ثورة مهسا.. إيران تحاكم نفسها

حراك بدأ نسائيا وبات شاملا في الجغرافيا والقطاعات الاجتماعية

محمد قواص

يصعب تقييم الحراك الداخلي الذي تشهده إيران واستشراف تداعياته على مستقبل النظام في الجمهورية الإسلامية. والصعوبة تكمن في تعقّد البنيان السياسي والاجتماعي في البلاد على نحو قد تخدعنا واجهات أي اعتراض، لا سيما إذا ما بالغنا أو تعجّلنا في قراءة تطورها.

فقد شهدت البلاد قلاقل شعبية منذ الثورة الإيرانية وقيام الجمهورية بزعامة روح الله الخميني من دون أن يؤدي الأمر إلى مستويات تهدد وحدة النظام ووجوده وبقائه. لكن طول فترة الحراك الحالي وتطوره وتمدده واحتلاله صدارة الاهتمام والإعلام الدوليين، كما تحرّك العواصم والجهات الدولية الحقوقية في العالم لتسليط المجهر على الحدث

ثورة النساء تطورت إلى احتجاجات سياسية

الداخلي الإيراني، عظّم من مستوى الضغوط، ربما غير المسبوقة، على النظام الإيراني ما سبب حرجا وجدلا لم يظهر في الحراكات الشعبية السابقة.

وعلى الرغم من طبيعة الحراك الحالي، فإن أدوات التعامل معه، لا سيما ترددها واختلافها،  تقودنا إلى الحذر، وأحيانا بشكل مفرط، إلى عدم الاستسلام للتقارير الغربية الراصدة للتحركات الشعبية في إيران المندلعة منذ مقتل الشابة مهسا أميني في 16 أيلول (سبتمبر). حتى أن الصور من داخل إيران أو تلك التي تبثّها منابر المعارضة تبقى بالنسبة للمراقب أعراضا يسترشد بها من دون أن يقع في فخّ استشراف مآلات انفعالية متعجّلة.

حراك اليوم وحراك الأمس

في البال أن نظام الجمهورية الإسلامية منذ عام 1979 قد خبر تحركات شعبية اعتراضية أخذت أشكالا مختلفة، محلية قومية أو شاملة، واتّسمت بطابع مطلبي تارة وآخر سياسي تارة أخرى. ونذكر أن الانتفاضة الخضراء عام 2009 انفجرت احتجاجا على شكوك في نتائج الانتخابات التي أعادت محمود أحمدي نجاد رئيساً، وكانت شاملة لافتة مقلقة، لكنها انتهت بحملة قمع شديدة وباحتجاز قادتها ووضع بعضهم تحت الإقامة الجبرية حتى الآن.

تكرر أمر حراك الشارع لاحقاً، لا سيما في عامي 2017 و 2018، غير أن أدوات القمع التابعة للنظام أظهرت قدرة على وأد التحركات من دون ظهور أي ضغوط خارجية فاعلة تقلق طهران.

فُهم أن برودة واشنطن في عهد الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما من الانتفاضة الخضراء كانت متّسقة مع أجواء تُحضّر لتوصل مجموعة الـ 5+1 مع طهران إلى اتفاق فيينا الشهير حول برنامج إيران النووي في عام 2015. وأظهر الموقف الدولي لاحقاً الحرص على عدم التدخل في شؤون إيران الداخلية، إلا شكلياً، بغية المحافظة على “فيينا” وانقاذه لاحقاً بعد قرار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب سحب بلاده من تلك الصفقة عام 2018.

وسط هذه المسلّمات (قمع داخلي وعدم اكتراث خارجي) اندلعت التحرّكات الأخيرة كردّ فعل على مقتل فتاة في مركز للشرطة لاتهامها بـ “عدم التقيّد الصارم بمعايير الحجاب”. جاءت رواية السلطات المعنية لاحقاً مستهينة مرتبكة

مقتل مهسا أميني أطلق انتفاضة في إيران

مستفزّة ما أثار مزيدا من الغضب في صفوف المحتجّين الذين كان الطابع النسائي عليهم طاغيا ومحرّكا وقائداً.

لم تبدِ طهران قلقا من حراك بدا من عاديات علاقة النظام بالمجتمع. ولم تُظهر المنابر الرسمية توجّسا من جديدٍ سبق أن قُمع قديمُه وانتهى. حتى أن المسؤولين الرسميين، لا سيما وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، أبدوا تفهماً بليداً لحراك “بعض الناس”، وراحوا يصوّبون البوصلة نحو ما يرونه أكثر أهمية سواء في الصراع مع الولايات المتحدة في مسألة المفاوضات في فيينا أو في متابعة شؤون علاقات الدولة مع أفريقيا وأميركا اللاتينية وبحث مستقبل إيران في مجموعة “بريكس” ومنظمة شنغهاي.

توتر طهران

على مدى 10 أسابيع حافظ الخطاب الرسمي وشبه الرسمي نسبياً على هدوء ورصانة وتروي في التعبير عن الموقف من الاحتجاجات. ومن يستمع إلى ضيوف الفضائيات المطلّون من طهران كان يستغرب هذه “السماحة” في الحديث عن الظاهرة بصفتها “تعبيرا صادقا” عن قلق صادر عن “الطبقة المتوسطة” وتعكس تطلعات “جيل الشباب”. صحيح أن آلة القمع كانت تعمل مخلّفة قتلى وجرحى واعتقالات وأحكام بالإعدام (أكثر من 400 قتيل و17 الف معتقل حسب منظمات حقوقية)، لكن الخطاب الرسمي بقي، للعجب، مهوِّنا من أمر الحراك مهتماً بابتكار روايات حول مسيّرات إيران في أوكرانيا بين النفي القاطع والتبرير المتأخر والركيك.

غير أن توتر سلوك طهران فضح خطورة حراك الشوارع في طهران ومدن البلاد الكبرى من حيث سعي النظام إلى تصدير مأزقه. وجّهت الآلة الأمنية ضرباتها باتجاه الحركات الكردية المعارضة في إيران، وقصفت الآلة العسكرية مواقعها في إقليم كردستان شمال العراق، فيما أوحت طهران من خلال تحرك قائد فيلق القدس إسماعيل قآني وبثّ صور حشود عسكرية إيرانية متوجهة إلى الحدود الغربية العزم على تدخل بري ضد أكراد إيران المتمردين في

المرشد علي خامنئي: الحراك مشبوه تحركه أصابع خارجية

العراق. تهدف طهران هنا إلى شدّ نظر الرأي العام نحو العامل الكردي “الإرهابي” الذي وجب أن لا ينجر ّبقية الإيرانيين وراءه (مهسا أميني كردية القومية).

وإذا ما أرادت طهران تكديس أعراض تصدير للأزمة إلى الخارج، حتى في تحرّك ميليشياتها لقصف مواقع أميركية في العراق وسوريا، إلا أن جسارة الحراك الداخلي دفع إلى ظهور واجهات مرونة سواء في مبادرة اقترحها الرئيس الأسبق محمد خاتمي لإطلاق حوار مع المحتجين أو في ما خرجت به، على نحو لافت، المجلة الأسبوعية “صبح صادق” التابعة للمكتب السياسي للحرس الثوري بتأييد مبادرة الرجل والثناء عليها.

المرونة والمرشد

كان خاتمي اعتبر في 14 تشرين الثاني (اكتوبر) أن الإطاحة بالجمهورية الإسلامية “أمر غير ممكن وغير مقبول”، داعياً إلى الحوار مع المتظاهرين. وإذا ما كانت دعوة خاتمي طبيعية بحكم سمعته الإصلاحية المعتدلة، إلا أن تلك المرونة انسحبت على وجوه محسوبة على المحافظين الذي دعوا بدورهم إلى التفهّم والحوار.

تحدثت أنباء عن لقاءات جمعت محسن وفاطمة، وهما أبناء الرئيس الراحل هاشمي رفسنجاني، بشخصيات وازنة داخل النظام منها مجتبى خامنئي نجل المرشد، ما كشف عن ميل نحو الانفتاح على وجوه إصلاحية أو معتدلة لإيجاد سبل للخروج من مأزق الحراك الشعبي. شككت جهات بتلك الأنباء لكنها أكدت أنباء أخرى في هذا السياق عن لقاء رئيس المحكمة العليا غلام حسين محسني إيجئي وسكرتير المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني مع شخصيات إصلاحية اقتُرح فيه لقاء المرشد بخاتمي. لكن مصادر قريبة من خاتمي أعلنت لاحقا رفض المرشد الاجتماع مع الرئيس الإصلاحي الأسبق.

يتصاعد توتر النظام في ما عبّر عنه رأس الدولة المرشد علي خامنئي. يفضح تأمل وتحليل خطابه، السبت، حالة القلق الجدي التي استدعت تدخلا عاجلا غاضبا من أعلى مستوى في النظام قد يكون مقدمة، ربما أكثر دموية، للكيفية التي ستتعامل بها طهران مع المحتجين. أظهر خطاب المرشد أيضا بعداً عن واقع إيران في عالم اليوم وإنكاراً لتطور أجيالها واستعانة بخطاب متقادم حول العمالة والخيانة وأصابع الخارج.

أتت مواقف المرشد في تخوين الحراك واتهامه بالعمالة متّسقة مع وصفه لحراك “تشرين” في العراق ولبنان عام 2019. وكانت تلك المواقف آنذاك مقدمة لموجة اغتيالات طالت ناشطين في العراق وتحرك الميليشيات لقمع التظاهرات هناك، ومقدمة لتحرك “القمصان السود” ضد المتظاهرين في لبنان.

أتت مواقف المرشد متناقضة مع أجواء المرونة التي ادعاها الحرس ومنابر محافظة في تبني سعي خاتمي للحوار وربما معارضةً لها. كما أن إشادته بقوات الباسيج والإيحاء بدورها القادم يطرح أسئلة عما إذا كان تحريك هذه الميليشيا المدنية يظهر تباينا مع مؤسسات أمنية وعسكرية أخرى مثل الجيش والشرطة فيما يفاخر علي فدوي نائب قائد الحرس الثوري بسياسة “ضبط النفس” التي تعتمدها قواته. أما تكرار أسطوانة الشيطان الأكبر والاستكبار، فتكشف عن كساد بضاعة انتهت صلاحيتها ولم تعد تجد لها سوقا لا لدى المنتفضين ولا لدى مؤسسات السياسة والحكم في البلاد، وتكشف أيضاً عن نفاذ ذخائر “الثورة” في تبرير الوجود وضرورات البقا

شرطة الأخلاق

بعد ثلاثة أشهر على مقتل الشابة مهسا أميني قررت سلطات طهران حلّ الجهة الأمنية التي ارتكبت الجريمة. صدر القرار لعلاقته بالإثم الذي أزهق حياة صبية اتُهمت بعدم التقيد بقواعد وضع الحجاب ما أدى إلى اندلاع ما يمكن وصفه بـ “الثورة”. غير ان أصحاب القرار لم يجدوا حتى الآن آثماً يُدان ولم يبدلوا من رواياتهم بشأن ظروف الجريمة ولم يعترفوا بأن قاتلا وراء القتل.

فجّر غياب الشابة الإيرانية الكردية الأصل حراكاً شاملاً بالمستوى الأفقي العابر لمناطق إيران وطوائفها وقومياتها، وآخر عامودي شمل طبقات المجتمع من مستواها الشعبي إلى مستواها النخبوي مرورا بالشرائح المتوسطة المهنية والنقابية مع ما تختزنه من قوى بارزة في ميادين الفن والرياضة والثقافة.

شكّل حدث الحجاب وسيلة للحراك وصاعقا لتفجّره، لكنه لم يكن بحدّ ذاته هدفا على النحو الذي أوحى به قرار إلغاء “شرطة الأخلاق” في البلاد. ومن يتأمل بعناية تطوّر خطاب المنتفضين وراديكالية شعاراتهم، لاستنتج بجلاء توق الشارع إلى تغير سياسي على مستوى النظام نفسه وتركيبته الايديولوجية وهيكله الديني الاستبدادي. ولم تتردد الشعارات والهتافات في مهاجمة رأس الدولة مرشد الجمهورية الإسلامية على خامنئي، وأحرقت نيران الحراك منزل عائلة مؤسسها روح الله الخميني في بلدة خمين مسقط رأسه جنوبي طهران. نفت وكالة “تسنيم” الأمر لكن النفي لم يخف ابتهاج المحتشدين حول ذلك المنزل المزعوم المحترق.

أبدى النظام في إيران حرجاً وارتباكا وتلعثماً في الكيفية التي يقارب بها الحدث. تسرّبت نقاشات في صفوفه حول سبل معالجة ما بات ظاهرة تختلف في الكمّ والنوع والظروف عن حراكات سابقة شهدتها البلاد. من المحاججين من طالب بالحوار ودعم مبادرة الرئيس المعتدل الأسبق محمد خاتمي، ومنهم من طالب بالحزم والحسم حتى لو أدى الأمر إلى حمام دم. وفيما انكفأ المرشد إلى المربع التقليدي البليد في تخوين الناس واتهام شياطين الأرض، فإن الجدل والحيرة والتردد يكشف بشكل جلي خطورة التطور وجسارته.

رمزيات الدين

اختارت سلطات طهران التغافل عن مطالب الشارع السياسية التي قد تمسّ النظام نفسه بما يفسّر اجتماع الإصلاحيين والأصوليين على رفضها. ذهبت طهران تتذاكى حاصرة المعضلة بإشكالية الحجاب. ألغت السلطات المعنيّة “دوريات الإرشاد” الساهرة على “الأخلاق” من دون أي تفسير للكيفية التي ستعتمدها الدولة لصون تلك الأخلاق. أعلن المدعي العام الإيراني محمد جعفر منتظري القرار مستندا على تبرير جاهز يزعم أن “من ألغى ذلك الجهاز الأمني هو من أنشأه”. ذهب أكثر من ذلك حين “بشّر” أن السلطتين التشريعية والقضائية سيتوليان مراجعة قوانين إلزامية ارتداء النساء لحجاب الرأس في الأماكن العامة.

وعلى الرغم من سعي إيران إلى تسخيف الحراك الشعبي العام وربط حوافزه بالحجاب وملابس النساء، إلا أن أمر ما أعلنه منتظري يمسّ مباشرة جوهر نظام الجمهورية الإسلامية وعقائدها.

احتاجت جمهورية الخميني إلى قوانين تلزم النساء بارتداء الحجاب عام 2008 كإجراء يجزم إسلامية نظام البلد بعد 4 سنوات من قيام الجمهورية وإثر عملية تطهير لـ “الثورة” من ظواهرها اليسارية والليبرالية العلمانية والمدنية. ثم احتاجت جمهورية خامنئي لتوفير أمان الجمهورية الديني من خلال قوانين الرئيس محمود أحمد نجاد عام 2007 بإنشاء شرطة تراقب “أخلاق” العباد وتحاسبها. وحين يلغى القرار الثاني ويعاد النظر في القرار الأول فإن في الحكاية ما يشكك بكل الحكاية، ذلك أن لاسقاط الرمزيات الدينية عدوى تطال حكما شرعية النظام ومبرر لبوس الدين للحكم في البلاد.

الأخلاق والدولة

الأخلاق في عرف النظام الإسلاموي في إيران يتعلق بزيّ النساء. وهو عرف لطالما كان ديدن الدين حين يصبح نظاما سواء في أفغانستان في عهد حركة طالبان حاليا مثلا أو في السودان تحت حكم تحالف الترابي-البشير سابقا مثلا آخر أو حتى في مرحلة “الصحوة” التي بشّر ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بسقوطها مثالا ثالثا. وإذا ما تحلى الأمير السعودي بشجاعة قيّم فيها حقبة من تاريخ بلاده قاطعاً بنهايتها، فإن أوليّ الأمر في طهران ما زالوا عاجزين عن مراجعة ما يرونه نهاية لـ “الثورة” ومهددا للفقيه وولايته.

غير أن الأخلاق في عُرف الحاكم في طهران وفي نصوص المدعي العام هناك لا تمسّها كل السلوكيات البشرية الأخرى، لا سيما الذكورية، سواء في انتشار المحسوبية والفساد، أو في الاستئثار بالفضاء السياسي العام واستخدام قبضة “الحرس” و الباسيج وأجهزة الأمن لصدّ الرؤى الأخرى، أو حتى في الوقوف وراء التدمير المنهجي الذي تمارسه سلطة البلد داخل أربع عواصم عربية تتفاخر باحتلالها.

أحجار الدومينو

على أن “ثورة مهسا” التي يعترف النظام أن مئات من الإيرانيين قتلوا من أجلها لا يمكن أن يخمدها ارتجال طارئ قد يتساهل في عدد السنتيمترات المسموح إظهارها من شعر النسوة في البلاد. وإذا ما كانت انتفاضة النساء الغاضبين من مقتل مهسا أميني قد أجبرت سلطات إيران على إلغاء جهاز أمني سخّرته لضبط أخلاق الإيرانيين (الإيرانيات خصوصا) وفرضت على البرلمان والقضاء إعادة النظر بقوانين الحجاب، فإن آلية “أحجار الدومينو” ستعمل على تفعيل مستويات أخرى قابلة للمراجعة بما في ذلك نصوص دستور الجمهورية التي يُقرّ رئيس الجمهورية إبراهيم رئيسي أن لا مانع من تعديلها.

ولئن من الحصافة عدم المبالغة في استشراف مستقبل إيران بعد أن أزالت طهران عن الأخلاق شرطتها، غير أنه حريّ مراقبة جدل داخلي يستبطن قلقا من مستقبل الجمهورية الإسلامية في زمن تحتشد فيه التحولات الدولية التي تجعل من طبيعة جمهورية المرشد نموذجا متقادما متقاعداً، ناهيك من قلق الوجود والبقاء المرتبط كل يوم بصحة خامنئي وغموض خلافته.

فُهم أن برودة واشنطن في عهد الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما من الانتفاضة الخضراء كانت متّسقة مع أجواء تُحضّر لتوصل مجموعة الـ 5+1 مع طهران إلى اتفاق فيينا الشهير حول برنامج إيران النووي في عام 2015. وأظهر الموقف الدولي لاحقاً الحرص على عدم التدخل في شؤون إيران الداخلية، إلا شكلياً، بغية المحافظة على “فيينا” وانقاذه لاحقاً بعد قرار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب سحب بلاده من تلك الصفقة عام 2018.

الحرس الثوري أثنى على مبادرة الرئيس محمد خاتمي

أتت مواقف المرشد في تخوين الحراك واتهامه بالعمالة متّسقة مع وصفه لحراك “تشرين” في العراق ولبنان عام 2019. وكانت تلك المواقف آنذاك مقدمة لموجة اغتيالات طالت ناشطين في العراق وتحرك الميليشيات لقمع التظاهرات هناك، ومقدمة لتحرك “القمصان السود” ضد المتظاهرين في لبنان.

احتاجت جمهورية الخميني إلى قوانين تلزم النساء بارتداء الحجاب عام 2008 كإجراء يجزم إسلامية نظام البلد بعد 4 سنوات من قيام الجمهورية وإثر عملية تطهير لـ “الثورة” من ظواهرها اليسارية والليبرالية العلمانية والمدنية. ثم احتاجت جمهورية خامنئي لتوفير أمان الجمهورية الديني من خلال قوانين الرئيس محمود أحمد نجاد عام 2007 بإنشاء شرطة تراقب “أخلاق” العباد وتحاسبها. وحين يلغى القرار الثاني ويعاد النظر في القرار الأول فإن في الحكاية ما يشكك بكل الحكاية، ذلك أن لاسقاط الرمزيات الدينية عدوى تطال حكما شرعية النظام ومبرر لبوس الدين للحكم في البلاد.

تاريخ من الاحتجاجات

– سبتمبر/أيلول 1978: اندلعت احتجاجات عارمة وأعمال شغب وإضرابات ضد سياسات الشاه محمد رضا بهلوى، انتهت برحيل الشاه وأسرته نحو المنفى.

– فبراير/شباط 1979: عاد آية الله الخميني إلى إيران بعد أن قضى 14 سنة منفيا في العراق ثم فرنسا بسبب

تعديل الدستور قابل للبحث

معارضته نظام الشاه.

– نوفمبر/تشرين الثاني 1979: احتجز عدد من أنصار الثورة الإسلامية 52 أميركيا داخل سفارة الولايات المتحدة بطهران، مطالبين بتسليم الشاه -الذي كان يعالج في الولايات المتحدة- لمحاكمته في إيران.

– وبعد مرور عشر سنوات، شكل عام 1989 مرحلة حساسة في المشهد الإيراني، وعاشت إيران أزمة سياسية اصطلح على تسميتها حينها بـ”الفتنة”، وهو وصف للاحتجاجات التي أعقبت عزل المرجع الديني حسين علي منتظري من منصب نائب الولي الفقيه.

– وبعد عشر سنوات أخرى، وفي عام 1999 شهدت إيران موجة جديدة من الاحتجاجات بعد إغلاق السلطات صحيفة “سلام” الإصلاحية، انطلقت المظاهرات من جامعة طهران ووُصفت وقتها بالمحدودة، لكن الاشتباكات مع قوات الأمن أدت إلى اندلاع أعمال شغب خلال ستة أيام واعتقال أكثر من ألف طالب، وقد استخدمت الشرطة الإيرانية الهراوات والغاز المدمع لتفريق المحتجين.

– وبعد مرور عشر سنوات أخرى، وفي عام 2009 تجددت الاحتجاجات وكانت الانطلاقة من طهران ثم انتقلت إلى عدد من المدن الأخرى احتجاجا على نتائج الانتخابات الرئاسية التي أعيد فيها انتخاب محمود أحمدي نجاد لفترة رئاسية ثانية، مع خسارة مير حسين موسوي، واصطلح وقتها على تسمية الحراك بـ”الثورة الخضراء”.

احتجاجات خرج فيها مئات آلاف الإيرانيين مطالبين بعدم الاعتراف بنتائج الانتخابات، واعتقل مئات الإصلاحيين آنذاك، وعملت السلطات على تنظيم مظاهرات مؤيدة للنظام عُرفت بأحداث “30 ديسمبر” التي تمكنت بعدها من السيطرة على الأوضاع.

– وفي ديسمبر/كانون الأول 2017 تجددت المظاهرات، وكانت مدينة مشهد -المدنية الثانية من حيث الكثافة السكانية بعد العاصمة طهران- رمزا لها ثم توسعت لتصل إلى بقية المناطق الإيرانية، ومنها همدان وأصفهان وقم، وهي مظاهرات قامت على خلفية مطالب اقتصادية بعد زيادة أسعار عدد من المواد الاستهلاكية.

وكانت البداية عبر دعوات تناقلها رواد مواقع التواصل الاجتماعي للمشاركة في مظاهرة تحت شعار “لا للغلاء”.

– نوفمبر/تشرين الثاني 2019: موجة جديدة من الاحتجاجات تندلع في إيران بعدما رفعت الشركة الوطنية للنفط أسعار البنزين بنسبة 50 بالمئة حتى حصة 60 ليترا في الشهر، وبنسبة 300 بالمئة لمن يتجاوز هذه الحصة الشهرية التي تدعمها الدولة.

وتسببت الاحتجاجات في سقوط قتلى وجرحى بين المتظاهرين وقوات الأمن، وأحرق محتجون غاضبون ما يزيد عن 100 مصرف و50 متجرا خلال أيام.

الحجاب .. رقابة على حياة المرأة

بموجب قوانين الحجاب الإلزامية النافذة في البلاد، تجبر النساء والفتيات- حتى من لم يتجاوزن منهن السابعة بعد- على إخفاء شعرهن خلف غطائ الرأس، شئن أم أبين. وتعامل الدولة من لا يفعلن ذلك على أنهن مجرمات.

تخضع شرطة “الأخلاق”في إيران جميع نساء البلاد للمراقبة، أي ما يقرب من 40 مليون امرأة وفتاة. يجوب رجال الشرطة شوارع المدينة بمركباتهم ويتمتعون بسلطة إيقاف النساء وتفحص ملابسهن، وتقييم عدد خصل الشعر الظاهرة للعيان، خصلة خصلة، وطول البنطال الذي ترتديه المرأة ومعطفها، وكمية مساحيق التجميل التي تضعها على وجهها..

وتشمل عقوبة الإمساك بالمرأة وهي سافرة الشعر دون غطاء رأس القبض أو الاحتجاز أو الحكم بالسجن أو الجلد أو دفع الغرامة – وكل هذا عقاباً لها على “جريمة” ممارسة حقها في أن تختار ما ترتدي.

وحتى عندما تغطي المرأة شعرها بغطاء الرأس، يمكن أن تعتبر مقصِّرة في الانصياع لقوانين الحجاب القسري إذا ما ظهرت بعض خصل شعرها، على سبيل المثال، أو ارتؤي أن ملابسها تزدهي بالألوان أو ضيقة أكثر مما يجب. وهناك ما لا يحصى من القصص التي تروي كيف تقوم شرطة “الأخلاق” بصفع النساء على وجهوهن، وبضربهن بالهراوات، وإلقائهن في عربات الشرطة بسبب طريقة لبسهن.

بيد أن ممارسة الرقابة الشرطية على جسد المرأة لا تقتصر على الدولة. فقد مكّنت قوانين الحجاب الإلزامي الإيرانية المسيئة والتمييزية والمهينة، ليس ممثلي الدولة فقط بل أيضاً أفراد الميليشيات والحرس ممن يشعرون بأنه من واجبهم وحقهم أن يحرصوا على تطبيق قيم الجمهورية الإسلامية، من مضايقة النساء والاعتداء عليهن وسط الجمهور. وبالنتيجة، تدخل النساء والفتيات، بصورة يومية، في مصادمات غير متوقعة مع أمثال هؤلاء الغرباء، الذين يضربوهن ويرشونهن برذاذ الفلفل ويطلقون عليهن صفة “عاهرات” ويجعلوهن ينزلن أغطية رؤوسهن لتخفي شعرهن بالكامل.

غضب النساء

ظهرت داخل إيران، في السنوات القليلة الماضية، حركة متنامية مناهضة لقوانين الحجاب الإلزامي، حيث أظهرت النساء والفتيات شجاعتهن في أنشطة أعربن فيها عن تحديهن لهذه القوانين. فيقفن في الأماكن العامة ويلوحن بأغطية رؤوسهن التي يرفعنها على رؤوس العصي بصمت، أو ينشرن أشرطة فيديو يظهرن فيها وهن يمشين في الشارع ويظهرن شعرهن –  وهو أمر يعتبره العديد منّا مسلماً به.

وانضم إلى هذه الحركة رجال أيضاً. كما انضمت إليها نساء يرتدين الحجاب بمحض إرادتهن- نظراً لأن الحركة تعنى في الأساس بالحق في الاختيار: بحق المرأة في أن تختار ما ترتدي دونما مضايقات أو عنف أو تهديدات أو سجن.

قوة هذه الحركة واندفاعها أخافت السلطات الإيرانية كثيراً، التي لجأت إلى شن حملة قمعية شرسة للرد عليها. فمنذ 2018 ألقت القبض على ما لا يقل عن 48 من المدافعين عن حقوق المرأة، بمن فيهم أربعة رجال. وتعرض بعض هؤلاء للتعذيب وحكم عليهم بالسجن أو بالجلد، عقب محاكمات بالغة الجور.

إن التعامل مع النساء والفتيات اللاتي يرفضن ارتداء الحجاب على أنهن مجرمات ضرب محموم من ضروب التمييز. فقوانين الحجاب الإلزامي انتهاك لجملة حقوق دفعة واحدة، بما فيها الحق في المساواة وفي الخصوصية وحرية التعبير والمعتقد. وفي نهاية المطاف، فهذه القوانين تحط من شأن النساء والفتيات، وتجردهن من كرامتهن ومن شعورهن بقيمتهن الذاتية.