أشعار الندم… محاولات تراجيدية تبحث عن خلاص

الندم مصدر للفعل ندم ويعني التأسف والحزن والحسرة على ما فات. وفي اللغة؛ ندِمَ  يَندَم نَدَمًا ونَدَامةً فهو نادم وندمانُ وهي ندمانة والجمع ندمى.

ونَدِمَ على الأمر أَسِفَ عَلَيْهِ وتَابَ وتَحَسَّرَ وحَزِنَ. كما يأتي بمعنى كرهَه بعدما فعله. ونَدْمانُ صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت كون الشعور بالندم مستمرا ومتواصلا.

وقد استعمل القرآن الكريم ألفاظ الندم في عدة مواضع منها ما جاء بعد قصة قتل قابيل أخاه هابيل ابني آدم في قوله تعالى (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ). وكذلك في قصة ناقة نبي الله صالح حيث قال (فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ). كما ورد أيضا لفظ الندامة (فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ).

ومن الملفت أننا نجد أن القرآن لم يستعمل لفظ الندم إلّا بصيغة اسم الفاعل أو الصفة المشبهة وهما يدلّان على الثبوت والاستمرار. وفي هذا إشارة واضحة للألم المستمر والشعور الدائم بالأسف لعظم الأمر وأهميته.

من أجل ذلك يجب أن تتطابق تقلبات صيغ الفعل ندم مع الحالة التي استوجبته؛ فربّ ندم لا استمرار فيه وذلك لا يتطلب صفة الثبوت والاستمرار؛ والعرب تقول (النَّدَمُ على السّكوتِ خَيْرٌ مِنَ النَّدَمِ على القَوْلِ‌).

وقد جاء في مفهوم اصطلاح الندم أنه ضرب من الغم، وهو أن يغمّ على ما وقع منه ويتمنى أنه لم يقع.

ولو أردنا أن نحصر الكلمات التي تدور في فلك الندم لوجدناها كثيرة؛ فقد يكون بمعنى الحُزْن والهَمّ والكَرْب والغَمّ والأَسَف والأَسَى والكَآبَة والشَّجَن والشَّجَى والكَمَد والحْسرَة والشُّفُوف والسَّدَم والتَّرَح واللَّهَف والبَثّ والرَّسِيس.

وانه تبعا لهذا الندم ستكون نهايتان أساسيتان الأولى الرجوع الى الأمر السويّ الصحيح والأخرى السقوط بلا رجعة كناية عن اليأس.

ونحن إذا أردنا ان نبوّب موضوعات الندم كما وردت في كتب التاريخ والأدب والشعر سنجدها تندرج وفق ثلاثة أقسام: الأول اجتماعي (يهتم بشتى موضوعات الحياة) والثاني ديني (وهو الذي يدور عن التوبة والرجوع الى الله تعالى) والثالث نفسي (وهو ما يتعلق بالنفس وأحاسيسها).

ولقد نقلت لنا كتب الأدب قصصا وأمثالا وخطبا وأشعارا عن الندم توضح مدى قساوة الشعور به. وربما خير ما نستشهد به في هذا قصة الكسعي الشهيرة.

والكسعي رجل من كُسَعَ اسمه مُحَارب بن قيْس. وقيل هو من بني كُسَع ثم من بني محارب، واسمه غامد بن الحارث. كان يَرْعَى إبلاً له بوادٍ مُعْشب، فبينما هو كذلك إذ أبْصَرَ نَبْعَة في صخرة فأعجبْتُه فأراد أن يتخذ منها قوساً فجعل يتعهدها بالرعاية حتى إذا أدْرَكتْ قطعها وجَفَّفها واتخذ منها قوساً، فأنشأ يقول:

يارَبِّ وَفِّقْنِي لِنَحْتِ قَوْسِي

فإنَّهَا مِنْ لَذَّتِي لِنْفْسِي

وَانْفَعْ بِقَوْسِي وَلَدِي وَعِرْسِي

انْحَتُها صَفْرَاء مِثْلَ الوَرْسِ

صفْرَاء لَيْسَتْ كَقِسىيّ النِّكْسِ

ثم دهَنَها وخطمها بوَتَر، ثم عمد إلى ما كان من بُرَايتها فجعل منها خمسة أسْهُمْ ثم خرج حتى أتى على مَوَارد لحُمْر وحشية فكمن فيها فرمى قطيعا منها فأمخطه السهمُ أنفذه فيه وجازه فأصاب الجبل فأورَى ناراً فظنَّ انه أخطأه فانشأ يقول:

أعُوذُ بالله العَزِيزِ الرَّحْمنْ

مِنْ نَكْدِ الْجَدِّ مَعاً وَالْحِرْمَانْ

مَالي رَأيْتُ السَّهْمَ بَيْنَ الصوَّانْ

يُورِى شَرَاراً مِثْلَ لَوْنِ الْعِقْيَانْ

فأخْلَفَ الْيَوْمَ رَجَاءَ الصِّبْيَانْ

ثم مكث على حاله فمر قطيع آخر فرمى منها فأمْخَطَة السهم وصَنَعَ صنيع الأول، فأنشأ يقول:

لاَبَارَكَ الرحمنُ في رَمي القَتر

أعُوذُ بالخْالِقِ مِنْ سُوء الْقَدَرْ

أأمْخَطَ السَّهْمُ لإرْهَاقِ البَصَرْ

أمْ ذَاكَ مِنْ سُوءِ احْتِياَلٍ وَنَظَرْ

فصنع صنيع الأول حتى أتى على السهام كلها فقال:

أبَعْدَ خَمْسٍ قَدْ حَفِظْتُ عَدَّهَا

أحْمِلُ قَوْسِي وَأرِيدُ ورْدَهَا

أخْزَى الإلهُ لينها وَشدَّهَا

وَاللهِ لاَ تَسْلَمُ عِنْدِي بَعْدَهَا

وَلاَ أُرَجِّى مَا حَيِيتُ رِفْدَهَا

ثم عمد إلى قوسه فضرب بها حَجَراً فكسرها، ثم بات ليلته، فلما أصبح نظر فإذا اُلْحمُرُ الوحشية مطروحة حوله مُصَرعة وأسهمه بالدم مُضَرَّجة، فندم على كَسْر القوس، فشدَّ على إبهامه فقطعها، وأنشأ يقول:

نَدِمْتُ نَدَامَة لَوْ أنَّ نَفْسِي

تُطَاوِعُني إذاً لَقَطَعْتُ خَمْسِي

تَبَيَّنَ لي سفَاهُ الرَّأي مِنِّي

لَعَمْرُ أبِيك حِينَ كَسرتُ قَوْسِي

فأصبحت قصته من أشهر قصص الندم عند العرب وأضحت مثلا مشهورا (ندمت ندامة الكسعي)؛ وفي هذا شعر مشهور أيضا. قال أحدهم:

ندمت ندامة الكسعيّ لما

رأت عيناه ما صنعت يداه

بل ان الشاعر المعروف الفرزدق ضمّن هذه القصة بأبيات تطليقه لزوجته فقال:

نَدِمْتُ نَدَامَةَ الكُسَعِيِّ لَمَّا

غَدَتْ مِنِّي مُطَلَّقَةً نَوَارُ

وَكَانَتْ جَنَّتي فَخَرَجْتُ مِنْها

كآدَمَ حِينَ لَجَّ بِهِ الضِّرَارُ

وَلَوْ ضَنَّتْ بِهاَ نَفْسِي وَكَفّي

لكَانَ عَلَيَّ لَلْقَدَرِ اخْتِيَارُ

وفي فهم فلسفة الندم مصالح وإيجابيات قد تنعكس على الفرد؛ ففي حين يرى البعض أن الندم مفهوم سلبي مبني على أساس المقارنة اتخذ في وقت صعب. إلّا انه أولا وقبل كل شيء عاطفة وشعور؛ فهو إذا مكوِّن إدراكي ناشئ عن أمرسيئ حدث؛ وذلك يسلتزم تقييمات مدروسة وتأملية. إذ ان الندم  يقوم على الذات والشعور بالمسؤولية الأخلاقية والضمير الحيّ.

من أجل ذلك يعدّه بعض الأخلاقيين منبّها يشير الى تعديل الاعوجاج الذي هو غير مقبول لدى الفرد لتضاده مع أخلاقياته وسلوكياته واعتقاداته ومبادئه. فهو إذا حالة إيجابية وليست سلبية. وهو في حقيقته نوع من تقييم الفرد لذاته حين يتخذ اختيارات خاطئة أو سلبية أو غير مدروسة. وعندها يشعر بالامتعاض وعدم الرضا عن نفسه. إلا ان بعض الأفراد قد يتفاقم عندهم هذا الشعور السيئ الى حد التخيل باليأس والنهاية فيسقط سقوطا مريعا.

من أجل ذلك يحث الندم الفرد على الرجوع والتوبة والاستقامة وعدم تكرار الاخطاء والعزم على اتخاذ قرارات صائبة تتماشى مع القواعد الأخلاقية والمبادئ الطبيعية.

وهذا ابن معصوم المدني يحث على التخلص من الندم بالتوبة والعمل الجاد حيث يقول:

دع الندامة لا يذهب بك الندم

فلست أول من زلّت به قدم

هي المقادير والأحكام جارية ٌ

وللمهيمن في أحكامه حِكمُ

خفِّض عليك فما حالٌ بباقية ٍ

هيهات لا نعمٌ تبقى ولا نقم

قد كنت بالأمس في عز وفي دعة ٍ

حيث السرور وصفو العيش والنعم

واليوم أنتَ بدار الذلِّ مُمتهنٌ

صفر اليدين فلا بأسٌ ولا كرمُ

كأن سيفك لم تلمع بوراقه

وغيث سيبك لم تهمع له ديم

ما كان أغناكَ عن حِلٍّ ومرتحلٍ

لولا القضاءُ وما قد خطَّه القلمُ

وهذا الشاعر إبراهيم ناجي يباكر النادمين بالثبات والمضي وعدم الالتفات الى ما حدث فيقول في قطعة له:

لا تبكها ذَهَبَت ومات هواها

في القلبِ متسعٌ غَداً لِسواها

أحببتُها وطويتُ صفحتَها وكم

قَرَأَ اللبيبُ صحيفةً وطواها

يا شاطئَ الأَحزانِ كم مِن موجةٍ

هَبها ارتطامةَ موجةٍ وصداها

تلك الوليدةُ لم تَطُل بُشرَاها

لمَّا تكَد تطأُ الثرى قدماها

ولهذا ورد عن شكسبير قوله (من فقد الأمل فقد الندم)؛ وهي فلسفة عظيمة؛ فهو يرى الندم تصميما على تصحيح الأخطاء. فمن فقد الندم فقد الأمل.

وهذا الشاعر العباسي المعروف أبو نؤاس يندم على أفعاله ويحث نفسه على الإصلاح والمغفرة والتوبة حيث يقول:

يا نُواسيُّ تَوَقَّر

وَتَجَمَّل وَتَصَبَّر

ساءَكَ الدَهرُ بِشَيءٍ

وَبِما سَرَّكَ أَكثَر

يا كَبيرَ الذَنبِ عَفوُ الله

مِن ذَنبِكَ أَكبَر

أَكبَرُ الأَشياءِ عَن أَصـ

غَرِ عَفوِ اللَهِ أَصغَر

لَيسَ لِلإِنسانِ إِلّا

ما قَضى اللَهُ وَقَدَّر

لَيسَ لِلمَخلوقِ تَدبيـ

رٌ بَلِ اللَهُ المُدَبِّر

ان مشكلة الندم تتجلى في الصراع الأزلي بين الحق والباطل، بين العقل والغرائز؛ وهو صراع لا ينتهي إلّا بنهاية الكون نفسه؛ فالإنسان بطبيعته يخوض معركة إنسانية وجوده من خلال الاشتباك والقتال مع ذاته ونفسه وغرائزه؛ فمرة ينتصر عليها ومرة تنتصر عليه، وان الذي يستسلم في النهاية يكون خسر المعركة. من أجل ذلك نرى اصحاب الضمائر عندما يندمون يظهرون ندمهم بشتى الانفعالات والردود فيبينون أنهم غير مستسلمين في هذه المعركة وهم مستمرون رغم شدة أوارها، وإن ما حدث لا يعدو أن يكون (استراحة محارب). وهذه المبادئ في حقيقتها قد تبناها العارفون بالله في طريق سموه (السير والسلوك) الى الله تعالى؛ فثبتوا أربع قواعد أساسية للنجاح فيه هي (التخلية والتجلية والتحلية والتزكية)؛ وهي مبادئ لتربية النفس وتهذيبها لتكون طيّعة وسهلة الانقياد في هذا الدرب الالهي.

ومن أروع ما قيل في الندم والتوبة في هذا الباب أبيات للإمام الشافعي:

وَلَمّا قَسا قَلبي وَضاقَت مَذاهِبي

 جَعَلتُ الرَجا مِنّي لِعَفوِكَ سُلَّما

 تَعاظَمَني ذَنبي فَلَمّا قَرَنتُهُ

 بِعَفوِكَ رَبّي كانَ عَفوُكَ أَعظَما

 فَما زِلتَ ذا عَفوٍ عَنِ الذَنبِ لَم تَزَل

 تَجودُ وَتَعفو مِنَّةً وَتَكَرُّما

فَلَولاكَ لَم يَصمُد لِإِبليسَ عابِدٌ

 فَكَيفَ وَقَد أَغوى صَفِيَّكَ آدَما

فَلِلَّهِ دَرُّ العارِفِ النَدبِ إِنَّهُ

 تَفيضُ لِفَرطِ الوَجدِ أَجفانُهُ دَما

يُقيمُ إِذا ما اللَيلُ مَدَّ ظَلامَهُ

عَلى نَفسِهِ مَن شِدَّةِ الخَوفِ مَأتَما

فَصيحاً إِذا ما كانَ في ذِكرِ رَبِّهِ

وَفي ما سِواهُ في الوَرى كانَ أَعجَما

 وَيَذكُرُ أَيّاماً مَضَت مِن شَبابِهِ

وَما كانَ فيها بِالجَهالَةِ أَجرَما

فَصارَ قَرينَ الهَمِّ طولَ نَهارِهِ

 أَخا الشُهدِ وَالنَجوى إِذا اللَيلُ أَظلَما

كما جاء عن أبي العتاهية في الندم والتوبة والابتهال الى الله تعالى أنه قال:

إلهي لا تعذبني فإني

مُقِرٌ بالذى قد كان مني

وما لي حيلة إلا رجائي

 لعفوك إن عفوت وحسن ظنّي

 فكم من زلة لي في البرايا

وأنت عليّ ذو فضل ومَنِّ

إذا فكرت في ندمي عليها

عضَضت أناملي و قَرَعْت سِنِّي

يظن الناس بي خيرا وإنّي

لشر الناس إن لم تعف عنّي

أُجنّ بزهرة الدنيا جنونا

وأفني العمر فيها بالتمني

وبين يدي مُحتَبس ثقيل

كأنى قد دُعيت له كأني

ولو أني صدقت الزهد فيها

قَلَبْتُ لأهلها ظهر المِجَنّ

ورغم كل شيء سيبقى الندم عنوانا للوجدان الصادق والضمير الحيّ مهما تكالبت الفتن واجترأ الزمان. فهو ذاتنا التي لا بد ان نحافظ عليها لأننا لو خسرناه خسرنا ذاتنا وخسرنا معها كل شيء.