السجع بين الصنعة والتصنّع

من رسالة لابن الوردي يرثي هبة الله بن عبد الرحيم الشافعي أرسلها لابنه القاضي نجم الدين يدعوه فيها ويرشده جاءت على لسان ديك، قال فيها (صاح الديك ها أنا أناديك. أنا قد أذّنت فأقم الصلاة أنت. هذا أوان صف الأقدام ووضع الجباه ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله، كم أوقظك وبانقضاء الأوقات أعظك فأشفق عليك بصياحي وأرفرف عليك بجناحي، أقسّم لك الوظائف بلا حساب وأعرف المواقيت بغير اصطرلاب).

إن ما نلاحظه في الرسالة أنها منثور تميّز بترك التنوين وسهّل الهمز ووقف بالهاء على التاءات لكي لا ينقطع الوصل كما أجاز الوقف في موضع الجواز، وأجاز الوصل في موضع الوقوف.

نعم هكذا هو السجع. الذي ترجع أصوله اللغوية الى السجع بتسكين الجيم، وهو القَصْدُ المُسْتَوي على نسَقٍ واحد، فسَجَعَ يَسْجَعُ سَجْعاً استوى واستقام وأَشبه بعضه بعضاً. ومنه سَجْعُ الحمام وهو موالاة صوته أو هديره على طريق واحد. وكذا سجعت الناقة إذا مدّت حَنِينَها على جهة واحدة. وسَجَعَ الكَاتِبُ كما رأينا آنفا تَكَلَّم بكلام له فَواصِلُ كفواصِلِ الشِّعْر من غير وزن. ويقال له سَجّاعةٌ من الاسْتِواءِ والاستقامةِ والاشتباهِ كأَن كلّ كلمة تشبه صاحبتها.

فالسجع على ذلك توافق كلمتين في الحرف الأخير. لكن أفضله ما تساوت فقراته نثرا، وفق ما يرى الكثير من العلماء والنقّاد.

ومن أمثلة السجع المشهورة عند العرب خطبة لقس بن ساعدة الإيادي قال فيها (أَيُّهَا النَّاسُ، اسْمَعُوا وَعُوا، مَنْ عَاشَ مَات، وَمَنْ مَاتَ فَات، وَكُلُّ مَا هو آتٍ آت، ليل داجٍ، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وجبال مرساة، وأرض مدحاة، وأنهار مجراة، إن في السماء لخيرًا، وإن في الأرض لعبرًا، مَا بَاْلُ النَّاسِ يَذْهبُونَ وَلاَ يَرْجِعُون؟! أرَضُوا فَأَقَامُوا؟ أمْ تُرِكُوا فَنَامُوا؟ يا معشر إياد، أين الآباء والأجداد، وأين الفراعنة الشداد؟ ألم يكونوا أكثر منكم مالًا وأطول آجالًا؟ طحنهم الدهر بكلكله ومزّقهم بتطاوله).

وقد اصطلح البلاغيون على السجع بأنه (تواطؤ فاصلتين أو فواصل على حرف واحد أو على حرفين متقاربين أو حروف متقاربة). وقالوا إنه (يقع في الشعر كما يقع في النثر). وذهبوا الى ان (الأسجاع في الشعر كالقوافي في النثر). وفي حين أن بعضهم جاز أن يقع السجع في الشعر، أوضح آخرون أن هذا من باب التصريع في الشعر ولا سجع فيه؛ من ذلك قول ابن الرومي:

أذنتنا ببينها أسماء

ربّ ثاو يملّ منه الثواء

وقول المتنبي:

فنحن في جذل والروم في وجل

والبرّ في شغل والبحر في خجل

والسجع نوع من المحسنات اللفظية قد كثر الحديث عنه.

ولقد اختلفت الآراء حول استخدام القرآن الكريم للسجع وهل أن بعض آياته جاءت على هذا النمط أم لا.

فقد نظر العلماء تشابه بعض الألفاظ القرآنية من حيث الجرس والبنية على أنه سجع فيما نفى آخرون أن يكون القرآن استخدم السجع كونه من المحسنات التكميلية الصورية. إذ ان القرآن كلّه حكمة ومعرفة وهو ما ينافي ذلك.

فالسجع في جوهره يقوم على التكلّف والصنعة ومن هنا نرى كثيرا من العلماء يعيبون عليه ولا يعدّونه من البيان العربي في شيء. وقد استدل أصحاب هذا الرأي بالموروث العربي من النثر والمقامات والكتب المليئة بالسجع في عصور ما أطلق عليه (ضعف اللغة وتردي حال البيان العربي).

لكن مع ذلك هناك من استحسنه ودافع عنه مدّعيا استعمال القرآن له وقد استشهد بمجموعة من السور لإثبات وجهة ادعائه.

من أجل ذلك انقسم العلماء في هذا الأمر الى قسمين اثنين؛ الأول مؤيد لوجود السجع في القرآن والثاني ناف له.

فالتنوخي الذي يعدّ من المؤيدين للسجع في القرآن يقول (مَن عاب السجع مطلقًا، فمخطئ؛ لأن السجع كثير في كتاب الله وفي كلام النبي). مبينا (إنما يُعاب السجع إذا احتاج متكلّفه إلى تنقيص المعنى أو زيادته). مدّعيا أن رسول الله صلى الله عليه وآله استعمله في السنة، وأضاف (لو عاب السجع مطلقًا لَمَا نطق به).

لكن النافين استعماله في القرآن وعلى رأسهم الباقلاني قالوا ان (الفواصل بلاغة والأسجاع عيب وذلك أن الفواصل تابعة للمعاني، وأما الأسجاع فالمعاني تابعة لها).

جدير بالذكر أن الأشاعرة كانوا من أشد النافين للسجع في القرآن. وقد نوّه البقاعي بذلك في قوله ان هذا القول فاسد لِمَا في القرآن من اختلاف أكثر فواصله في الوزن والرَّوي، ولا ينبغي الاغترار.

ومن الضروري أن نذكر ما شاع آنذاك من سجع الكهّان كونه من السجع المذموم وقد أجمع العلماء على ذلك؛ وربّما كان هذا الأمر مؤثرا بتقليل أهمية السجع في النثر العربي.

فذلك النوع من السجع الذي شاع في العصر الجاهلي أو عصر ما قبل الإسلام والذي استخدمه بعض الكهان اعتمدوا فيه جملا مترادفة متزاوجة متوازنة مدعين أنهم ينطقون باسم الآلهة وأنهم على اطلاع بالغيب وأن الجنّ مسخّرة لهم؛ فكانوا يسمّون الجني بالتابع والجماعة توابع.

وكان بعض العرب في الجاهلية يسألون الكهّان عن كثير من المسائل المتعلقة بحياتهم مستنيرين بآرائهم كونهم يعتقدون باطلاعهم على الغيب.

ومن السجع المشهور آنذاك؛ أنه يروى أن شقًّا وسطيحًا وكانا من الكهان المشهورين اتفقا على تعبير رؤيا لربيعة بن نصر اللخمي أحد ملوك العرب فأخبره سطيح بإغارة الحبشة على بلاد اليمن بسجع قال فيه (أحلف بما بين الحرتين من حنش، ليهبطن أرضكم الحبش، وليملكن ما بين أبين إلى جرش). أما شقّ فقال له (أحلف بما بين الحرتين من إنسان ليهبطن أرضكم السودان، وليملكن ما بين أبين إلى نجران).

ولم يكن أمر الكهانة مقتصرا على الرجال فحسب؛ فقد ورد أن بعض النساء ادعين الكهانة وكانوا يسألونهن عن مختلف القضايا التي تمس حياتهم؛ ومن أشهرهن زبراء التي أنذرت قومها غارة عليهم، فقالت (واللوح الخافق والليل الغاسق، والصبح الشارق، والنجم الطارق، والمزن الوادق، إن شجر الوادي ليأدوا ختلًا، ويحرق أنيابًا عصلا، وإن صخر الطود لينذر ثكلًا، ولا تجدون عنه معلًا).

جدير بالذكر أن غرابة سجع الكهان لم تكن مقتصرة على كلامهم المبهم والغريب لتشتيت انتباه السامع، بل قد ورد في التراث أنهم كانوا أنفسهم غريبي الشكل والمظهر، فقد ورد أن سطيحا لم يكن فيه عظم سوى جمجمته وإن وجهه كان في صدره ولم يكن له عتق، ولعله كان أحدب، أما شق فادعوا انه كان نصف إنسان له عين واحدة ويد واحدة ورجل واحدة.

ونحن عندما نذكر هذه الأمور لنثبّت أن الجهل وعدم الوعي والإيمان بالمغيبات بشكل مطلق دون استعمال العقل والابتعاد عن المنطق بالطبع سيقود الى هذا النوع من الاعتقادات المتخلفة الجاهلة.

ومن المهم أن نذكر أيضا أن هناك من المتأخرين من حاول الربط بين أقوال الكهّان المنسوبة والآيات القرآنية المحفوظة.

فمن كان يبغي الحطّ من بلاغة القرآن وجوهره الأصيل قال انه مأخوذ عن الكهّان كون النصوص الكهنوتية قديمة، ولم ينتبه الى ان القرآن جاء ليبيّن زيف وكذب وتسويف الكهان في سجعهم نافيا ان يكون هذا من البلاغة والحكمة في شيء؛ فكلما جاء في القرآن ان تشابه وزنه وموضوعه ونسق كلماته إنما هو ردّ من القرآن على هؤلاء الكهنة الكذبة.

جاء في سجع بعض الكهّان أنهم قالوا (أما من استكبر. وبآياتنا كذّب وأنكر. سنُذيقه العذاب الأصغر. ثم نُذيقه العذاب الأكبر. وما أدراك ما الأكبر. جحيمٌ مسَعَّر. وحميمٌ مُسجَّر. وما هو منها مُحرَّر. يوم عن آياتنا أدبر. وقال ما لنا من مآبٍ يُذكَر. إن هي إلا أرضٌ تجمع. وعظامٌ تهجع. وقبورٌ تبلع. كلا سيُنحَر. ثم كلا سيُنحَر. وما له من مفر. ظن أن لن يقدر عليه ربّ البشر).

أما القرآن فيقول (إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ). ثم أنه يقول ايضا (ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ. فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ .ُيؤْثَرُ. إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ. سَأُصْلِيهِ سَقَرَ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ. لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ. لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ. عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ).

ونرى جليّا أن القرآن يؤكد على نفيه لما جاء في سجع الكهان لا أنّه ينحو منحاه لأنه في الأصل يذمّه وذامّ الشيء من غير المنطقي أن ينحو منحاه. وقد أكد القرآن هذه الصدقية بآيتين صريحتين نفى فيهما نفيا قاطعا أن يكون سجعا على منوال سجع الكهان؛ بل هو ردّ صريح عليهم وعلى من كذّب وافترى حيث يقول (فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) وقال أيضا (وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ).

فقضية تشابه القرآن مع السجع إنّما أحدثها من كان يريد العبث بكتاب الله والحطّ من قدره ولا يستطيع ذلك. وإذا أردنا التفصيل في هذا الأمر لوجدنا أن منشأه حديثا هو كلام بعض المستشرقين أمثال أندري ميكال وشارل بيلا. ولا يخفى محاولات الكثير منهم إسقاط الإسلام ومآثره وأهدافه.

ولعمري كان الأولى بمن أراد أن يربط سجع الكهان بآيات القرآن أن يعرّج على سجوعات مسيلمة الكذاب الذي أدّعى النبوة وغيرهم ليرى أن هذا المسلك لم يكن مقتصرا على سجع الكهان فهل له أن يربطه بالقرآن أيضا.

ومهما يكن فالأمر لا يزيد على ردّ القرآن على هؤلا ء الكهنة الذين ادعوا معرفتهم بالغيب. ولذلك نرى اختلاف أقول الكهنة وادعاءاتهم وتأليفاتهم مع آيات القرآن الكريم كون الأخيرة تنسجم مع الواقع والعقل والمنطق بخلاف أقوال الكهان التي لا تنبئ إلا عن اتباع جهل أو توهيم عقل إن كان هناك عقل.

والسجع في اللغة أيضا إنما يراد به إظهار قوة الكاتب ولغته وأسلوبه فيعمد الى إعمال عقله في اختيار كلمات وألفاظ قريبة الوزن والموسيقى.

وقد سرى هذا الأمر في كثير من الفنون الأدبية كالرسالة والمقامة والخطابة حتى وصل الى عنوانين الكتب والمؤلفات مثل (ربيع الابرار ونصوص الأخبار) و(آثار البلاد وأخبار العباد) و(نهاية الأرب في فنون الأدب) و(كشف الأسرار في حكم الطيور والأزهار) و(نهج الصواب في الكاتب والكتابة والكتاب) وغيرها الكثير الكثير.

إلا أننا يجب أن نذكر ان السجع في عصرنا الحالي لم يكن له حضور لافت ربما لأن شكل الحياة قد تغير بعد الثورة الصناعية الهائلة التي حدثت في القرون الأخيرة التي اتخذها البعض مطية للميل الى القضايا المادية أكثر من المعنوية فأصبح اتصالهم بالشعر فقيرا فاخترعوا الشعر الحرّ ولو أنه كان في بداياته يحمل الكثير من القوة والإبداع مع خلق صور ثرّة جميلة، إلّا أنه في الأخير أصبح صورة للنثر الفني أن صحت عليه التسمية.

فلعمري كيف لجيل مثل هذا المشبع بالتقنيات والحداثة أن يستهوي هذه المحسنات اللفظية.

ومن هنا نفهم أن السجع في العصور المتأخرة ابتعد عن ساحات النثر الفني ولم يقتصر فيها إلّا على بعض العناوين والجمل القصيرة بمضانّها المعتبرة.

غير أننا يجب أن نشدد على أن السجع لا يحمل في حقيقته صورا من البلاغة والبيان تؤهله ليكون وسيلة مهمة للكاتب يستعملها لإظهار قوة اللغة وإحاطته بها. ولهذا السبب حمل بعض النقاد على بعض المسجّعين أنهم ابتعدوا في السير أكثر مما ينبغي فأوجدوا صورة مشوّهة للمعاني أمام صورة مزخرفة بالموسيقى والوزن والتناسق. مشددين على أن المعاني التي هي تبع الألفاظ كما هو معروف خير من زخارف لا معنى لها.

ولذا لا نستغرب عندما يذهب التوحيدي الى القول انه يمقت السجع الذي يتعسّف فيه صاحبه الألفاظ بالإيقاع والتنغيم وكان يطلق على هذا الأمر بمصطلح (تعسّف الألفاظ).

ومن المهم أن نقول إن خير السجع ما كان متناسقا لغة ومعنى وموسيقى. فتتكامل فيه جميع الضوابط التي تجعله ينساب الى النفس انسيابا فتدخل ألفاظه وجمله المتناسقة الى النفس بكل راحة وطمأنينة من غير استغراب. وهذا يدل على أن كاتبه مازج بين جمال الألفاظ والموسيقى والمعنى فخلق صورة تكاملية إبداعية للنفس والروح.