أشعار التزفين… فولكلور يتطور أم نهاية فن أدبي؟

التزفين أو الترقيص أو البأبأة وغيرها كلها مصطلحات تداولها الأدباء قديما، وهي تعني ترقيص الأولاد الصغار على أنغام الشعر فيما عرف بعد ذلك بمصطلح (أشعار التراقيص) أو (أشعار التزفين).

فالتزفين من لفظ زَفَنَ يزفن زَفْنًا أي رقَّصَ. ويقال: هم زَفَّانةٌ حَفَّانةٌ أي: يرقُصون ويجرُفون الطَّعامَ.وكذا في لفظ البأبأة؛ فقد جاء أنها تعني قولُ الإِنسان لصاحبهِ بِأَبي أَنـْتَ، ومعناهُ أَفـْدِيكَ بِأَبي.

وعلى أي حال تعد أشعار التراقيص فنا من الفنون الشعرية عرف منذ العصر الجاهلي وامتد حتى وصل إلينا بلهجاتنا العامية. وهذا الأمر يمكن أن يجعله حالة إنسانية عامة أكثر من كونه شعرا. فهو يعكس صورة المجتمع الذي يصفه بسلبياته وإيجابياته فيسمو به بمواطن السمو والرفعة ويشدد عليه في مواطن الضعف والمعاناة. كل ذلك من خلال ترقيص الأولاد الصغار رغم أن جلّ قائليه من المجهولين، غير أن باحثي وناقدي الأدب وصفوه بأنه فن عابر لا يصدر عن شاعرية؛ وربما كان هذا سبب عدم توثيقه وعدم الاهتمام به.

وقد ذهب بعض الكتاب الى القول ان هذا اللون من الشعر مشتق أصلا من بحر الرجز لتقاربه مع موسيقاه وألفاظه وأسلوبه وسهولته. لكن شعر التراقيص يميل في الواقع الى لغة متحررة أكثر والى جمل قصيرة مع التقفية بأشطاره؛ وهو ما يميزه عن الرجز. كما أنه أشبه بما يسمى في وقتنا الحالي بالأشعار المغناة أو بالأغنية الشعرية وهو يعبر عن عاطفة قوية وجيّاشة لا عن موقف كما في الرجز الذي يكون أغلبه في الحروب.

وكمثال على شعر التراقيص ما كانت أم الفضل بنت الحارث ترقص به ابنها عبد الله بن عباس فتقول:

ثكلت نفسي وثكلت بكري     إن لم يسد فهرًا وغير فهر

بالحسب الوافي وبذل الوفر   حتى يوارى في ضريح القبر

بل ان من أشهر ما ورد في كتب التراث أن أعرابية كانت ترقّص ولدها فتقول:

يا حبذا ريح الولد  ريح الخزامى في البلد

أهكذا كلّ ولد       أم لم يلد مثلي أحد

وكان أعرابي يرقّص ولده ويقول:

أحبّه حبّ الشحيح ماله

قد ذاق طعم الفقر ثم ناله

إذا أراد بذله بدا له

وشعر التراقيص مرتبط في الأساس بضرورات التربية؛ فقد كان العرب إذا ولد لهم مولود ذكر جاءت القبائل تهنئ وتصنع الطعام فيجتمع النساء يلعبن بالمزاهر كما في الأعراس وهذا الفعل كانوا يفعلونه حصرا بالمولود الذكر لا الأنثى. كما كانوا يهنئون بولادة الشاعر والفرس المشهور إذا أنتج.

حريّ بالذكر أن أشعار التراقيص لم تكن حكرا على الموروث العربي؛ فهي  حالة اجتماعية إنسانية عامة تنبع من الذات تصوغها الأحاسيس وتغذيها الروح ويؤطرها الحنان؛ فهي باللغة العربية والإنجليزية والهندية والصينية وبكل ثقافات وشعوب العالم على اختلاف لغاتهم وبيئاتهم. فهي متوافقة في موضوعها مختلفة في أدائها وأسلوبها؛ فموضوعها إشعار الصغير بالطمأنينة والهدوء وبث السكينة فيه وإظهار مدى الحب له والخوف عليه؛ كما جاء في (دائرة المعارف) بل هي عند شعوب البحر الأبيض المتوسط قاطبة كما يذهب الى ذلك العديد من الباحثين.

ورد أن أمّا إنجليزية كانت ترقّص ولدها فتقول بعد ترجمته الى العربية:

نم يا ولدي نم بهدوء

أمك تحرسك وتصلي لك

فلتهبط عليك الملائكة

ولتحمل إليك على أجنحتها

المشعة أحلاما جميلة مزهرة

فَنَم يا حبيبي نم بسلام

كما نقل عن ألمانية ترّقص أخا لها صغيرا وهي تقول بعد الترجمة الى العربية:

نم يا طفلي نم

أبوك يرعى الغنم

وأمك تهز شجرة الحلم

فلتتساقط منها عليك أحلى الأحلام

نم يا طفلي نم

وفي العربية ورد أن عبد المطلب كان يزفّن ابنه العباس فيقول:

ظني بعباس بنيّ إن كبر    أن يسقي الحاج إذا الحاج كثر

ان شعر التراقيص محاولة صوتية موسيقية بحركات متناسقة تتخللها كلمات رقيقة عذبة وجميلة. لكن ليس كل الترقيصات كذلك فهي في الواقع تعكس الحالة التي يعيشها الفرد أو المجتمع آنذاك؛ إذ احتوت بعض الترقيصات على ألفاظ قاسية وتعابير خشنة بل وحتى شتائم.

ورد أن امرأة كانت ترقِّص ابنها نكاية بزوجها فتقول:

وُهِبْتُــه مـن مُرعِش مـن الكِــبـَرْ

شَرَنْفَـــــحٍ وريـــدُه مثــــل الوترْ

بئس الفتى في أهله وفي الحَضَرْ

وكان زوجها يرقّصه نكاية فيها فيقول:

وهبتــه من ذاتِ ضِغْـن خِـبَّهْ

قصيرة الأعضاء مثل الضبَّهْ

تَعْيـــا كلامَ البَعْــــل إلا سَبَّهْ

وكانت أشعار التراقيص تعكس ثقافة المجتمع آنذاك مصورة الظلم  الواقع على المرأة بدءا بكونها أنثى حتى تشبّ مبينة الأعراف المتخلفة والفاسدة التي كان يحكم بها.

روى الجاحظ أن أبا حمزة الضبي هجر خيمته لأن امرأته ولدت لـه بنتاً جديدة، وكانت لا تلد إلا البنات، فقالت وهي ترقّص ابنتها: 

ما لأبي حمزةَ لا يأتينـــــا

يظلُّ في البيت الذي يــلينا

غضبانَ ألَّا نلدَ الـــــــبنينا

تاللهِ مـا ذلك في أيدينــــــا

وإنما نـــــــأخذ ما أُعْطِينا

ونـحن كــــالأرض لزارعينا

نُنْبِتُ مـــا قد زرعوه فينـا

وقد يتعدى الأمر أكثر من ذلك بكثير؛ فهذا عقيل بن عُلَّفة يرقِّص ابنته متمنياً لها الموت فيقول:

 إني وإنْ سِيق إليّ المَهرُ

ألفٌ وعبدان وذَوْدٌ عشرُ

أحَبُّ أصهاري إليّ القبرُ

وفي بث الشكوى من الولد والأم في آن واحد ورد أن أعرابيا كان يقول:

إن بَنيَّ ليــــــس فيهم بَرُّ

وأمهـــم مــثـلهـم أو شـرّ

إذا رأوها نبحتني هرُّوا

وقد تتخلل أشعار التراقيص أوصاف للحالة الاجتماعية والاقتصادية التي كان يعيشها الأفراد في مجتمعاتهم كالفاقة والفقر وتقلب الزمان. ورد في ترقيص أبي العباس أحمد بن يحيى:

والله لولا صبية صغارُ

 وجوههم كأنها أقمــارُ

لما رآنـــي ملك جبارُ

ببابه ما ســطع النهارُ

وورد عن آخر يصور حالته وحالة صغاره البائسة فيقول:

وصبيةٍ مثل فراخ الـــــــذرِّ

سودِ الوجوه كســـواد الــقِدْرِ

جاء الشتاء وهم بشــــــرِّ

بغير قُمْـــــص وبغيـــر أُزْرِ

حتى إذا لاح عمود الفـــجرِ 

وجاءني الصبحُ غدوتُ أَسْـري

وبعضُهم ملتصق بصـدري

وبعضهم مُنْحَجر بحِجْـــــــري

أسبقهم إلى أصول الجُــدْرِ 

هذا جميعُ قصتـــــــي وأمـري

أنا أبو الفقــــــــــــر وأم الفــقـــر

لقد كانت الموضوعات التي بثتها اشعار التراقيص كثيرة ومتنوعة إلا أن أهمها تلك التي تدور حول الرجولة والكرم والنجدة والعفة والغنى والفصاحة والبلاغة وغيرها من السمات والفضائل العليا التي كان العرب آنذاك يتغنون بها.

ومن أجلّ الترقيصات التي نقلتها كتب الأدب ترقيصة عبد المطلب جد رسولنا صلى الله عليه واله له: 

الحمد لله الذي أعطـــــــــاني

هذا الغلامَ الطيـــــّب الأردانِ

قد ساد في المهد على الغلمانِ

أعيذه بالبيت ذي الأركــــــانِ

حتى أراه بالغ البنيــــــــــــانِ

وفي الوقت نفسه الذي نرى فيه قسوة المجتمع وأحكامه الجائرة آنذاك الظاهرة في أشعار التراقيص، لا بد لنا أن نذكر أنها أرّخت لجانب إيجابي أيضا، فهناك من كان لا يقبل بهذه الأعراف ويدع لفيض الحنان والإنسانية اللذين يحملهما في قلبه أن ينطلقا من دون حدود.

ورد أن أعرابيا كان يرقّص ابنته فيقول:

كريــمـــة يحبــهـــا أبــوهـا

مليحةُ العينيــن عذبٌ فـــوها

لا تحســنُ السبَّ وإن سبّوها

وأنشد أعرابي يزفّن بنته ويتمنّى أن تصبح شابّة يأتيها الخَطَابَ هو يكثر لها المهر:

يَا ليتَها قد لبِســـــت وَصْوَاصَا      

وعلّقت  حاجبَها  تَنمَـــــــاصـا

حتّى يجيئوا عُصَـــــبًا حِرَاصَــا             

ويُرْقِصُوا من حـولِنَا إرقَاصا

 فيجِدُونِي عكرًا حَيَّاصَـــــــــــا

ومن روائع ما نقل من القصص في هذا الأمر ما جرى مع نخيلة الشاعر الذي كان يفضل الولد على البنت فتزوّج قريبة له وولدت له بنتا فغمّه ذلك فعمد إلى تطليقها فعاتبه قومه على فعلته فندم وراجعها. وذات يوم وهو في بيته سمع زوجته ترقّص ابنته وتلاعبها فرقّ قلبه لذلك فقام إليها وأخذها فرقّصها بألم وحرقة قائلا:

يا بنت من لم يكن يهـــــوى  بنتا     

ما كنت إّلا خمسة أو ســــــــتا

حتّى حللت في الحشى وحــــتّى      

فتتِّ قلبي من جوى  فانفــــــتَّا

لأنتِ  خيرٌ  من  غـــلام  أنـــتَا

يصبح مخمورا ويمسي سبــتا

ومن الجدير بالذكر أيضا ان الحكماء وأصحاب العقول كان لهم خوف من الولد كونه فتنة بالدرجة الأساس على حد وصفهم أو كونه هما ومسؤولية وحزنا في حال فقدانه.

ورد ان المسيح عليه السلام قيل له هل لك في الولد؟ فقال ما حاجتي إلى من إن عاش كدني وإن مات هدني.

وهذا ابن الرومي يؤصل هكذا معنى فيقول في بيتين له:

كم من سرور لي بمـــــــــــــــــــــــــولود أؤمله يعد

وبأن يهدّنيّ الزمـــــــــــــــــــــــــان رأيت منّته أشد

ومن العجائب أن أســــــــــــــــــــرّ بمن يشدّ بما أهد

بل ان المتنبي وصل به الأمر  الى القول:

وما الدهر أهل أن يؤمّل عنده

حياة وأن يشتاق فيه إلى النسل

ومهما يكن من كلام فالأولاد جزء منا لا نستطيع الابتعاد عنهم ومهما جرى منهم أو جرى عليهم فأمرهم يهمنا.

وفي الأخير لا نستطيع ان نقول إن أشعار التراقيص قد اندثرت ولم يعد لها وجود فهي موجودة في الأشعار المغناة وهي كثيرة جدا في واقعنا الذي نعيشه؛ إلا ان أسلوبها وموضوعاتها ولغتها قد طرأ عليها تغيير كثير؛ فمن اللغة الفصحى الى العامية ومن موضوعات الشجاعة والبطولة والكرم وغيرها الى التنويمة والسكينة والهدهدة وغيرها. لكن فن أشعار التراقيص كموروث أو كفولكلور أدبي له خصائصه من حيث اللغة والفصاحة والبلاغة والأسلوب والموضوع قد يكون اندثر بعد الضعف الذي دب في اللغة وأساليبها وموضوعاتها.