المغرب-الجزائر: الخلاف من أجل الاختلاف

تناقض في السياسة الخارجية وسباق تسلّح وتوتر في الخطاب المتبادل

تنكبّ مراكز البحث الدولية الكبرى على استشراف بزوغ نظام دولي جديد. السجال محتدم بشأن ما يمكن أن تخرج به حرب أوكرانيا من تغيّر للخرائط الجيوستراتيجية الكبرى. والجدل مستعرّ بشأن مآلات الصراع المتعدّد الواجهات بين الصين والولايات المتحدة. ولئن لا حسم في هذه المسائل، لكن إجماعا نما خلال السنوات الأخيرة بشأن تحوّلات ملموسة حقيقية قد تحققت سواء على المستوى العالمي العام أم على مستوى الشرق الأةوسط وشمال أفريقيا.

ومع ذلك فإن ثباتا عجيبا يهيمن على طبيعة العلاقات بين المغرب والجزائر. فعلي الرغم من زلازل “الربيع العربي” التي ضربت بشكل دراماتيكي صاعق دولا جارة مثل ليبيا وتونس، وعلى الرغم من التطوّرات اللافتة في أفريقيا المجاورة، وهي امتداد جيوستراتيجي لكل شمال أفريقيا، فإن خطاب الخلاف بين الرباط والجزائري بقي على حاله، لا بل بدا في الآونة الأخيرة أكثر توترا. وعلى الرغم من تحوّلات الجزائر الداخلية بعد عهد الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، إلا أن خطاب الحكم في الجزائر بقيّ متمسّكا بخطاب تقليدي ضد المغرب لا يبشّر بفتح منافذ واعدة لإنهاء القطيعة والتباعد والتناقض.

ولم يوفّر الزلزال الذي ضرب المغرب مؤخراً الظروف المناسبة لتطبيع العلاقات مع الجزائر. وكان واضحاً أن حدّة الخلافات بين البلدين التي وصلت إلى حدّ القطيعة الدبلوماسية في آب (أغسطس) 2021 لا تتيح تجاوزا عاطفيا عفويا تبيحه مشاهد الكارثة. ولئن كررت الرباط خلال السنوات الماضية، لا سيما في مواقف العاهل المغربي الملك محمد السادس الدعوة إلى فتح صفحة جديدة مع الجزائر، غير أن لإغلاق ملف الخلاف أصولا وقواعد عمادهما الأول والأساسي هو ملف الصحراء الذي ما زال مادة تنافر سببت سجالا جديدا في الجمعية العامّة للأمم المتحّدة (الثلاثاء 26 سبتمبر/ أيلول 2023) بين السفيرين المغربي والجزائري.

مزاجان ومنهجان

وقد تكون خلفية الخلاف بين الرباط والجزائر سابقة على قضية الصحراء وتعود إلى “حرب الرمال” التي اندلعت عام 1963 على الحدود بين البلدين والتي ما زالت ظلالها ثقيلة على ذاكرة البلدين المشتركة. والأرجح أيضا أن مادة التباعد تعود إلى طبيعة النظامين السياسيين وتوجهاتهما وأدوارهما داخل المشهد الدولي العام إلى درجة أن يعتبر الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في آذار (مارس) الماضي أن علاقات بلاده مع المغرب “وصلت إلى نقطة اللاعودة”.

في التاريخ الحديث تباينَ مزاج الجزائر السياسي الأيديولوجي مع ذلك المنتهج تقليديا وتاريخيا في المغرب. فـ “الجمهورية” التي خرجت في الجزائر بعد حرب التحرير ضد الاحتلال الفرنسي أفصحت منذ الاستقلال عام 1962 عن توجهات يسارية قومية عالمثالثية قريبة من المعسكر

الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون: العلاقات مع المغرب “وصلت إلى نقطة اللاعودة”.

الاشتراكي الثوري في حقبة الحرب الباردة. فيما “الملكية” المغربية المتناسلة من حقب تاريخية متوالية بقيت محافظة في توجهاتها السياسية مرتابة من التيارات الثورية التي ظهرت في المنطقة بعد الاستقلالات سواء بالنسخ العروبية القومية أم اليسارية المتصّلة بتمدد دولي كان الاتحاد السوفياتي قائدا له.

وفق تباعد الطباع اختلفت الطبائع في خيارات الجزائر والرباط في السياسة الخارجية، الإقليمية والدولية. ووفق هذا الواقع تناقضت التوجّهات المتبادلة بين البلدين على نحو جعل من الخلاف حول قضية الصحراء سياقا مكمّلا وطبيعيا لحالة التوتر التي تكاد تكون بنيوية في طبيعة علاقات البلدين. فإذا كان المغرب متمسّك بمغربية الصحراء والسيادة الكاملة عليها بعد زوال الاستعمار الاسباني عام 1976 ودفع من أجل ذلك بـ “المسيرة الخضراء” في تشرين الثاني (نوفمبر) 1975، فإن موقف الجزائر لا يقوم على نزاع حول حقوق للجزائر في الصحراء بل على دعم لحركة بوليساريو الانفصالية بداعي الدفاع المبدئي عن “حق الشعوب في تقرير مصيرها”.

من حقّ المغرب أن يعتبر موقف الجزائر عذرا لاستكمال حالة “الحرب الباردة” بين البلدين. تعتبر أوساط الرباط أنه لو لم يكن هناك نزاع بين العاصمتين بشأن الصحراء لتقدّمت الجزائر بملفات أخرى لمواصلة الخلاف والاختلاف إلى حدّ التلويح الدائم باحتمال نزوعه نحو الصدام العسكري. بالمقابل فإن الجزائر تطلق مواقف قديمة جديدة لانتقاد النظام السياسي في المغرب والتعبير عن عدم الثقة بأجندته وتوجهاته الجيوستراتيجية. وما يُسعّر الخلاف بين البلدين هو موقف دولي متأرجح مخصّب بانتهازية لا يوفّر بيئة حاضنة لوفاق بين البلدين.

الاتفاقات الإبراهيمية

وعلى الرغم من اندثار الحرب الباردة بعد سقوط جدار بربين عام 1989، وعلى الرغم مما طرأ من تحوّلات جذرية على المشهد الايديولوجي في العالم، وعلى الرغم مما يثار عن احتمالات تشكّل نظام دولي جديد، وخصوصا إثر اندلاع الحرب في أوكرانيا، فلا شيء تحرّك أو تحوّل في جدار

العاهب المغربي محمد السادس: لا شيء يبرر إغلاق الحدود

الخلاف المغربي الجزائري. ويسهل على المراقب ملاحظة أن اللغة المتبادلة المستخدمة في السنوات الأخيرة باتت أكثر انفعالا، وأن الجزائر توطّد علاقاتها مع روسيا والصين وكانت تمنّ النفس بمقعد داخل مجموعة “بريكس”، فيما تتطور علاقات المغرب مع الولايات المتحدة وعواصم غربية كبرى أخرى.

وتتمحوّر سياسة المغرب مع دول العالم حول موقف عواصم هذه الدول من قضية الصحراء. يّسجل هنا تحوّل موقف الولايات المتحدة وألمانيا وإسبانيا مثلا باتجاه تبني رؤية المغرب في مسألة السيادة على الصحراء والحلّ الذي تقدمه الرباط والمتعلّق بحكم ذاتي يقوم هناك تحت السيادة المغربية. وإذا ما كانت الرباط ترى أن “ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وفق ما قاله عاهل البلاد في آب (أغسطس) 2022، فإن انضمام المغرب في ديسمبر 2020 إلى الاتفاقات الإبراهيمية جاء وفق هذه الحيثيات وبناء على هذا السياق.

غير أن هذا التطوّر الأخير منح الجزائر ذخيرة جديدة في سجالات الخلاف مع المغرب. تروح بعض مواقف الجزائر إلى اعتبار تطبيع العلاقات المغربية الإسرائيلية مناورة تستهدف أصلا وحصراً أمن الجزائر. وتستعيد الجزائر خطابا قديما بشأن الموقف من فلسطين والقضية الفلسطينية وتروّج لدور لها لترتيب البيت الفلسطيني المنقسم. ولئن ما زالت مسألة تطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية تخضع لتباينات وتبقى بمستوى ثنائي تقرره الدول العربية منفردة، غير أن أمر تطوّر علاقات المغرب وإسرائيل يمنح الجزائر منبرا إضافيا لتحصين خطاب الخلاف مع الرباط.

بانتظار التقرير الذي سيوجهه الأمين العام للأمم المتحدة إلى مجلس الأمن حول قضية الصحراء في نهاية تشرين الأول (أكتوبر) الجاري، وعلى الرغم مما يمكن أن ينتج عن الجهد الأممي الذي يقوده المبعوث الأممي المكلف بالصحراء الغربية، ستافان دي ميستورا، لا سيما جولته في المنطقة في بداية شهر أيلول (سبتمبر) الماضي، وعلى الرغم من جولة لمساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون شمال أفريقيا، جواشا هاريس، إلى المغرب والجزائر ومخيمات اللاجئين الصحراويين في تندوف ومداولات النزاع على هامش الدورة الأخيرة للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، غير أن موقف الجزائر وارتباك الموقف الدولي العام وانقسامه عامة لا يسمح بمنافذ حلّ بالفرض أو التراضي بإمكانها أن تكون مدخلا لحلحلة عقد علاقات المغرب والجزائر.

حرب الرمال

تعود القطيعة أيضا إلى سلسلة توترات ناتجة عن القطيعة وأجوائها. في كانون الأول (ديسمبر) 2013 تحدث وزير الخارجية الجزائري آنذاك رمضان لعمامرة، عن أن الاعتداء على القنصلية الجزائرية بالدار البيضاء، في أوائل نفس الشهر، “ترك جرحا في الضمير الجماعي الجزائري”. وفي كلام الوزير ما يفيد أن لازمةَ التوتر بين البلدين ستبقى شأنا ضروريا في إدارة علاقاتهما، بل يبدو أنها ضرورية، ربما، لإدارة الصراع الداخلي في البيت الجزائري.

تتأسسُ الرواية السياسية للنظام الحاكم في الجزائر على تغذية تناقض أزلي مع الجار المغربي. وفيما تَظهرُ مشكلة الصحراء وكأنها لبّ الخلاف بين

الجزائر يعتبر تطبيع علاقات المغرب وإسرائيل خطرا على أمنه

الرباط والجزائر، فإن بعض العارفين يجازفون بالقول، إنه لو فرضنا عدم وجود صحراء، لكانت الجزائر صنعت “صحراءها” لتبرير حال الاشتعال مع المغرب.

تعود القصة الجزائرية- المغربية إلى زمن الاستقلال. شكّل الحدث السعيد إطارا لأزمة حدود قادت إلى ما يُعرف بحرب الرمال بين البلدين (خريف عام 1963)، ومذاك صار للنزاع طبيعة الرمال التي لا تنتهي.

تجاوزُ الحرب وسكوت المدافع وانقشاع الدخان، أفرج عن نمطين سياسيين متناقضين يحكمان البلدين. أنشأت الجزائر جمهوريتها والتحقت بخنادق التكتلات اليسارية العالمثالثية، وأعلنت نفسها حليفا للناصرية عربيا وللاتحاد السوفياتي دوليا. من جهته، ثابر المغرب على ملكية نظامه، واختار تخندقا مناقضا في المنطقة والعالم. بيد أن زوال الحرب الباردة، لم ينزع التباين في علاقة الجزائر والمغرب، بما يعني أن خلاف البلدين محلي يتعلق ربما بجينات النظامين السياسيين بغض النظر عن تطورات التركيبات الإقليمية والدولية.

تتعلق قضية الصحراء بالنسبة للمغرب بالسيادة الوطنية وبالوحدة الترابية للمملكة. هكذا يرى المغرب والمغاربة ذلك. ورغم حيوية الجدل السياسي وتناقضه تاريخيا في المغرب بين معارضة وموالاة، إلا أن إجماعا عجيبا من أولي اليسار كما من أولي اليمين وفر مجتمعا حول الإرادة الملكية في شأن مغربية الصحراء.

دعم البوليساريو

يختلط في رواية الجزائر العقائدي بالديماغوجي. تؤكد الجزائر رسميا أن ليست لها أطماع صحراوية أو مغربية، وأن موقفها في شأن الصحراء الداعم لمطالب البوليساريو الانفصالية، يستند على مبادئ “احترام حق مصير الشعوب ووقوف الجزائر تاريخيا لمصلحة التحرر من الاستعمار”.. إلخ. على أن الموقفَ الجزائري، وحده، هو الذي يجعل من مسألة الصحراء “قضية”، وعصيّة على الحل. وهو الذي يعيدُ للرمال حراكها الخبيث في شمال أفريقيا.

تعتبرُ أوساط الرباط أن البوليساريو اختراعٌ جزائري، شكلا ومضمونا وتمويلا، وأن أي حلّ جديّ لـ “القضية” يتطلب مفاوضات مباشرة بين المغرب والجزائر، ووقف مهزلة التلهي بمفاوضات وهمية عقيمة مع البوليساريو التي لا تملك قرارها. وتهدف مقاربة التفاوض المباشر بين البلدين بالنسبة للمغرب، إلى توفير أجواء لتطبيق “الحلّ المغربي” لأزمة الصحراء، والذي بات يحظى بدعم دوليّ يُقلق الجزائر. المغرب يقترح إقامة حكم ذاتي من ضمن سيادة المملكة وتحت رعايتها. أمرٌ لا توافق عليه البوليساريو التي تطمحُ إلى الحصول، برعاية جزائرية، على الاستقلال الكامل.

في الحديث عن “جرح أصاب الضمير الجمعي الجزائري” ما كان يفصحُ (وما زال) عن مرامي الخطاب الرسمي ومقاصده. الروايةُ الجزائرية ما برحت تروم جرّ المجتمع الجزائري، أو الإيهام بذلك، نحو التماهي مع الإرادة الرسمية. لكن المعارضة الجزائرية في الخارج لطالما عللت الخطاب الجزائري المعادي للمغرب بأنه تمرين يُراد منه تصدير الأزمات الداخلية نحو معركة خارجية يراد منها شدّ عصب الجزائريين، كما شدّ انتباههم، نحو قضايا وهمية، قلما اهتموا بها، وقلما وجدوا في تلك الرمال ارتباطا بمشكلاتهم الحقيقية.

دبلوماسية الرباط

خسرت الجزائر حين أيّدت واشنطن، إضافة إلى مواقف أوروبية ودولية أخرى، “الحلّ المغربي بصفته “واقعيا”. على أن انهماك الدبلوماسية

الولايات المتحدة منذ الرئيس ترامب تعترف بحل المغرب للصحراء

المغربية في الدفاع عن سيادتها على الصحراء لا يهتم له أُولي الحكم في الجزائر. فما هو أساسي مبدئي أصيل بالنسبة للمغرب، تعتبره الجزائر ميدانا تمارس من خلاله ضغوطها “السادية” على الرباط. تعتبرُ الجزائر أمر الصحراء هامشيا لا يتعلق بسيادتها ويدور حول أراضي الغير. وتعتبر الجزائر أن التوافقات الدولية لن تُمرر حلا لا ترضاه، طالما أن لها القدرة على العرقلة الميدانية.

ساعة بطيئة من رمال تتحكم بعصب الأزمة بين البلدين. بات الخلاف الجزائري المغربي يتداعى على أمن المنطقة. فغياب التعاون والتنسيق بين البلدين في شؤون الأمن (لا سيما في ترتيبات الأمن الخاصة بمنطقة الساحل) يؤثّرُ سلبيا على أمن المنطقة برمتها. أضحى الميدان الجامع للبلدين وضواحيهما مرتعا لجماعات الإرهاب التي تجول في منطقة كشف التدخل الفرنسي في مالي فداحتها.

أوساط المغرب كانت تجاهر بمسؤولية المخابرات الجزائرية عن رعاية ملتبسة للجماعات الإرهابية، وبالمسؤولية عن التردي الذي وصلت له الأوضاع في شمال مالي قبل تدخل الفرنسيين (تعتبر هذه الأوساط أن هجوم عين أمناس في الجزائر عام 2013 مثلا هو ارتداد ما استثمرته تلك الأجهزة). وتتحفظ بعض الأوساط المغربية، في هذه الأيام، على مطلب فتح الحدود (الذي يُعد مطلبا مغربياً تتدلل الجزائر في رفضه)، ذلك أن المغاربة باتوا يعتبرون فتح تلك الحدود منفذا لإرهاب محتمل. صحيح أن السياسة الجزائرية شديدة الحساسية ضد جماعات الإسلام السياسي عامة والإسلام الجهادي خاصة، بيد أن الرباط لا تخفي شكوكها بتورط الأجهزة الجزائرية في تحريك تلك الجماعات للعبث بأمن المنطقة بما يشكّل تهديدا للمغرب .

الحدود المغلقة

تقوم معادلةٌ خبيثة تقود طبيعة العلاقة بين المغرب والجزائر. التوتر فلسفة تطّبع تلك العلاقة بشكل بنيوي يمنع أي أمل بقيام فضاء مغاربي. المغاربة يعتبرون أن النظام السياسي الجزائري جامدٌ لم يتطوّر منذ الاستقلال، وهو في جموده يمرّ بأزمة تلو أخرى على نحو مقلق قد يُخشى من أن يؤدي إلى انفجار شامل. المغاربة الفخورون بتحديث نظامهم السياسي وتطوّر نصوصهم الدستورية، يأملون بقيام الحكم الجزائري بإصلاح ذاتي يوسّع من طبيعة المشاركة ويجدد وجوه الحكم، لعلّ ذلك يفكك أزمة البلاد، وبالتالي يكسر حلقة التأزم المفرغة بين البلدين.

“مهما كان حجمُ هذا الخلاف، فإنه لا يبرر استمرار إغلاق الحدود”. هكذا يختصر العاهل المغربي محمد السادس مأساة إغلاق الحدود البرية بين بلاده والجزائر. لا يفصحُ الجزائريون، حكومة ونخبا وإعلاما، عن سرّ التمسك بإغلاق الحدود. تمر السنوات منذ قرار هذا الإغلاق ولم تنفع الوساطات أو نداءات العاهل المغربي في تبديل مزاج الجزائر في هذا الصدد. الأمرُ خسارة اقتصادية للبلدين، يعطلُ سهولة انسياب الأفراد والبضائع، ويعرقلُ طبيعية التواصل بين المغاربة والجزائريين، لاسيما سكان البلدين المنتشرين على طول تلك الحدود (1959 كلم).

الجزائر تتجه نحو روسيا والصين والمغرب يوطد علاقاته مع واشنطن

منذ حوالي ثلاثة عقود، وبالتحديد في شهر آب (أغسطس) من عام 1994، أغلقت الجزائر حدودها البرية مع المغرب بعد أن اتهمت الرباط المخابرات الجزائرية بالوقوف وراء هجوم إرهابي على فندق “أطلس أسني” بمراكش. الهجوم أسفر حينها عن مقتل سائحين إسبانيين، وجرح سائحة فرنسية. فيما تبيّن أن من قام بالاعتداء هم ثلاثة فرنسيِين من أصول جزائرية.

عقب هذا الهجوم فرض المغرب تأشيرةً على الجزائريِّين. ردت الجزائر بالمثل، وذهبت أكثر من ذلك بإغلاق الحدود البرية، وهو إجراء ما زال ساري المفعول حتى أيامنا هذه. وعلى الرغم من أن العالم تغيّر خلال هذين العقدين، وأن عالمنا العربي يمر بأنواء تتجاوزُ علل عام 1994، فإن الخطابَ الجزائري ما زال متعنتاً في شأن إغلاق ملفٍ أصبح، واضحاً، أنه بات من الكلاسيكيات البليدة لآليات العلاقة بين البلدين.

موقف الجزائر

تدافعُ الجزائر عن موقفها من مسألة إغلاق الحدود بأن الأسباب أمنية لرد تسلل الإرهاب إلى أراضيها، فيما الإرهاب كان يأتيها من أصقاع ونواح أخرى. وعلى الرغم من هذا التدبير الأمني، ربما اللا مثيل له في العالم، تتهمُ الجزائر الرباط بالعمل على إغراق الجزائر بالمخدرات، ما يعني اعترافا جزائرياً أن إغلاق الحدود البرية لم يحلْ دون رواج التهريب، بما في ذلك تهريب المخدرات جدلاً. في المقابل يتهمُ المغرب الجزائر بالعمل على إدخال حبوب الهلوسة إلى أراضيه، كما إغراق البلد بالمهاجرين الأفارقة عبر تلك الحدود، بما يعكس وصول الجدل بين البلدين إلى درك سفلي مقلق.

تقتضي المقاربةُ الأمنية منطقياً فتحَ الحدود لوقف استحداث معابر غير شرعية يستخدمها المهربون، كما تقتضي الإشراف المشترك المتعاون بين البلدين على تلك الحدود المشتركة المفتوحة. لكن طالما أن إغلاق الحدود أضحى مسلّمة جزائرية، فإن أمر ذلك لا يدخل في تصنيفات المنطق والعقل.

يستنتجُ المراقب أن الجزائر غير راغبة، وربما غير قادرة، على إنجاز أي تطوّر يطالُ ملف الحدود البرية مع المغرب، ذلك أن البلدَ عاجزٌ عن تجاوز عقدة العلاقات الشاملة التي تتجاوز تفصيل الجانب الحدودي مع المغرب. يستنتجُ المراقب أن الجزائر تجرُّ منذ الاستقلال (عام 1962) نفس النظام السياسي الذي قاده حزب جبهة التحرير الوطني، وإن تغيرت أسماء واستحدثت الأحزاب، وتجرّ نفس العقلية في مقاربة الشأن المغربي منذ حرب الرمال (عام 1963) وحتى الآن. ويستنتجُ المراقب أن توازن النظام الجزائري يقوم على “ثابتة” التوتر مع المغرب، لدواع ومبررات ملتصقة بالتركيبة العضوية للنظام وأركانه.

ويستنتجُ المراقب أن عجز النظام الجزائري عن تجاوز خطابه التقليدي الداخلي والخارجي والتصاقه بايديولوجيات متقادمة، يفسر هذا العقم المقلق في إجتراح سياسات خلاّقة جديدة تحاكي شروط الراهن، بالتالي الإخفاق في الخروج بخلاصات تتجاوز تلك التقليدية البليدة في مقاربة العلاقة مع الجار المغربي.

تحوّلات المغرب

يستمرُّ المغرب في إبراز اختلاف نظامه عن نظام الجار الجزائري. انتقل البلدُ من ملكية جامدة مطلقة، إلى مسار باتجاه الملكية الدستورية الكاملة. فتح الملك الحسن الثاني الفضاء السياسي في تسعينات القرن الماضي، ما أتاح تناوبا حكومياً أتى بخصوم الملك التاريخيين إلى السلطة. انطلق الملك محمد السادس أبعد من ذلك، منتهجاً درب المراجعة التاريخية والأخلاقية للنظام السياسي في بلاده، وصولاً إلى دفعِهِ بإصلاحات دستورية أتت

إغلاق الحدود الجزائرية المغربية خسارة اقتصادية للبلدينكومات منتخبة لإدارة البلاد. في ذلك أن المغرب الملكي يمارسُ مزاجاً جمهورياً، فيما الجمهورية في الجزائر تنحرف باتجاه ملكية تمارس حكم الرجل الواحد الذي لا بديل له.

عقد وعقائد

قيل الكثير عن الأسباب الجذرية لهذا الخلاف. قيل إن دولة الاستقلال في الجزائر أنتجت نظاماً انتهج خيارات يسارية اشتراكية اقتربت من المعسكر الاشتراكي والناصرية والعالمثالثية، فيما الخيارات المغربية الملكية انتهجت مسالك ليبرالية متحالفة مع الغرب ودول الخليج. وقيل أن لبّ الخلاف يعودُ إلى العبث الذي ارتكبه الفرنسيون أيام الاحتلال، لجهة اقتطاع منطقة تندوف المغربية وضمها للجزائر، ما أوجد لغماً فجّر حربا في الستينات، وقاد إلى ما يشبه القطيعة حتى يومنا هذا. ثم قيل ما قيل عن استفادة الدول المعنية بالمغرب العربي، فرنسا، أسبانيا، الولايات المتحدة وغيرها، من تلك العّلة المغاربية التي تمنعُ اتحاداً وتبعد قوة تخشاها تلك الدول.

انتهت الحربُ الباردة واندثر المعسكر الاشتراكي وذابت العالمثالثية. غاب ناصر والناصرية، وسقطت الأيديولوجيات العروبية وتفتت الأنظمة العربية المبشّرة بذلك. بات البلَدان، المغرب والجزائر، يتمتعان بعلاقات حيوية مع أوروبا والولايات المتحدة، كما مع روسيا والصين. ومرّت الجزائر بعشريتها السوداء في التسعينات على نحو يفترض أنها بدّلت الخصوم والأعداء، فيما حدّثت العلاقات الدولية المعاصرة وسائل وأد المشاكل الحدودية، كما إدارة العلاقات الثنائية بنجاعة عالية، حتى في ظل بقاء الإشكاليات العتيقة.

وبغضّ النظر عن التخمينات التي قد يرتكبُها المراقب في محاولة فهم الموقف الجزائري، فبالإمكان الاعتماد على شروط رسمية عبّرت عنها الجزائر لتطبيع العلاقات الثنائية وإعادة فتح الحدود. من هذه الشروط أن “فتح الحدود البرية بين البلدين يستدعي الوقف الفوري لحملة التشويه التي تقودها الدوائر المغربية الرسمية وغير الرسمية ضد الجزائر”، ثم “التعاون الصادق والفعال والمثمر من قبل السلطات المغربية لوقف تدفق وتهريب المخدرات إلى الجزائر” ثم “احترام موقف الحكومة الجزائرية فيما يتعلق بمسألة الصحراء الغربية”.

واضح أن المطلبيْن الأولين إجرائيين لا إشكالية فيهما، وأنهما زيادة عدد للوصول إلى لبّ المشكلة المتعلقة بالصحراء. وواضح أن الشرط الجزائري الثالث تعجيزيٌ يطالب المغرب بالاعتراف والتسليم بما هو أساساً أصل المشكلة بين البلديّن. في هذا، أن الجزائر ما زالت تستخدمُ مقارباتٍ مستحيلة هدفها البقاء على ملفات التأزيم.

تتشاركُ أسبانيا وبريطانيا في الاتحاد الأوروبي، رغم الخلاف المتعلق بمضيق جبل طارق، كما تتنامى العلاقة بين اليابان وروسيا، رغم أن طوكيو ما برحت تطالب موسكو بالانسحاب من جزر الكوريل المحتلة، وطالما أننا نتحدث عن المغرب، فإن الرباط مرتبطة بعلاقات سياسية واقتصادية متقدمة مع مدريد، على الرغم من مطالبة المغرب بتحرير مدينتي سبتة ومليلة المغربيتين من الاحتلال الأسباني.

نستطيعُ أن نورد عشرات الأمثلة في العالم التي تسلّط المجهر على كمّ النزاعات الثنائية في العالم ووسائل التعامل معها. تعرفُ الجزائر ذلك وتدركه جيداً، بيد أن الأمر ليس خلافاً حدوديا أو إشكالاً إجرائياً أو أزمة ديبلوماسية، بل إن الأمر قرار استراتيجي بإبقاء التوتر مع المغرب مستعراً كقاعدة من قواعد النظام السياسي الجزائري التي لن تتبدل إلا بتبدل النظام برمته. فقد وجدت الجزائر في قضية الصحراء ذريعة لفتح جرح دائم مع المغرب، ذلك أنها (أي الصحراء) ليست مصدر الأزمة الحقيقي، فالتوتر (منذ حرب الرمال) سابق على مسألة الصحراء، وهو الذي جعل من الصحراء “قضية” تناكفُ بها المغرب.

لم يوفّر الزلزال الذي ضرب المغرب مؤخراً الظروف المناسبة لتطبيع العلاقات مع الجزائر. وكان واضحاً أن حدّة الخلافات بين البلدين التي وصلت إلى حدّ القطيعة الدبلوماسية في آب (أغسطس) 2021 لا تتيح تجاوزا عاطفيا عفويا تبيحه مشاهد الكارثة. ولئن كررت الرباط خلال السنوات الماضية، لا سيما في مواقف العاهل المغربي الملك محمد السادس الدعوة إلى فتح صفحة جديدة مع الجزائر، غير أن لإغلاق ملف الخلاف أصولا وقواعد عمادهما الأول والأساسي هو ملف الصحراء الذي ما زال مادة تنافر سببت سجالا جديدا في الجمعية العامّة للأمم المتحّدة بين السفيرين المغربي والجزائري.

في التاريخ الحديث تباينَ مزاج الجزائر السياسي الأيديولوجي مع ذلك المنتهج تقليديا وتاريخيا في المغرب. فـ “الجمهورية” التي خرجت في الجزائر بعد حرب التحرير ضد الاحتلال الفرنسي أفصحت منذ الاستقلال عام 1962 عن توجهات يسارية قومية عالمثالثية قريبة من المعسكر الاشتراكي الثوري في حقبة الحرب الباردة. فيما “الملكية” المغربية المتناسلة من حقب تاريخية متوالية بقيت محافظة في توجهاتها السياسية مرتابة من التيارات الثورية التي ظهرت في المنطقة بعد الاستقلالات سواء بالنسخ العروبية القومية أم اليسارية المتصّلة بتمدد دولي كان الاتحاد السوفياتي قائدا له.

تعتبرُ أوساط الرباط أن البوليساريو اختراعٌ جزائري، شكلا ومضمونا وتمويلا، وأن أي حلّ جديّ لـ “القضية” يتطلب مفاوضات مباشرة بين المغرب والجزائر، ووقف مهزلة التلهي بمفاوضات وهمية عقيمة مع البوليساريو التي لا تملك قرارها. وتهدف مقاربة التفاوض المباشر بين البلدين بالنسبة للمغرب، إلى توفير أجواء لتطبيق “الحلّ المغربي” لأزمة الصحراء، والذي بات يحظى بدعم دوليّ يُقلق الجزائر. المغرب يقترح إقامة حكم ذاتي من ضمن سيادة المملكة وتحت رعايتها. أمرٌ لا توافق عليه البوليساريو التي تطمحُ إلى الحصول، برعاية جزائرية، على الاستقلال الكامل.

منذ عام 1994، أغلقت الجزائر حدودها البرية مع المغرب بعد أن اتهمت الرباط المخابرات الجزائرية بالوقوف وراء هجوم إرهابي على فندق “أطلس أسني” بمراكش. الهجوم أسفر حينها عن مقتل سائحين إسبانيين، وجرح سائحة فرنسية. فيما تبيّن أن من قام بالاعتداء هم ثلاثة فرنسيِين من أصول جزائرية. عقب هذا الهجوم فرض المغرب تأشيرةً على الجزائريِّين. ردت الجزائر بالمثل، وذهبت أكثر من ذلك بإغلاق الحدود البرية، وهو إجراء ما زال ساري المفعول حتى أيامنا هذه. وعلى الرغم من أن العالم تغيّر خلال هذين العقدين، وأن عالمنا العربي يمر بأنواء تتجاوزُ علل عام 1994، فإن الخطابَ الجزائري ما زال متعنتاً في شأن إغلاق ملفٍ أصبح، واضحاً، أنه بات من الكلاسيكيات البليدة لآليات العلاقة بين البلدين.