أكتوبر الجديد ..ومأساة غزة

         ” صدمة ” أقل ما يمكن يوصف به ما حدث في اسرائيل من مفاجاة لم يحلم بها أي سياسي أو عسكري في أسوأ كوابيسه فقد أفاق الإسرائيليون على مسلحين فلسطينيين في غرف نومهم ، فلا انذار مسبق ولا جيش وقف في طريقهم فقد انهار كل شيء  وبدت اسرائيل تقف أمام مفاجاة لم تقل وربما أكبر حتى من مفاجاة حرب أكتوبر عام 73 عندما اقتحم الجيش المصري جدار بارليف الحصين الذي أقامته على ضفة السويس لتتفاجأ بعد نصف قرن بأكتوبر جديد ربما أكثر مهانة لأن قوات الخصم هذه المرة اقتحمت حدود اسرائيل .

              الصدمة نتاج الفارق الكبير بما حدث صباح السابع من أكتوبر وبين التوقعات التي تعكسها موازين القوى بين قوة محلية صغيرة محاصرة وبين أقوى جيش في الشرق الأوسط وفي أكثر الأماكن تحصينا حيث الجدار الحدودي الذي كلف اسرائيل ثلاثة ونصف مليارد شيكل أي ما يعادل مليار دولار من الحديد والإسمنت والحفر بباطن الأرض وكذلك ما دفعته من مليارات الدولارات في القبة الحديدية لإصطياد الصواريخ التي تاتي من فوق الجدار .

               في لحظة اعتبر الجيش الإسرائيلي وهو يقوم ببناء ذلك الجدار أن أنه يضمن نهاية لاي خطر يأتي من المنطقة الأكثر خطرا وهو يقيم تحت الأرض نفس الإرتفاع فوقها ويزرع مجسات حساسة ويزوده بكاميرات دقيقة ورشاشات إلكترونية وخلفه مواقع عسكرية حصينة أمل القبة فقد كانت أكبر مشروع للصناعات العسكرية الإسرائيلية كل هذا تبخرت مناعاته فجاة .

                  فوجيء الغزيون والإسرائيليون من حجم الحدث وكانت المفاجاة تنتشر على مساحة الكرة الأرضية من جرأة حركة حماس وتخطيطها المحكم وتنفيذها الأكثر احكاما وإذا كان الإصرار قد تجسد في حروب سابقة لكن دقة التنفيذ ونجاحه كانا يشكلان جديدا في سياق صراعات المنطقة أما التخطيط الذي كان قد تم التمهيد له بحملة تضليل كبيرة قد تمت بنجاح فقد أرسلت حركة حماس في البداية ثلاثمائة عنصر من تخبة قواتها كقوة متقدمة كانت تجري تحت غطاء كثافة الصواريخ وفي نفس الوقت كانت الطائرات الشراعية تهبط تحت وقع الصواريخ في المواقع العسكرية الحصينة بما فيها موقع فرقة قيادة غزة في الجيش الإسرائيلي وفي نفس اللحظة كانت تتحرك قوارب بحرية نحو الحدود البحرية من جهة الشمال وقد نجحت الخطة التي افاقت اسرائيل صباح السبت نهاية أعيادها على وقعها .

                 حملة التضليل لم تكن أقل إحكاما فالمتابع للشأن الإسرائيلي كان يمكنه ببساطة معرفة أن التقييمات الناشئة لدى أجهزة الامن ودوائر الإستخبارات عن حركة حماس أنها كانت تضع أولوياتها تعزيز حكمها والوضع الإقتصادي لقطاع غزة وهي ليست معنية بالدخول في حرب وفي اطار التضليل كانت حماس تعزز هذا التقدير عندما استأنفت تظاهرات الحدود على الجدار الشرقي مطالبة بزيادة المنحة القطرية وفي سياق ذلك كانت تعيد تسوية الطريق بالجرافات لتسهل حركة سيارات الإسعاف لكن الحقيقة التي اتضحت مع بداية الحرب أنها استأنفت المظاهرات لتتمكن تحت ستارها من تسوية وتجهيز الطرق لعملية الإقتحام بالدراجات النارية والسيارات العسكرية وفي نفس السياق كان واضحا أيضا أنها كانت تتجهز لساعة الصفر تحت ستار مهرجان حركة الجهاد الإسلامي الذي أقيم قبل خمسة عشر ساعة من الإقتحام .

              في اليوم الثاني للحرب كتب شيخ الصحفيين الإسرائيليين ناحوم برنياع واصفا ما جرى ” شعرت أنني لا أعيش في اسرائيل بل في الصومال ” وهو محق فقد ظهر جيش اسرائيل عاجزا مفككا هزيلا سهل ضربه وتحول الجيش الأقوى في المنطقة إلى جيش جريح وهذا ما يفسر حجم ونوع الرد ضد قطاع غزة والذي فاق في شدته ونوعيته وتجاوزه لأعراف الحروب وأية حرب أخرى فقد جرى قتل  المدنيين وبشكل جماعي والبنى التحتية والمساكن والأبراج السكنية وضرب سيارات الإسعاف والصحفيين كل هذا يفسر حجم الشعور بالمهانة لدى الجيش الإسرائيلي .

                 ما حدث لن تغادره الذاكرة الإسرائيلية لسنوات وربما لعقود فذاكرة عبور سيناء لا زالت تفتح الجرح منذ نصف قرن فكيف بحدث أشد وطاة ويختلف بكل المعايير لا من حيث أن أكتوبر الأولى كان قد قام بها أكبر جيش عربي بينما تكمن المهانة في الثانية أنها حدثت من قبل قوة محلية صغيرة وإذا كانت الاولى قد حدثت في جبهات القتال على الاراضي المصرية لكن هذه حدثت في غرف النوم الإسرائيلية وما حملته من صور قاسية من أخذ المدنيين واعتقال الجنود الإسرائيليين وأخذهم أسرى إلى غزة بشكل كسر صورة الجيش الإسرائيلي .

               أُخذت اسرائيل على حين غرة تم خداعها وضبطها متلبسة بالفشل الذريع فشل أمني واستخباري لدولة تراقب دبيب النمل في غزة وتراقب الشرق الأوسط وعواصم العالم وتبيع أحدث برامج التجسس للحكومات “بيجاسوس” وغيرها فالإستخبارات الإسرائيلية تقدم خدمات معلوماتية للعالم ، وفشل عسكري حيث رئاسة الاركان والجيش والتدريب والوحدات المختارة والدبابات الرابضة حول غزة تم ضربها في اللحظات الأولى وفشل سياسي لحكومة كانت تمضي أعيادها في إجازات نائمة على حرير التقديرات الخاطئة فشل وفضيحة ستظل تلاحق اسرائيل لعقود طويلة .

               كانت حكومة اسرائيل مطمئنة مشغولة بيمينها الأيدلوجي في السيطرة على الدولة والقضاء وبرئيس وزراء مشغول بالإفلات من السجن ويخوض صراعا مع أركان دولته العميقة ومؤسساتها تلك الحكومة الضعيفة وغير المجربة المسلحة ببرنامج أيدلوجي متطرف كان السبب الرئيسي فيما حدث لإسرائيل من فضيحة السابع من اكتوبر فقد صنعت هذه الحكومة مناخات الحرب وشحنت الفلسطينيين بما يكفي من غضب ودافع للحرب حيث خطوات ضم الضفة الغربية وتطهير الجليل من الفلسطينيين والغور وسعار نشر المستوطنات وتعزيز التواجد اليهودي في الأقصى والتبجح في التطبيع مع السعودية وأن الفلسطينيين لن يحصلوا على شيء وإزدارء ضعفهم فقد كانت كل تلك توربينات الشحن اللازمة لهذا الإقتحام ولتلك الهزيمة .

                 غزة تلك المدينة الصغيرة التي تقع أقصى جنوب فلسطين على الحدود المصرية وتشكل أكثر قليلا من 1% من مساحة فلسطين التاريخية والتي تتعرض منذ احتلالها عام 1967 لتنكيل شديد وسيطرة محكمة وقسوة في التعامل معها محاصرة منذ حرب الأيام الستة ولكن بعد سيطرة حماس عليها عام 2007 إثر الصراع مع حركة فتح أطبقت اسرائيل الحصار بشكل كبير وحولتها لأكبر سجن في العالم حيث يرزح مليوني فلسطيني تحت حصار مشدد تنعدم بسببه الحياة الإنسانية حيث انقطاع الكهرباء والماء والمواد الغذائية وتحكم اسرائيل بكل شيء من مقومات الحياة ومع الفقر المدقع والبطالة وانعدام العمل والأمل  وتوربينات الشحن كانت كل الأوضاع تشير إلى إنفجار قادم كانت المخابرات الإسرائيلية تحذر من الإنفجارلأن متطرفي حكومة نتنياهو كانوا يتجولون بعيدان الثقاب المشتعلة بجانب براميل البارود .          

                 ما أن استعادت اسرائيل بعض التوازن بعد الإضطراب والفوضى التي سادت حتى بدأت برد الوحش الجريح وبسياسة الأرض المحروقة وبتلك المجازر التي رايناها منذ البداية وضرب مناطق مزدحمة بالسكان بما يحملها من جرائم حرب وإبادة جماعية وترحيل للسكان وقطع الماء والكهرباء والدواء تلك الشحيحة أصلا في غزة مما فاقم الأزمة الإنسانية بشكل غير مسبوق وسط صمت دولي يستمر منذ ستة عشر عاما بكل تلك التكلفة الإنسانية الحادة وفي الحرب تحولت إلى مأساة لم تعهدها البشرية .

                       مربعات سكانية كاملة تمت إزالتها مؤسسات مدنية ، بنية تحتية ، شوارع ، مساجد ، أبراج سكنية ، مربعات سكانية تختفي عن الخارطة وتتغير معالم المكان حرب انتقامية لا مثيل لها تجاوزت كل الحروب السابقة على غزة ضربت كل معايير أخلاق وقوانين الحروب التي التي تديرها الدول بل هبطت إلى مستوى من التوحش الإنتقامي الذي سيترك ندبة كبيرة على جبين البشرية التي لن تغادرها وهي تتذكر أن دولة في الأمم المتحدة تمارس هذه البشاعة ضد الأطفال والمدنيين العزل بلا تمييز بل أن أسماء وأعمار الضحايا من الفلسطينيين التي تحمل هذا القدر من النساء والأطفال كفيلة ليس فقط بتعرية السلوك الحربي الإسرائيلي بل أيضا تكشف أزمة الضمير الإنساني الذي صمت كثيرا بل وقف إلى جانب آخر احتلال في التاريخ متعارضا مع كل ما تنص عليه الأعراف الدولية .

               حتى كتابة هذه المادة لا زالت الحرب تستعر بكل قوة وهي في أيامها الأولى فقد تعتبرها اسرائيل الفرصة الذهبية لإنهاء صداع استمر أكثر من خمسة عقود صداع شكله قطاع غزة الذي أنتج الحركة الوطنية الفلسطينية مبكرا في ستينات قرنه الماضي فقد أنتج حركة فتح التي قادت المشروع الوطني ومعاركه وكذلك أنتج حركة حماس التي خاضت معها أشرس المعارك وأنتج حركة الجهاد الإسلامي التي باتت في السنوات الأخيرة قادرة على خوض حروب لوحدها وكان آخر ما فعلته غزة هو أن تتسبب لإسرائيل بتلك الفضيحة وبذلك الإنكشاف لأمنها القومي وأجهزتها الامنية والإستخبارية والدفاعية .

                بضرباتها الوحشية على القطاع التي تأخذ شكل السحق والإبادة كحروب القبائل المتوحشة بات واضحا أن اسرائيل تبحث عن صورة نصر لا يمكن أن تحصل عليها في غزة ، لكن أبعد من ذلك فهي تذهب لتغيير سياسي وهذا ما سقط من اعتراف وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت حين قال أن اسرائيل ستغير واقع القطاع لخمسة عقود قادمة استثمار اللحظة والدم اليهودي لتنفيذ مشاريع كانت تنتجها بهدوء مراكز دراسات وضعت في الأراج تنتطر اللحظة والظرف لتنفيذها فهل جاءت تلك اللحظة ؟

                 الصور التي جاءت من غزة تهز الضمير الإنساني وهي تكفي للبكاء لعقود قادمة وستظل جرحا في القلب الفلسطيني .. جرحا مفتوحا على الذاكرة الحبلى بالذكريات المأساوية ..صديقة الحزن العميق ولم تعرف سوى التراجيديا كتاريخ لا زال ينزف دما وأحزان .