خشية من أهلية الرئيس الحالي وتخوّف من عودة الرئيس السابق إلى البيت الأبيض
تكشف الحملات التمهيدية لدى الحزبين الديمقراطي والجمهوري للانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة عن توتر بات ينتاب العالم وليس الولايات المتحدة وحدها مما قد يحمله الاقتراع الذي سيجري في 5 تشرين الثاني (المقبل) من تحوّلات مفصلية في المشهد الدولي برمته. صحيح أن أي انتخابات رئاسية أميركية هي استحقاق جلل تتابعه كافة دول العالم، لكن تعقّد الوضع الدولي وتفكّك قواعده يجعل من الوجهة التي سيقاد بها البيت الأبيض في الأربع سنوات المقبلة مفترقا أساسيا قد يقرر الوجهة التي سيذهب بها العالم إن على مستوى الاصطفافات الدولية أو الصراع حول أوكرانيا أو المواجهة الأميركية-الغربية مع الصين أو مستقبل الحرب والسلم في الشرق الأوسط.
قلق من ساكن البيت الأبيض
الهاجس الأكبر من الانتخابات الرئاسية الأميركية هو غربي بامتياز بسبب التوجهات العقائدية، سواء التقليدية المعروفة أم المستجدّة المحدثّة، للمرشحين الرئيسيين حتى الآن لهذه الانتخابات، الديمقراطي الرئيس الحالي جو بايدن والجمهوري الرئيس السابق دونالد ترامب. وإذا ما كان
الرئيس الحالي لن يمثّل مفاجأة صادمة في حال أُعيد انتخابه لولاية جديدة وسيعتبر عهده المقبل استمرارا لعهده الحالي (باستثناء مستجد يتعلق بصحته وأهليته للحكم)، فإن تجربة ترامب السابقة خلال ولايته الرئاسية (2017-2021) كما ما بدأ يجاهر به من مواقف هذه الأيام في العلاقة مع المنظومة الغربية تمثّل خطرا على وحدة تلك المنظومة وعلى دور الولايات المتحدة القائد لها.
جدل يشبه حالة رعب أصاب الأوساط الأوروبية جراء تصريحات الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في 10 شباط (فبراير) الماضي بشأن مسألة علاقة بلاده مع حلف شمال الأطلسي (ناتو) المُنشأ عام 1949. لا شيء جديد في المنطق العدائي الذي ينتهجه المرشح الجمهوري المفترض للرئاسة الأميركية، لكن الظروف الجيوستراتيجية الراهنة لا تسمح بتمرير نزق شعبوي يُستثمر لصالح الحملة الانتخابية ولوازمها. صحيح أن كلام الحملات الرئاسية هي بالعادة شعبوية تدغدغ عواطف الناخبين وتهدف إلى حصد أصواتهم، غير أن كثيرا من تلك الشعارات التي استخدمها ترامب في حملته الرئاسية الأولى عام 2016 وجدت مكانها في عديد من القرارات التي اتخذها حين بات رئيسا للبلاد وسيد البيت الأبيض.
يروي ترامب في مهرجان انتخابي في كارولينا الجنوبية في شباط (فبراير) الماضي أنه حين كان رئيسا ألقى خطابا في عدد من زعماء الدول الأوروبية وأنه هدد بعدم تقديم الحماية لأي دولة لا تدفع حصة داخل حلف الناتو تصل إلى 2 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي (11 عضوا فقط من المفترض أنهم تمكنوا من تحقيق هذه النسبة عام 2023). أضاف أن زعيم دولة كبرى سأله عما إذا كانت الولايات المتحدة لن تدافع عن بلده إذا ما تعرّض لإعتداء روسي في حال تعذّر إيفاء مستحقاته. فكان جواب ترامب أنه لن يدعم هذا البلد لا بل سيساعد الروس على فعل ما يريدون فعله. وحتى يتّسق تصريحه مع أهداف حملته الانتخابية، أضاف أن أموال هذه الدول صارت تتدفق نحو ميزانية الناتو بعد هذا التهديد.
يتناقض كلام ترامب مع المادة الخامسة من “دستور” حلف شمالي الأطلسي التي تنصّ على أن أي اعتداء على إحدى دول الحلف (31 دولة) هو اعتداء على دول الحلف جميعا. وليس جديدا كلام ترامب، وهو في توجّهه إلى ناخبيه يدغدغ لديهم مشاعر الحرص على أموالهم من تبذير مزعوم تمارسه واشنطن بسبب التزاماتها خارج حدود الولايات المتحدة. وإذا ما مارس ترامب هذه التمارين إبان عهده الرئاسي، فإن الأمر، على ما سببه من ضيق وتبرّم لدى الحلفاء آنذاك، جرى قبل أن يصبح الخطر الروسي على أوروبا واقعا وحقيقة منذ أن شنّت موسكو بقيادة فلاديمير بوتين حربها ضد أوكرانيا في شباط (فبراير) 2022.
الغرب وتجربة ترامب
تعرّضت المنظومة الغربية في عهد ترامب إلى أزمة وجودية داخلية بسبب المنحى الانعزالي الذي ذهب الرئيس الجمهوري إليه في النأي بنفسه عن أوروبا والناتو. فرض على أوروبا تعرفات جمركية كالتي تفرضها واشنطن على الخصوم. لمّح بالانسحاب من الحلف الأطلسي. دعم بريطانيا في مسار الانشقاق عن الاتحاد الأوروبي. رفض مصافحة المستشارة الألمانية أنغيلا ميركيل وتوترت علاقاته مع زعمي فرنسا وكندا. انسحب من
منظمة اليونيسكو وراح يهدد حتى بالانسحاب من الأمم المتحدة.
بالمقابل أظهر ترامب إعجابا بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين وتباهى بصداقته مع زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون. وقال يوماً أنه يثقّ بما يقوله بوتين أكثر من ثقته بأجهزة المخابرات في الولايات المتحدة. عقد اجتماعا مع الزعيم الروسي في هلسنكي في تموز (يوليو) 2018 لم يحضره أي مستشار أو موظف أميركي وبقي مضمون الاجتماع سريّا لم تعرف أميركا ومؤسساتها السياسية والأمنية شيئا عما دار بين الرجلين.
حين انتخب الديمقراطي جو بايدن رئيسا خلفا لترامب، تنفست المنظومة الغربية الصعداء. سارع الرئيس الجديد إلى ترميم ما تصدّع داخل الحلف الغربي، فعقد في حزيران (يونيو) 2021 في كورنوال في بريطانيا قمّة مع مجموعة الدول السبع G7 وانتقل بعدها إلى بروكسل لعقد قمّتين مع زعماء دول الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي. أعاد الرجل تأكيد التزامات الولايات المتحدة مع الحلفاء، وأعاد بذلك تثبيت استمرار زعامة بلده للمنظومة الغربية. وفيما كان لسان حال سلفه يدافع عن خيار النأي بالنفس عن الحلفاء، طمأن بايدن القمم الثلاث بشعاره الشهير America is back.
يدعو كبار خبراء السياسة والشؤون الجيوسياسية في أوروبا إلى أخذ تهديدات ترامب الجديدة على محمل الجد. فحظوظ الرجل قوية تكاد تكون حتمية في حمله إلى البيت الأبيض من جديد. بعضهم يدعو أوروبا إلى الاستفاقة على هذا “القدر” والاستعداد لاحتمال بات وشيكا في تخلي الولايات المتحدة عن مظلّة دفاع تقليدية ونووية نصبتها فوق أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ويرى هؤلاء أن ترامب لا يعبّر فقط عن مزاج شعبوي انتخابي، بل عن تيار انعزالي يتنامى داخل الولايات المتحدة يدعو إلى العودة بالبلاد إلى ما كانت عليه قبل الهجوم الياباني على بيرل هاربر عام 1941 والذي أخرج أميركا من تقاليدها بعدم التدخل في شؤون العالم.
من يحمي أوروبا؟
تكاد باريس تشمت ببلدان في المجموعة الأوروبية لم تستمع إلى نداءات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لإقامة استراتيجية دفاعية أوروبية تكون مستقلة ولديها اكتفاء ذاتي لا يكون مرتهنا لمزاج أي رئيس في البيت الأبيض. يروي مراقبون فرنسيون في هذا الشأن أن دولا مثل ألمانيا وبعض دول أوروبا الشرقية طلبوا من فرنسا الكفّ عن الترويج لأفكار من هذا النوع لما يمكن أن تفعّله من أفكار في واشنطن تدعم سحب الغطاء الدفاعي الأميركي عن القارة العجوز. وإذا ما تحتمي دول مثل فرنسا وبريطانيا بما تملكه من ردع نووي، غير أن دولا أخرى في أوروبا، لا سيما ألمانيا
وبولندا وفنلندا ودول البلطيق والدول المتاخمة لأوكرانيا، لا تجد رادعا ضد الخطر الروسي إلا التزام أميركي استراتيجي سخيّ وواضح في هذا الصدد.
لا يستطع ترامب سحب بلاده من الناتو. تحوّط الكونغرس من احتمال من هذا نوّع وصادق في كانون الأول (ديسمبر) الماضي على تشريع يمنع أي رئيس من سحب الولايات المتحدة من الحلف دون موافقة مجلس الشيوخ أو قانون صادر عن الكونغرس بغرفتيه. وإذا ما تربك التصريحات السياسية مزاج البورصات المالية وسلوكها، فإن تصريحات ترامب تتداعى مباشرة على مستقبل الصراع في أوكرانيا.
تشعر كييف هذه الأيام بضيق من تعذّر تمرير دعم أميركي موعود يصل إلى 60 مليار دولار لدى الكونغرس رغم مصادقة الاتحاد الأوروبي على مغلف من 50 مليار يورو لأوكرانيا للسنوات الأربع المقبلة. صحيح أن العراقيل لا ترتبط بعداء الجمهوريين ضد أوكرانيا بل بارتباط الصفقة بقوانين لمكافحة الهجرة لم يجدها الجمهوريون كافية وأطاح بها المرشح ترامب، غير أن مواقف الأخير تشي باستعداده رئيسا لمعاندة السردية الأوكرانية والقبول بتلك الروسية في فرض أمر واقع تقبل به واشنطن.
كان بوتين لمّح إلى وصفة لإنهاء الحرب تماشي أهواء ترامب. قال الزعيم الروسي للصحافي الأميركي المثير للجدل (المعبّر عن ترامب والترامبية) تاكر كارلسون في 8 شباط (فبراير) الماضي، أن الحرب في أوكرانيا ستتوقف بعد أسابيع من توقف واشنطن عن إمداد أوكرانيا بالسلاح. وقد يكون احتمال ترامب رئيسا خبراً سيئا للرئيس الأوكراني فلوديمير زيلنسكي. لكن الأمر يعيد إنعاش الرؤية البوتينية للعالم ويفرض من خلال أوكرانيا خريطة تعيد رسم المشهد الدولي وموازين القوى.
صحيح أن ترامب ما زال يعتبر الصين عدوا، غير أن نكسة محتملة للأوكرانيين ستضعف حتما موقع الولايات المتحدة في الصراع مع الصين. هنا فقط يعوّل الأوروبيون على أن يتبدّد كلام ترامب الانتخابي ويصبح سرابا حين تأتيه تقارير البنتاغون ومؤسسات الأمن القومي عن ارتباط مآلات الصراع في أوكرانيا بخطط أميركا لمواجهة أكبر تحدٍ مصدره الصين تواجهه البلاد وسيحدد مستقبل أميركا والأميركيين في العالم.
تصدّع البيت الغربي
في أوروبا من يعتبر أن الديمقراطية الأميركية مريضة وأن عجز البلاد عن إيجاد مرشحين تقل أعمارهم عن 80 عاما هو من أعراض هذه العلّة. سخر بالمقابل منسّق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل من مواقف ترامب. قال: “بكل جديّة، لا يمكن للناتو أن يكون حلفا عسكريا حسب الطلب يعتمد على مزاج رئيس الولايات المتحدة كل يوم”. يبدو هنا المسؤول الأوروبي غير مؤمن بـ “دعابات” ترامب وأكثر ثقّة بقدرة الواقع على فرض قواعده على سلوك أي ساكن في البيت الأبيض.
والحال فإن تصدّعا حقيقيا قد سُجل في السنوات الأخيرة داخل البيت الغربي في الموقف من ملفات ساخنة كبرى. ارتفع معدل القلق الأوروبي من
ارتباك الموقف الأميركي، لأسباب وحسابات داخلية، من مستقبل المسألة الأوكرانية وتداعيات ذلك على أمن وأمان أوروبا. التصدّع انسحب على دول الاتحاد الأوروبي ما بين موقف صقوري يطالب بانخراط عسكري مباشر لصالح أوكرانيا ورد القوات الروسية، وهو أمر تدافع عنه فرنسا ورئيسها إيمانويل ماكرون، وموقف معتدل ما زال متمسكا بعدم إرسال جنود غربيين إلى داخل أوكرانيا. وتقود هذا الموقف ألمانيا التي أعاد مستشارها أولاف شولتس تكرار الموقف الأوروبي-الأطلسي السابق بعدم تورط المنظومات العسكرية الغربية بأي عمليات عسكرية المباشرة ضد القوات الروسية في أوكرانيا، وهو موقف أكده أيضا بايدن من واشنطن.
ما بين بايدن وترامب سيتقرر مصير المشهد الأوروبي. ما زال الرئيس الحالي يدافع بقوة عن خيار تقديم دعم بلا حدود إلى كييف معتبرا أن الأمر يمثّل دفاعا عن موقع المنظومة الغربية والأمن الأوروبي والمثل الغربية في مسائل الديمقراطية والحريات. بالمقابل وعد ترامب بإنهاء حرب أوكرانيا فور عودته إلى البيت الأبيض. لم يبذل الرئيس الأميركي السابق جهدا لشرح الكيفية التي سينهي بها هذه الحرب، غير أن خلفية الرجل العقائدية، التي نجد لها امتدادات صارخة لدى التيارات الشعبوية وأحزاب اليمين المتطرف في أوروبا ونجد لها تأييدا لدى بعض قادة الدول الأوروبية (في مقدمهم الرئيس الهنغاري فيكتور أوربان)، تشي بأنه مستعد لإجبار أوكرانيا وأوروبا على القبول بالأمر الواقع العسكري الذي فرضته روسيا داخل أوكرانيا بما في ذلك ضمّ أربع أقاليم أوكرانية إلى السيادة الروسية. وعلى الرغم من أن أمرا كهذا لا يتقرر وفق مزاج الرئيس وأن الأمر يحتاج إلى دعم المؤسسات العسكرية والأمنية الأميركية وإقناع المؤسسات السياسية والعسكرية والأمنية والغربية بعد ذلك، إلا أن هذا الجدل سيعمّق الانقسامات بين ضفتي الأطلسي كما بين دول القارة العجوز داخل وخارج الاتحاد الأوروبي (وفي مقدمها بريطانيا).
إذا ما كان الرئيس الأميركي الحالي لن يمثّل مفاجأة صادمة في حال أُعيد انتخابه لولاية جديدة وسيعتبر عهده المقبل استمرارا لعهده الحالي (باستثناء مستجد يتعلق بصحته وأهليته للحكم)، فإن تجربة ترامب السابقة خلال ولايته الرئاسية (2017-2021) كما ما بدأ يجاهر به من مواقف هذه الأيام في العلاقة مع المنظومة الغربية تمثّل خطرا على وحدة تلك المنظومة وعلى دور الولايات المتحدة القائد لها.
يتناقض كلام ترامب مع المادة الخامسة من “دستور” حلف شمالي الأطلسي التي تنصّ على أن أي اعتداء على إحدى دول الحلف (31 دولة) هو اعتداء على دول الحلف جميعا. وليس جديدا كلام ترامب، وهو في توجّهه إلى ناخبيه يدغدغ لديهم مشاعر الحرص على أموالهم من تبذير مزعوم تمارسه واشنطن بسبب التزاماتها خارج حدود الولايات المتحدة. وإذا ما مارس ترامب هذه التمارين إبان عهده الرئاسي، فإن الأمر، على ما سببه من ضيق وتبرّم لدى الحلفاء آنذاك، جرى قبل أن يصبح الخطر الروسي على أوروبا واقعا وحقيقة منذ أن شنّت موسكو بقيادة فلاديمير بوتين حربها ضد أوكرانيا في شباط (فبراير) 2022.
في أوروبا من يعتبر أن الديمقراطية الأميركية مريضة وأن عجز البلاد عن إيجاد مرشحين تقل أعمارهم عن 80 عاما هو من أعراض هذه العلّة. سخر بالمقابل منسّق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل من مواقف ترامب. قال: “بكل جديّة، لا يمكن للناتو أن يكون حلفا عسكريا حسب الطلب يعتمد على مزاج رئيس الولايات المتحدة كل يوم”. يبدو هنا المسؤول الأوروبي غير مؤمن بـ “دعابات” ترامب وأكثر ثقّة بقدرة الواقع على فرض قواعده على سلوك أي ساكن في البيت الأبيض.
الرئيس الحالي يدافع بقوة عن خيار تقديم دعم بلا حدود إلى كييف معتبرا أن الأمر يمثّل دفاعا عن موقع المنظومة الغربية والأمن الأوروبي والمثل الغربية في مسائل الديمقراطية والحريات. بالمقابل وعد ترامب بإنهاء حرب أوكرانيا فور عودته إلى البيت الأبيض. لم يبذل الرئيس الأميركي السابق جهدا لشرح الكيفية التي سينهي بها هذه الحرب، غير أن خلفية الرجل العقائدية، التي نجد لها امتدادات صارخة لدى التيارات الشعبوية وأحزاب اليمين المتطرف في أوروبا ونجد لها تأييدا لدى بعض قادة الدول الأوروبية (في مقدمهم الرئيس الهنغاري فيكتور أوربان)، تشي بأنه مستعد لإجبار أوكرانيا وأوروبا على القبول بالأمر الواقع العسكري الذي فرضته روسيا داخل أوكرانيا بما في ذلك ضمّ أربع أقاليم أوكرانية إلى السيادة الروسية.
هاجس الترامبية: ماكرون وغضب الغرب
تباينت ردود الفعل الغربية بشأن اقتراح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إرسال قوات غربية إلى أوكرانيا. كسف الحدث عن اختلاف كبير بين القوى الغربية بشأن الحرب الروسية في أوكرانيا. ففي هذا الصدد نقلت صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية أواخر شهر شباط (فبراير) الماضي أجواء أميركية أكدت أن “حلف الناتو يسعى لتفادي الانجرار إلى حرب أوسع مع روسيا المسلحة نوويا”. أضافت الصحيفة أن لا شيء يمنع أعضاء الناتو من الانضمام إلى مثل هذا المشروع بشكل فردي أو في مجموعات، لكن المنظمة نفسها لن تشارك إلا إذا وافق جميع الأعضاء الـ 31. وواصلت الصحيفة تحليلها بالقول إن الناتو كتحالف عسكري لا يمد أوكرانيا سوى بالمساعدات والدعم غير الفتاك مثل الإمدادات الطبية والمعدات ، “لكن بعض الأعضاء يرسلون الأسلحة والذخيرة من تلقاء أنفسهم، بشكل ثنائي أو في مجموعات”.
من جهتها انتقدت صحيفة “كورييري ديلا سيرا” الإيطالية الرئيس الفرنسي وكتبت أن “ماكرون هو أول من يطرح إمكانية نشر قوات برية غربية (في أوكرانيا) إنه صقر جديد ضد (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين، وهو نفسه الذي اختار في حزيران (يونيو) 2022 لعب دور الحمامة بدعوته إلى “عدم إذلال روسيا”، مما أثار غضب حلفاء أوروبا الوسطى وخاصة أوكرانيا. واعتبرت الصحيفة أن الوضع تطوّر منذ ذلك الحين، “لكن ما لم يتغير هو شهية ماكرون الواضحة للاستفزازات الفكرية ومن ثم رؤية مدى تأثيرها. وهو التأثير الذي يبدو مرة أخرى مخالفًا لنواياه”.
في ألمانيا، قوبل اقتراح ماكرون بمشاعر يغلب عليها الرفض. وبينما شدد بعض السياسيين على ضرورة استنفاد كافة الوسائل الدبلوماسية المتاحة لمنع التصعيد، أعرب آخرون عن مخاوفهم بشأن التدخل العسكري. وأكدت الحكومة الاتحادية دعمها للحل السلمي ودعت إلى زيادة الجهود الدبلوماسية. وبهذا الشأن أكد المستشار أولاف شولتس رفضه نشر قوات برية في أوكرانيا، مؤكدا أن ذلك هو خط أحمر ثابت. وقال في رسالة بالفيديو في نهاية شباط (فبراير): “لن أرسل أي جندي من الجيش الألماني إلى أوكرانيا (..) يمكن لجنودنا التعويل على ذلك”. وتابع شولتس “لا نريد أن تصبح حرب روسيا ضد أوكرانيا حربا بين روسيا والناتو”.
وبهذا الصدد وفي نفس الوقت كتبت صحيفة “فرانكفورته ألغماينه تسايتونغ” الألمانية معلقة “من الواضح أن فرنسا، التي اعتبرت نفسها دائما القوة العسكرية الرائدة في الاتحاد الأوروبي، وجدت نفسها في موقف لا تحسد عليه بسبب حرب أوكرانيا. تحدثت الصحيفة عن سياسة استرضاء ماكرون في التعامل مع بوتين (في بداية الحرب) وتزامن مع فراغ خزائن باريس المالية. وأشارت إلى أنه يمكن رؤية النتيجة بوضوح في الإحصائيات المتعلقة بشحنات الأسلحة إلى أوكرانيا: فإستونيا الصغيرة، التي يشيد بها ماكرون كثيرا، تنفق عليها أموالا أكثر من تلك التي تنفقها فرنسا، القوة النووية، التي تشغل مقعدا دائما في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة”.
ويخشى الأوروبيون إلى حد كبير من احتمال خفض واشنطن دعمها لأوكرانيا، خاصة إذا عاد ترامب إلى البيت الأبيض وما قد يترتب على ذلك من تغيير مسار السياسة الأمريكية حيال القارة الأوروبية. وفي ظل هذه المواقف المتباينة والمخاوف ووضع على الأرض يميل لصالح روسيا، لاسيما بعد السيطرة على مدينة أفدييفكا الاستراتيجية في شرق أوكرانيا مؤخرا، يحاول الأوروبيون تلبية مطالب كييف التي تشكو من نقص الذخائر.
صحيفة هاندلسبلات” الألمانية كتبت معلقة “هناك عبارات شائعة يتم ترديدها لدرجة الابتذال ولكنها مع ذلك صحيحة، ومن بينها تلك لتي تقول بأن لا شيء سيتقدم في أوروبا دون وجود علاقة صحية بين ألمانيا وفرنسا. والحقيقة أن عملية التكامل الأوروبي تعتمد إلى حد كبير على التعاون ولانسجام بين أكبر دولتين في الاتحاد الأوروبي (..) إن تلميح تحرك الرئيس الفرنسي بإرسال قوات إلى أوكرانيا تحول إلى صدع مفتوح. ويكشف هذا بدوره عن فراغ في قيادة أوروبا في مرحلة تعتبر الأكثر تحديًا على المستوى الجيوسياسي والجغرافي الاقتصادي منذ عقود”.