الخلافات والانقسامات أخطر التحديات التي تهدد عبور السودان نحو السلام

على السودانيين التوحد ونبذ الفرقة والاضطلاع بدورهم لبناء دولتهم من جديد

“نهاية الحرب اقتربت”… تصريح للفريق ابراهيم جابر عضو مجلس السيادة ومساعد القائد العام للجيش السوداني بعد الانتصارات التي تحققت في  مختلف المحاور بالعاصمة الخرطوم والولايات الأخرى واستعادة الجيش السوداني لها من أيدي قوات الدعم السريع. وهو خبر يدعو للتفاؤل ويحمل في طياته آمال الملايين من المشردين والنازحين السودانيين بالعودة إلى بيوتهم والعيش بأمان بعد شهور مظلمة من الحرب الضروس التي أبادت ودمرت كل شئ.

 بعد غياب طويل عن ساحة الاهتمام الإعلامي نتيجة التركيز على حرب غزة ولبنان وأحداث سوريا، حان الوقت لتتجه الأنظار وعيون المراقبين إلى السودان في ظل ما يشهده من تطورات كبيرة ومتلاحقة في الفترة الأخيرة بعد نجاح الجيش السوداني في السيطرة على مواقع مهمة كانت بحوزة الدعم السريع واستعادة ما استولت عليه من محافظات وولايات تمهيدا للسيطرة على العاصمة الخرطوم بشكل كامل وذلك بعد ما يقرب من 22 شهرا من الاقتتال والحرب الأهلية التي تسببت في مقتل وإصابة وتشريد الملايين وأحدثت أزمة إنسانية تعد من أخطر الأزمات التي يمكن أن يواجهها البشر.

في خضم الأحداث العسكرية وانحسار قوات الدعم السريع في مواجهة الجيش السوداني الذي استعاد مقر القيادة العامة في الخرطوم، بدت ملامح أكثر تفاؤلا لحلحلة الوضع في السودان والخروج من دائرة الحرب وتوقف المعارك، وصار الحديث جادا عن التحام الشعب والعمل وفق خارطة طريق تقودها الدولة لمرحلة ما بعد الحرب واستئناف العملية السياسية التي توقفت بسببها. وكانت وزارة الخارجية السودانية قد أعلنت أن الدولة طرحت خطة للإعداد لمرحلة ما بعد الحرب بعد مشاورات واسعة مع القوى الوطنية والمجتمعية كي تكون مدعومة بكل جموع الشعب السوداني.

لاشك أنها أخبار تحمل بشرى لكل السودانيين الذين تألموا كثيرا من معاناتهم المريرة بسبب الحرب، ولكن يثور التساؤل حول كيفية العبور من اللحظة الراهنة إلى  مرحلة ما بعد الحرب واستئناف العملية السياسية والحياة الديمقراطية التي كان يتأملها السودانيون بعد ثورتهم ضد الرئيس المعزول عمر البشير.

في مداخلة خاصة للحصاد يقول الدكتور محمد محجوب هارون المدير السابق لمعهد أبحاث السلام بجامعة الخرطوم: لقد نجح الجيش الوطني بالفعل في استعادة المناطق الحيوية التي كان قد استولت عليها قوات الدعم السريع كما حقق تقدما كبيرا في ولاية الخرطوم وهو إنجاز مهم جدا على أرض الواقع والصورة تبدو مثيرة للتفاؤل وهناك مؤشرات على استمرار التقدم حتى يتم تحرير كافة السودان والتضييق على قوات الدعم، وقد تكبد بالفعل خسائر جمة ولا تبدو هناك فرص لبقائه وأصبحت قواته في حالة تآكل من حيث القدرة التسليحية والتمويل والدعم السياسي كما لا توجد فرص لدى هذه القوات للاحتفاظ بالأرض التي كانوا يسيطرون عليها وحتى وإن لم يتم تحرير كل الأرض، لكن تقدم الجيش يستمر .

مخاوف وأطماع

في مرحلة سابقة كانت هناك محاولات عديدة لرأب الصدع ومبادرات لاحتواء الصراع عبر التفاوض لكنها باءت بالفشل فكان الحسم العسكري هو الفيصل، وهو ما بدت ملامحه على أرض الواقع من خلال سيطرة الجيش ومطاردته لقوات الدعم السريع.

لاشك أن الشعب السوداني يتطلع إلى تلك اللحظة التي يستعيد فيها أمنه واستقراره كي يتفرغ للبناء والتنمية وهو الحافز الذي يجب أن يدفع كل الأطراف نحو التقدم والسلام.

عندما نعود للوراء قليلا في خضم أحداث الثورة السودانية كانت الآمال عريضة في تحقيق حياة أفضل وأكثر عدلا ورخاءً لكن هناك أياد خفية عبثت بالأمن السوداني ونجحت في الوقيعة بين السودانيين لسرقة أحلامهم. وللأسف الشديد كانت قوات الدعم السريع أحد وسائل الاختراق التي نفذ منه الخطر لتشتعل الأوضاع وتلتهم نيران الحرب كل شئ بعد أن استيقظ السودانيون في الخامس عشر من إبريل 2023 على أصوات المدافع، وطلقات الرصاص وسط مشاعر الصدمة من هول ما حدث  في الوقت الذي كان يفترض فيه الاستعداد لموعد إتمام الاتفاق السياسي بين الطرف العسكري والمدني. وخلال أيام قليلة فوجئ العالم بتصعيد الأحداث وصولا للحرب الأهلية بين طرفين سودانيين يقودهما الخصمان الفريق عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة في السودان ومحمد حمدان دجلو الشهير بحميدتي والذي كان نائبه في المجلس منذ قيام الثورة السودانية ضد البشير. وهي الحرب التي خلفت ملايين الضحايا بين قتيل وجريح ونازح ومشرد وجعلت الأوضاع الإنسانية في السودان من أخطر حالات التدهور البشري.

لذلك لابد أن تكون هناك مخاوف ومحاذير حتى لا يتكرر هذا السيناريو بعد انتهاء الحرب والعودة لطاولة المفاوضات بين المدنيين وسلطات الجيش.

بطبيعة الحال لم يتم القضاء على كل بؤر قوات الدعم السريع ما يعني استمرار القلاقل والصراعات في تلك المناطق التي يتواجدون بها بشكل يجعلها نقط ساخنة وخطيرة وهو ما يؤكده الخبير الاستراتيجي اللواء أحمد النحاس الذي يرى وجود صعوبة في تحديد مدى زمني للقضاء عليهم ويحذر من مغبة استمرارهم حتى لو بأعداد قليلة لأنه قد يفتح الباب لتجدد الصراع في حالة تدخل أطراف خارجية بتقديم الدعم لهم. فعلى الرغم من حدوث انشقاقات في صفوف قوات الدعم السريع واعترافهم بالهزيمة والخسارة إلا أن ذلك لا يعني القضاء عليهم وهو أمر يقيني حتى لدى المتفائلين من السودانيين.

ولا ينفصل ذلك عن وجود أطماع خارجية في السودان وثرواته وأهمية موانئه الاستراتيجية. على رأس الثروات السودانية هي الذهب النفيس الذي يوجد بكميات كبيرة حيث يبلغ الاحتياطي السوداني منه 533 طنا، ويحتل السودان بها المكانة ال17 عالميا بين منتجيه وفقا لتصريحات هيئة الأبحاث الجيولوجية التابعة لوزارة المعادن. وهناك تقارير تكشف عن وجود أطراف إقليمية ودولية تشارك في تسهيل عمليات تهريب الذهب من السودان إلى أوروبا، ولاشك أنه من مصلحة ذوي الأطماع تحفيز بيئة الحرب والصراعات التي تمكنهم من وضع أياديهم على هذه الثروة. ومن المعروف أن حميدتي قائد الدعم السريع كان يسيطر على مناجم الذهب في بلاده خاصة منجم جبل عامر في منطقة دار فور. ويزخر السودان بثروات أخرى يسيل لها اللعاب منها الصمغ العربي إلى جانب احتياطي كبير من مادة اليورانيوم الخام في دار فور كذلك وجبال النوبة والبطانة وولاية البحر الأحمر وكردفان والنيل الأزرق، وهي المادة المطلوبة في الصناعات النووية. كما يوجد معدن النحاس الخام بكميات اقتصادية في مناطق بالسودان تحت سيطرة الدعم السريع. وكلها خامات ترتبط باستثمارات اقتصادية كبرى يمكن أن تحول الاقتصاد السوداني إلى واحد من أكبر الاقتصاديات في العالم. وما يثير الحزن أن يزخر السودان بهذه الثروات وفي نفس الوقت يعاني من الفقر، كما ينعم بمساحات شاسعة من الأراضي الخصبة الصالحة للزراعة ويواجه شعبه أزمات غذائية كارثية بداية من سوء التغذية وصولا للمجاعات والجفاف. وحينما نتكلم عن الأطماع لا يمكن تجاهل الموانئ السودانية وأهميتها الحيوية والاستثمارية، سيما في ظل الموقع الهام للسودان على البحر الأحمر. وكلها مقدرات مهمة لأي دولة شرط حسن الإدارة وابتعاد الطامعين ورفع أياديهم عن السودان.

فرص وتحديات

في ضوء ذلك نجد أن السودان يمتلك مقومات هائلة للارتقاء بمستوى معيشة شعبه باعتبارها فرصا كبيرة للتنمية، ولكنها الأطماع التي تخلق الصراعات والحروب. وقد كشفت تقارير عن وجود أيادي غربية خفية تدعم قوات الدعم السريع ضد الجيش السوداني وتم الاستدلال على ذلك بالعثور على مخازن أسلحة أوكرانية وفق ما يؤكده الخبير السياسي محمد عبد الغني.

رغم فرص التطور ومقدرات الدولة إلا أن هناك تحديات كبيرة تواجه السودانيين في الفترة الحالية على رأسها محاولات التدخل والاختراق من الخارج بدافع أطماع مختلفة خاصة في حال استمرار أو تجدد الصراعات والنزاعات في البؤر الساخنة سيما في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق. وتحذر الدكتورة أماني الطويل الخبيرة بمركز دراسات الأهرام من مغبة الانقسامات بين السودانيين والتي تعد أخطر التحديات في المرحلة الحالية. ولاتزال ذكريات الانقسامات السياسية الحادة بين المدنيين والعسكريين عالقة في الأذهان مع تفاصيل الأزمة الخانقة التي أحدثتها وتحولت إلى مقدمات للحرب الخطيرة التي اشتعلت.

يضاف إلى ذلك تحد الأزمات الاقتصادية وما خلفته الحرب من أزمات إنسانية كارثية حيث أفادت تقارير أممية منشورة نهاية العام السابق أن 97% من السودانيين مهددين بالمجاعة بجانب البطالة والفقر الشديد وهو ما يفرض أعباءً ثقيلة في عملية إدارة المرحلة التالية للحرب ومواكبة متطلبات المرحلة.

ولذلك يظل التساؤل قائما حول الفرص والتحديات المرتبطة بهذا الوضع الشائك في السودان، فهل تسير الأمور على ما يرام أم تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن كما حدث في أعقاب الثورة السودانية على نظام البشير؟!

لاشك أن التوافق ووجود قاعدة جماهيرية وشعبية لأية أطروحات خاصة بفترة ما بعد الحرب تعد ضرورة ملحة لضمان الالتفاف والتوحد في هذه المرحلة الحرجة والحساسة من تاريخ السودان.

دور السودانيين

ويعول الدكتور محجوب هارون كثيرا على السودانيين أنفسهم ويقول: ما شهدته بلادنا في إبريل عام 2023 من اشتعال للحرب نتحمل مسؤوليته نحن السودانيين ، صحيح هناك تدخلات خارجية لكن كان من الممكن منع الحرب من الأساس لو كان الموقف السوداني جيدا من حيث حسن إدارة الوضع في مقابل حالة الانقسام التي كانت موجودة وقتها وما كانت الحرب لتشتعل لولا أننا تركنا الأبواب والنوافذ مفتوحة والمأمول الذي يتم العمل عليه هو أن يكسب الجيش الوطني هذه الحرب من ناحية وان يستطيع استرداد الدولة وهياكلها الرئيسية والسيادة مع ضرورة العمل على إعادة تأسيس الدولة السودانية على توافق وطني عريض القاعدة بالضرورة للحيلولة دون تكرار ما سبق.

وكانت قوى سياسية وأهلية وجماعات مسلحة مؤيدة للجيش قد سلمت ورقة تتضمن خارطة طريق أثمرت عنها سلسلة اجتماعات عقدت في بورتسودان وسط تأكيدات بأنها بوابة للحل الشامل للأزمة السودانية. وقوبلت الورقة باهتمام من القيادة العسكرية للجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان الذي وعد باستصحاب نصوص من الخارطة في ترتيبات تعديل الوثيقة الدستورية وتشكيل الحكومة.

ومن المرجح أن يستمر مجلس السيادة ممثلا للسلطة في السودان بينما يتم تعيين رئيس وزراء مدني لتشكيل حكومة انتقالية لتسيير الأمور حتى موعد الانتخابات. كما تشمل المشاورات تكوين مجلس تشريعي يضم ممثلين من كل القوى السياسية والمجتمعية بكل فئاتها.

ولكن تظل مشكلة الخلاف في وجهات النظر بين التيارات السياسية المتنوعة وانعكاس ذلك على زيادة الانقسامات في فترة تتطلب جهودا توافقية من الجميع وتنحية مؤقتة للخلافات السياسية لتجاوز المرحلة الخطيرة التي يمر بها السودان والعبور من حالة الحرب إلى الاستقرار والسلام والنظر بعين الاعتبار للمتضررين بالملايين من هذه الحرب سواء نازحين أو طلاب أو مرضى أو فقراء مهددين بالموت جوعا لعدم توفر سبل كفالة الطعام لهم. وتأتي أيضا أهمية الأدوار التي تقوم بها القوى المدنية السودانية للدعوة للسلام والديمقراطية.

مبادرات عربية وإقليمية دولية

لاشك أن القضية السودانية ظلمت إعلاميا ودوليا كثيرا في ظل توجيه الاهتمام الأكبر إلى حرب إسرائيل في غزة ولبنان، وقد آن الأوان للاهتمام الدولي بشكل عادل بالوضع في السودان والتعاطي معه بشكل أكثر فاعلية دون الاكتفاء بدور المتفرج والمراقب عن بعد. ولابد من دعم دولي كبير للسودان مع مبادرات فعالة لمساعدته على تجاوز أزمته. ويمكن للمجتمع الدولي أن يضطلع بدور مهم في دعم جهود السلام والاستقرار من خلال الضغط على طرفي النزاع  وتقديم المساعدات العاجلة.

أما عن الدور العربي فلم يشعر السودانيون به كثيرا خلال أزمتهم، برأي الدكتور محجوب هارون والذي يقول أنه واقعيا ليس معولا على الحالة العربية الراهنة على الأقل في المدى القريب، لأن الجامعة العربية مجرد هيكل غير فعال منزوع السلاح وليس لها دور مأمول باتجاه التحديات التي يمر بها السودان. ولا “أتصور إلا دوار للسودانيين في استرداد أرضهم وإعادة تأسيس الدولة. ولكن في حالة تحقق ذلك ربما في ظروف يسودها السلام والاستقرار السياسي قد يظهر دور اقتصادي للاستثمار العربي الخارجي في بلادنا باعتبار أن السودان يمتلك أفضل فرص من حيث الزراعة والموارد والمعادن والمواقع المتميزة.

وختاما فلابد أن يستثمر السودانيون الفرصة الحالية في انتصار الجيش والعمل على عدم الرجوع للخلف مرة أخرى والتعاون على قلب رجل واحد لانتشال بلادهم من براثن الحرب والتفرغ لإعادة بنائها ونبذ الخلافات والمطالب الشخصية أو الفئوية والتركيز على الهدف الأسمى وهو إنقاذ الوطن.