سقوط الحضارة فوق أرض النبوءآت

يتوزّع  العرب في بقعٍ ديمغرافية وقيادية متحرّكة شرقاً وغرباً نحو خرائط واسعة لدول وأنظمة داهمتها وتُداهمها تِباعاً إستراتيجيات التحالف والتعاضد بدلاً من عادات التدمير والتفكيك. لقد أخفقت العديد من القيادات والأحزاب من تحقيق الإستقرار للشعوب العربية ووحدتها بسبب تنافرها وتشظيّاتها وحروبها الكثيرة وانحيازها نحو أحضان الغرب والشرق أعني الغير. لنقل بأنّ شعوب معظم العرب والمسلمين لطالما كانت تغرق في الفقر والسجون والمنافي والدماء الى درجةٍ صارت كلّ مجموعة تشبه في طرائق تفكيرها ومعالجاتها للأمراض السياسيّة والإجتماعية وكأنها تنكمش كما الأقلّيات التقليدية التي تيبّس عندها التاريخ فبات سلوكها بتجديد الأحلام تاريخياً عبر الإستقلال الذاتي والحريّة المستحيلة التي توقدها غالباً الدول العظمى الجشعة حتى تهبّ النيران عندها تُدير العظمة ظهورها للشعوب المبعثرة.

سؤآل: أيُصدّق إبن خلدون مثلاً، لو قرأ “مقدّمته” الرائعة مجدّداً عندما شبّه فيها الحضارات بالإنسان من حيث ولادتها ونموّها وهرمها وموتها؟ وهل يصدّق أوزوالد شبنغلر الذي تنبّأ ب”سقوط الحضارة الغربية” وأفولها، أو أرنولد توينبي الذي اختصر حياته ب دزينة مؤلّفات حول ” تاريخ الحضارات” ونحن منها وفيها منذ إشراقة الشمس في بلاد ما بين النهرين. هل صحيح أنّ الحضارة سقطت فوق أرض النبؤآت أو أنّها تقاعدت في الأذهان والقواميس كمصطلحات ومفاهيم أمام  تعقيدات العولمة في القرن الواحد والعشرين؟

يمكننا التفكير، بإختصار، بأنّ السياسات في هذه المساحات الغنيّة بحضاراتها القديمة وبأديانها التوحيدية الثلاثة كما بكنوزها الأرضية مرهونةً وكأنّها ستبقى محكومةً بالغير أي بكلّ القوى الخارجيّة في الأرض، لنكتشف ونحن حيال مشاهد من حروبٍ تدميرية وخرائب متنقلة لا يمكن فهمها أو إيقافها أو تبريرها، أنّنا محكومون جميعاً بالحكمة الإغريقية البليغة التي سبقت التوحيد الديني :

” لا تعاقب الآلهة البشر عندما تغضب عليهم، وإنّما تسلّط عليهم أنفسهم بما يكفي لتحديد مستقبلهم”. ألم يُسلّط العرب والمسلمون سقوطهم على أنفسهم وأنظمتهم حتّى وصولهم لما هم عليه؟

أطرح السؤآل بقوّة واعياً أن معظمنا واقع في زمنٍ من العزلة والإهمال والإحباط وضعف التأثير في ميادين التغيير الوطني الى درجة التيه واليأس حيال السلطات والأنظمة الكثيرة الوعرة الحافلة بالسقطات وتعظيم “الأنا القيادية” مروراً بكوارث “الربيع العربي” الذي هزّ بل خلخل قياديوه جذور التاريخ ودمّروا الأحلام وباعوا تواريخهم وتُراثهم لمتاحف العالم وعرضوه في ساحات العواصم وشوارعه بأبخس الأثمان. بارزة إذن مفاصل الفشل الواعي أوّلاً، بالعودة الى نخل النظريات والأفكار والإيديولوجيات والأسئلة العربية المتجدّدة التي تخمّرت في جغرافيات عربية  شاسعة غنيّة بتاريخها الحضاري العريق ومن قال أننا ننتظر كلّنا عودتها ولم شملها.

أبدأ مذكّراً أبداً بخلع بوابة العراق بعراقتها وقد لطّخت أبداً التاريخ العربي والعالمي بكونه ينابيع الحضارات الأولى البكر لأنحني نحو سورية المخضّبة بدمائها وحيرتها التي لم يُدركها اليباس إلى دمارها وشعبها المبعثر المصلوب أبداً في دهاليز المجالس والمؤسسات الدولية والعربية، إلى تعقيدات مزمنة ومتعسلة بين المغرب والجزائر لأعرّج نحو الصومال يا للصومال؟ فليبيا أو اهرول شرقاً نحو الدهاليز الطائفية الضيّقة الأبدية في لبنان الكسيح الذي لا عصىً في يمينه يتعكّز عليها نحو الموت، نزولاً نحو الخليج الذي يبدو خلافاً للمشاهد العامة، مشرقاً أخيراً من الإمارات خلف الطاولة الدولية في “إكسبو دبي” بحثاً بمتغيرات المّناخ. يبدو وكأنه حبة الحصرم تُفقى في العيون العربية والإقليمية وحتى الإسلامية المتفرّجة تشدّنا نحو اليمن والبحرين لمعاينة ركام الفكر القومي العربي وصعوبة بل إستحالة تجديده، لأنّ ربيع العرب وما بعده خلّف الهويات المحروقة وأربك لمّ شمل العرب في القمّة الشاملة ال 22 التي انعقدت في 19 مايو 2023، وكانت فرصة التحديق بالمستقبل. إنّ التدخلات والإعتداءات الإقليمية في الشؤون العربية أورثت شعوبنا معضلات في احتساب عدد الدول المنتمية الى الزمن العربي الجميل. لا يمكن إهمال معضلات الإحتماء بالتعصّب الديني وإيقاظ الأقليّات وكرههم والإندفاع في بعثرتهم وإقتلاعهم من مطارحهم. لا يجوز لمن يسلك هذه الدروب ألاّ يركّز حبره على العقل الإرتدادي بحثاً عن نسخٍ قديمة مطروحةً فوق طاولات العالم الذي قد يقبل إذ تنفخ في أذان العرب والمسلمين الوهج الإمبراطوري المتجدّد؟

ستتقاطع الدروب المتشعّبة مجدّداً في تحوّلات التغيير والطموحات الإنسانية المشروعة، ويمحو معالم تعبيدها الكثير من الدماء والخرائب والعشب البرّي والشوك الفكري والإيديولوجي عبر أسئلة كثيرة تتزاحم مجدّداً في ما يمكن تسميته بتجدّد الدين أو إحياؤه وتعميم الجهالة وبعث الماضي السحيق في التفكير والسلوك والرؤى. آنذاك، يبدو التغيير في هذا الفضاء العربي العظيم، وكأنّه يفترض، للأسف، أحداث كبرى تتجدّد بين الشرق والغرب أو في كليهما بين معتنقي الديانات التوحيدية وخصوصاً المسلمين المُنقسمين في عقل العالم الى المتشدّدين ويُعرفون في الغرب بال Zélotes مقابل المعتدلين الذين يسمّونهم بال Les Hérodiens بينما يطلق عليهم معاً في الغرب إسم إسلامستان.

لم تخبو الصراعات بين الأقليات والمسلمين وأيضاً بين المسلمين أنفسهم، ممّا يدفع بنا إلى قراءات متجدّدة همّها محو الفروقات الفكرية الجوهرية نهائياً بين الشرق والغرب أو بين الشمال والجنوب الى درجة الوعي النهائي القاطع بأفول ملامح العظمة الدولية وحدودها في العالم ، بعدما سقط مصطلح العالم الثالث نهائياً، وسقط معه الفكر التوفيقي والمنظومات التي تتوخّى عدم الإنحياز والنأي بالدول والمجتمعات عمّا يحصل من متغيّرات في الدنيا المحكومة بالعولمة والمعلومات وسقوط مفهوم الحضارة التقليدي نهائياً من الأذهان والقواميس. هكذا ستتراجع أحلام المجموعات والأقليات المسكونة بفكرة الخصوصيات لتدرك في أيّ محيط غني وشاسع تعيش، وتتصارع الأكثريات المتعدّدة التي تسقط بدورها بالوقوف سلباً أو إيجاباً الى جانب المجموعات المحكومة بالإبادة والهجرة والنزوح وبعثرة المنطق والديمغرافيا للأجيال الآتية بإنتظار التقسيمات والخرائط الملوّنة وتقطيع الأوردة في أرضٍ ستبقى تتطلّع نحو الوحدة المستحيلة.