أمهات اشراف المسلمين النصرانيات يوطّدن العلاقات الاخوية بين المسلمين وأهل الكتاب

المونسنيور الدكتور شفيق ابوزيد

(جامعة أكسفورد)

مقدمة

اشتهر الاشراف في الجاهلية والإسلام بحب التسرّي والتزوّج بالإماء والفتيات الاجنبيات. وقد علّل ذلك عمر بن الخطاب بقوله، حسب ما ورد في الكامل للمبرد 1:254: “ليس قوم أكيس من أولاد السراري، لأنهم يجمعون عزّ العرب ودهاء العجم.” ولكن العرب كانوا يعدّون مثل هذا الزواج حطّة في النسب، ويسمّون من كان أبوه شريفًا وامه أَمَة “هجينًا”. وكان معظم الخلفاء العباسيين أبناء امآء وامهات أولاد، وهذا وحده كافٍ للدلالة على شدّة تفشّي التسرّي في الإسلام، ولذلك أنشد الرياشي في الكامل للمبرد 1،252:

ان أولاد السراري                                    كثروا، يا ربّ، فينا

ربِّ، أدخلني بلادًا                                    لا أرى فيها هجينًا

وكانت الفتيات الروميات من احبّ النساء الى المسلمين لما اتَّسَمْنَ به في الغالب من الصباحة، والحذق في الخدمة، وعمل اليدين. وكان بعضهنَّ يتمسكن بنصرانيتهن اشد التمسك حتى في قصور الخلافة، وهذا ما يسمح به الإسلام للمرأة الكتابية، النصرانية واليهودية.

  • أمهات الخلفاء والامراء والاشراف

من أولاد الخلفاء والامراء والاشراف، الذين اشتهروا بأمهاتهن المسيحيات، مسلمة بن عبد الملك، فيما حكاه ابن عساكر في ترجمته. والعباس بن الوليد بن عبد الملك، حسب ما ورد في مرآة الزمان لسبط ابن الجوزي. وعبدالله بن الوليد بن عبد الملك، ويزيد بن أسيد، وعبدة بن عبد الرحمن السلمي، وأبو الأعور السلمي.

  •  ام حنظلة بن صفوان الكلبي

وكانت ام حنظلة بن صفوان الكلبي أحد قواد الخليفة هشام الاموي نصرانية، لا تكتم دينها ولا جمالها. وروى عنها ابن رسته في كتابه الاعلاق النفسية، ص 213: خرجت مرة من الكنيسة ومعها جواريها، ومرت بابنها حنظلة، ومعه اعراب له من قبيلة كلب. فقال اعرابي منهم: “ان عجلتكم هذه لصبيحة، اما لهذه من فتيانكم احد؟ فقال له حنظلة: أَجمِل يرحمك الله، فإنها ام بعض جلسائك.”

  • ام الحارث بن عبدالله بن ابي ربيعة

وفي ضد ذلك كانت ام الحارث بن عبدالله بن ابي ربيعة تُسرّ نصرانيتها من ابنها، وكانت سوداء حبشية في الأرجح، وهو ما يُؤخذ من قول الخليفة عبد الملك بن مروان. ويروي كتاب الأغاني، 1:66-67 أنها لما ماتت حضر الاشراف جنازتها، وذلك في عهد عمر بن الخطاب، فسمع الحارث من النساء لَغطًا. فسأل عن الخبر، فعرف انها ماتت نصرانية، وانه وجد الصليب في عنقها، وكانت تكتمه ذلك. فخرج الى الناس فقال: “انصرفوا رحمكم الله، فإن لها اهل دين هم أولى بها منا ومنكم. فاستُحسن ذلك منه. وعجب الناس من فعله.”

     ولا يخفى ما في مثل هذا القول والفعل من الدلالة على سماحة خلق الحارث وشرفه وبره بوالدته. وهو شاهد ايضًا على قلة العداء للنصرانية في زمانه، خلافًا لما تمثّله لنا بعض التواريخ الإسلامية من عصر الخلفاء الراشدين.

  • أم خالد: والدة الأمير خالد بن عبدالله القسري

وأشهر من عُرف بأمّه النصرانية، وشُتم بولادته منها، الأمير خالد بن عبدالله القسري، عامل العراق للأمويين. وقد أنكر بعض الرواة والمؤرخين على الأمير خالد انه لم يأمر والدته بالإسلام. وكان من أراد تقريعه من الخلفاء والاعداء يقول له، حسب ما ورد في عيون التواريخ لابن شاكر الكتبي: “يا ابن النصرانية، ويا ابن الكافرة”. ولما همّ عمر بن عبد العزيز بقلع الفسيفساء والرخام من الجامع الاموي وجعل الطين والحصى مكانهما، خرج اليه اهل دمشق وهو بدير سمعان، وقالوا له: “يا أمير المؤمنين، بلغنا انك تريد ان تصنع كذا وكذا، فقال: نعم. فقال له خالد القسري وكان معهم: ليس لك ذلك، يا امير المؤمنين. قال: ولِمَ؟ يا ابن الكافرة. فقال: يا أمير المؤمنين، ان كانت نصرانية، فقدت ولدت رجلًا مؤمنًا. فاستحيا عمر، وقال: صدقت.” وفي رسالة لهشام بن عبد الملك الى خالد، وردت في الكامل للمبرد 2:289، ينكر عليه استعانته بالمجوس والنصارى في ولايته للعراق: “نزع بك الى ذلك عرق سوء فيهم من التي قامت عنك.” وأقبح من عيّره بها مسلمة ابن عبد الملك، وهو، فيما قيل، ابن نصرانية.

     وقد تضافرت الروايات الإسلامية والنسطورية على ان ام خالد كانت رومية الجنس. ولكن اختُلف في مصيرها الى ابيه. فقيل، حسب ما ورد في الكامل للمبرد 2:289، انه رآها في يوم عيد للروم. ولا شك، أُعجب بجمالها، فاستلبها، وأولدها خالدًا وشقيقه أسدًا. وكانت حسنة الصورة، زرقاء العينَين. تغزّل بها أحد الشعراء، نقلًا عن عيون الاخبار لابن قتيبة 4:58، فقال مدافعًا عن نصرانيتها وزرقة عيونها:

يقولون: نصرانيةٌ امُّ خالدٍ،                          فقلت: دعوها، كل نفس ودينها.

فإن تك نصرانيةً ام خالدٍ،                           فقد صُوّرت في صورة لا تشينها،

احبّكِ ان قالوا بعينك زرقة                          كذاك عِتَاق الطير زرق عيونها.

     ويظهر انها ما لبثت ان تأدّبت بآداب العرب، ولقنت لغته وفصاحتهم، حتى طاع لها نظم الشعر ايضًا. وهو ما يُستنتج من رواية لابن عبد ربه في العقد الفريد 2:276. وهكذا تكون ام خالد قد جمعت الى حلية الجسم حلى العقل والعلم.

  • ام خالد معلمة التسامح والاخوّة بين المسلمين وأهل الكتاب

لقد رضع الأمير خالد بن عبدالله القسري من امه النصرانية مع لبانها كرم الأعراق، وسهولة الخلق، والبعد عن كل تعصُّب ديني. ولذلك كان محسنًا الى أهل الذمة، يعرف لهم أقدارهم، ويقلّد من أصلح منهم الاعمال الديوانية. وهو ما أنكره عليه هشام بن عبد الملك، حسبما تقدم من ذكره في رسالته المشار اليها آنفًا. وقد شهد ماري بن سلمان، أحد كتاب النساطرة في كتاب المجدل، اخبار بطاركة كرسي المشرق، ص 66، ان خالدًا “كان يقصد الجاثليق (البطريرك) كثيرًا ويكرمه. وكان فثيون (جاثليق النساطرة) اذا دخل اليه الكوفة يُجلسه على كرسي ويخلع عليه. ويطلب الحنان ويسأله الدعاء. وواقفه على شيء يسير يؤدّيّه عن الخراج بالمدائن. وكتب له كتابًا وتقدم الى طارق خليفته بصيانته.”

     كان هذا الاحسان احد “ذنوب” الأمير خالد التي احتجّ بها أعداؤه حتى غيّروا رأي هشام بن عبد الملك فيه. ومن أجله ايضًا اتهمه أبو الفرج الاصفهاني في كتابه الاغاني 19:59، بأنه كان زِنديقًا يولي النصارى والمجوس على المسلمين، ويأمرهم بامتهانهم وضربهم، ويطلق لهم اقتناء الجواري المسلمات.

العدد 118 / تموز 2021