر (غاستور باشلار) أن إنشائية الكتابة لا تخلو من الناحية الموضوعاتية من بُعد بيني، فهو يذهب في تحليل جمالية الفضاء، ويؤكد أن العلاقة بين الكتابة واللغة هي التي تحدد زاوية نظر المتكلم إلى الفضاء؛ وبذلك يكون المكان موضوعًا أدبيًا أي ظاهرة جمالية في إدراك الأشياء، فيذهب بخطابه إلى المكان أو الفضاء.
في روايةِ “البيت الأندلسي” للروائي الجزائري (واسيني الأعرج) بروزٌ للفضاءاتِ بكل أنواعها، وتنوعت الفضاءات من فضاء جغرافي إلى الفضاء الدلالي، إلى الفضاء النصي، إلى الفضاء الحضاري؛ وهذه الأنواع أضفَتْ نوعًا من الشعرية والجمال والحس الرهف.
وعند الأديب المصري (نجيب محفوظ) نجد حضورًا للمدينة المصرية، التي ترصد حياة المجتمع المصري، وتميزت معظم أعماله بمنطق الوصف في بعده المكاني؛ ومن أهم هذه الروايات: رواية “أولاد حارتنا” التي فازت بجائزة نوبل للآداب عام 1988.
ومن الجلي أنه لا توجد أية رواية تخلو مما يعرف بالفضاء الجغرافي النصي؛ ففي القصص البوليسية يعد الكاتب الرومانسي الألماني إرنست هوفمان (1776-1822) أولَ من كتب الروايات البوليسية؛ كما كتب الكاتب الأمريكي إدغار آلان بو (1809-1849) قصصَ الجرائم؛ بالإضافة إلى الطبيب الأسكتلندي آرثر كونان دويل (1859-1930) صاحب قصص المحقق الشهير شارلوك هولمز؛ وأيضًا مؤلفة الروايات البوليسية البريطانية أغاثا كريستي (1890-1976)، فقد كانت الأمكنة فيها جزءًا متكاملًا مع البناء الفني للقصة، والرواية البوليسية.
كما تحضر الأمكنة في الروايات الرومنسية أيضا، حيث شهد هذا النوع إحياءً امتد من أواخر القرن الثامن عشر إلى منتصف القرن التاسع عشر، على يد الكاتب الإنجليزي هوراس والبول، مع روايته “قلعة أوترانتو” التي ترجع لعام 1764، وأيضًا ماري شيلي، واللورد بايرون، وصموئيل تايلور كوليردج، وجميع الروايات تنطوي على تصوير واقعي للحياة، وموضوعات الحب والعاطفة، وجمال الطبيعة، والحدائق والأنهار وقوة الخيال.