أميركا “مستعدة للإقلاع” والتضخم قد يعيق تعافيها

التلقيح تخطى الهدف وتأمين شيكات التحفيز أبرز ما تحقق بعد 100 يوم على ولاية بايدن

هلا صغبيني

مؤشرات إيجابية يسجلها الاقتصاد الأميركي مع إعادة فتح الشركات بعد استعادة الحياة التي أوقفها فيروس كورونا. صحيح أن الطريق الى التعافي الاقتصادي طويلة وشاقة، الا أن معظم التوقعات والتصريحات تشير الى أن الاقتصاد الأميركي يتجه الى طفرة يبقى تحقيقها رهناً بنمو أقوى للتوظيف.

بايدن خلال كلمته في الكونغرس بمناسبة مرور 100 يوم على توليه الرئاسة

فلقد مكّنت واحدة من أسرع حملات التلقيح ضد فيروس كورونا في العالم، الولايات والمدن الأميركية من تخفيف إجراءات الإغلاق بسرعة، مما عزز التوقعات بأن اقتصاد الولايات المتحدة بدأ يستعيد انتعاشه بسرعة معززاً بأموال المساعدات المرتبطة بالفيروس وبانحسار القلق حيال انتشار هذه الجائحة، الأمر الذي دعم الطلب المحلي وسمح لنشاطات الخدمات مثل المطاعم والحانات بإعادة فتح أبوابها.

التقدير الأولي للناتج المحلي الإجمالي للأشهر الثلاثة الأولى من العام الحالي، أظهر زيادة بوتيرة سنوية نسبتها 6.4 في المئة مقارنة بالفترة نفسها العام الماضي. هي ثاني أسرع معدل لنمو الناتج المحلي الإجمالي منذ الربع الثالث من العام 2003، وتأتي بعد تسجيل معدل نمو بلغ  4.3 في المئة في الربع الرابع من العام الماضي. حتى أن بعض الخبراء يتوقع أن يشهد العام 2021 أقوى نمو للناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة منذ عقود ليصل الى 7 في المئة هذا العام، وسيكون الأسرع منذ العام 1984، وذلك بعد انكماش نسبته 3.5 في المئة العام الماضي في أسوأ آداء منذ 74 عاماً.

لكن المفارقة أن أعداد الوظائف التي كانت تحسنت في بداية إبريل (نيسان)، جاءت أقل من التوقعات مع نهايته. فالوظائف غير الزراعية ارتفعت بمقدار 266 ألفاً فقط، فيما المتوقع كان مليوناً. يعزو البعض هذا الوهن في نمو التوظيف بإعانة البطالة الفدرالية البالغة قيمتها 300 دولار في الأسبوع لإغراء الأميركيين بالبقاء في منازلهم تحوطاً من كورونا. فهذه الاعانات التي تفوق ما قد يكسبه الأجير أسبوعياً من عمله، قد تشجع العمال المحتملين على البقاء في منازلهم. هنا وجد الجمهوريون، وانضمت اليهم مجموعات أصحاب العمل الضاغطة، سبباً وجيهاً لانتقاد سياسات الرئيس الاميركي جو بايدن “غير المجدية”، والمطالبة بإلغاء الاعانة. لكن استطلاعات الرأي خالفت هذه الحجج. فوفق آخر استطلاع للرأي أجراه مركز “بيو” للأبحاث، حصد بايدن 59 في المئة من أصوات الأميركيين المؤيدين لسياساته، في حين رفض 39 في المئة منهم سياسات بايدن.

بايدن والمهمة الشاقة

لاشك أن المهمة التي يواجهها رئيس أكبر اقتصاد في العالم شديدة الصعوبة والتشعب بين مواجهة وباء من بين الأكثر فتكاً في العالم، واعادة احياء اقتصاد منهك وسط انقسامات حادة مع رسم مرحلة جديدة في السياسة الخارجية.

في الأيام المئة الأولى في منصبه في البيت الأبيض والتي انتهت في الثلاثين من أبريل (نيسان) الحالي الأيام المئة الأولى، نجح الرئيس الاميركي جو بايدن الى حد كبير في الايفاء بمعظم الوعود الاقتصادية التي قطعها الى

بيانات التوظيف أقل من المتوقع في نهاية إبريل

الأميركيين خلال حملاته الانتخابية مع إقراره في الوقت نفسه بأن الولايات المتحدة لا تزال تعاني انهياراً اقتصادياً، وان الطريق الى التعافي لا يزال طويلاً. فهو وعد ناخبيه بأن يلقح مئة مليون أميركي، ليتخطى عدد الملقحين هذا الهدف بكثير. إذ تم تلقيح أكثر من 220 مليون أميركي حتى نهاية أبريل (نيسان). كما وعد بتوفير “الشيكات للأميركيين”. وهو لذلك كرّس الأسابيع الأولى له في منصبه لتمرير قانون تحفيز قيمته 1.9 تريليون دولار تم من خلاله ضخ الأموال في كل زاوية تقريباً من الاقتصاد المتضرر جرّاء كورونا، ما ساهم في تحسن المؤشرات الاقتصادية.

“أميركا مستعدة للإقلاع”، قال بايدن لمجلسي الكونغرس؛ النواب والشيوخ. “الآن وبعد 100 يوم فقط، يمكنني أن أقول أميركا تتحرك مجددا، محوّلة الخطر إلى إمكانية والأزمة إلى فرصة والانتكاسة إلى قوة”.

وكان الاقتصاد الاميركي بدأ يشهد انتعاشاً بدليل إضافة حوالي مليون وظيفة في مارس (آذار) الماضي ارتفاعاً من حوالي 380 ألفا في فبراير (شباط). لكن الفجوة في مستويات التوظيف مقارنة بالأشهر التي سبقت الوباء، لا تزال كبيرة. كما لا يزال عدد الوظائف أدنى بـ8.4 ملايين وظيفة مقارنة بذروة التوظيف قبل الوباء. وهو ما يؤشر على أن سوق العمل لا يزال يحتاج إلى أشهر من النمو السريع ليقترب من مستواه السابق للجائحة.

من هنا، قرر بايدن طرح حزمة ضخمة جديدة، تضاف الى رزمة التحفيز المالي، أطلق عليها تسمية “خطة الوظائف الأميركية” التي يتوقع “أن تخلق أقوى اقتصاد وأكثره مرونة وابتكاراً في العالم”. قيمة هذه الحزمة التي يجري التسويق لها أكثر من تريليوني دولار ويمتد تنفيذها على ثماني سنوات. وهي تهدف الى تحديث البنى التحتية المتداعية من طرق تقليدية وجسور وصولاً إلى الإنترنت فائق السرعة وتطوير السيارات الكهربائية. لكن يتوقع أن تكون عرضة لنقاشات حادة في الكونغرس نظراً لمعارضة الجمهوريين وحتى عدد من الديموقراطيين على ما تدعو اليه من رفع لمعدل الضريبة على الشركات بمعدل 28 في المئة بهدف تمويلها. وهو حال منظمة “بزنيس رواندتايبل” التي تجمع اكبر شركات البلاد التي أعلنت أنها ستعارض “بقوة” اي زيادة للضرائب. المعارضون يعتبرون أن هذا الاجراء سيكبّد الاقتصاد خسائر في الوظائف ويضر بالقدرة التنافسية للشركات الاميركية التي كانت افادت في ولاية دونالد ترامب من خفض كبير للضريبة من 35 في المئة الى 21 في المئة. فيما يحاول بايدن ومؤيدوه من الديموقراطيين أن يسوقوا للجمهور الفائدة الاقتصادية التي تجلبها خطط البنية التحتية وأهميتها في دفع النمو الأميركي صعوداً في حال إقرار الخطة.

ومن ضمن المبادرات الضخمة، أعلن بايدن عن حزمته التالية والتي اطلق عليها “خطة العائلات الأميركية” بتكلفة تريليون دولار إضافية على الأقل لتمويل رعاية الأطفال والتعليم.

ويرى صندوق النقد الدولي أن خطط بايدن لن تمنح الأميركيين قوة دفع اقتصادية فحسب، بل ستسهم في رفع مستوى النمو العالمي، إلى جانب غيرها من حزم الإنقاذ المختلفة، ولا سيما في الدول الغربية.

الاحتياطي الفدرالي

لم يصل التفاؤل الذي يبديه الاحتياطي الفدرالي (المصرف المركزي الاميركي) حيال نمو الاقتصاد الى درجة تدفعه نحو تخفيف الدعم الذي تم إقراره منذ بداية انتشار فيروس كورونا، بما في ذلك الوعد الذي قطعه بالحفاظ على سعر الفائدة الرئيسي لليلة واحدة قريباً من الصفر لسنوات قادمة والاستمرار في شراء 120 مليار دولار من السندات الحكومية والأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري كل شهر. فبقي في حال ترقب

ويبدو أنه لن يقدم على أي إجراء قريباً إلى أن يتم تحقيق الحد الأقصى من التوظيف. فالتعافي المحقق لا يزال غير متوازن، وأي محاولة لوقف التيسير النقدي ستكون لها تداعيات سلبية. سيما وأن بعض المؤشرات لا تزال مرتفعة، من البطالة التي لا يزال معدلها أعلى بحوالي 2.5 نقطة مئوية عن مستواه قبل الوباء مباشرة، وأعداد الوظائف حيث لا يزال هناك نقص بحوالي 8.5 ملايين وظيفة في سوق العمل عما قبل الوباء. وبالاضافة الى ذلك، هناك تخوف من أن يحبط التضخم الانتعاش الاقتصادي للولايات المتحدة. مؤشر أسعار المستهلك الأساسي لوزارة العمل الاميركية عن شهر إبريل (نيسان) أوضح دليل حتى الآن على أن ضغوط الأسعار قد تصبح تهديداً متزايداً للانتعاش. اذ قفز المؤشر إلى 2.3 في المئة، وهو أعلى مستوى منذ انتشار الجائحة في الولايات المتحدة.

لكن الفدرالي لا يزعجه ارتفاع معدل التضخم، على الأقل خلال الفترة الراهنة، وهو يملك الأدوات للتعامل مع ذلك إذا برزت مشكلة. علماً ان توقعات السوق اشارت الى معدل تضخم بمتوسط 2.5 في المئة لخمس سنوات، ارتفاعاً من توقع سابق كانت نسبته 0.8 في المئة قبل عام.

في ما خص معدلات الفوائد، فان “الفدرالي” يولي اهتماماً وثيقاً بأسعار الفائدة قصيرة الأجل للغاية، والتي كانت تنخفض منذ بداية العام مع تضخم الاحتياطات في النظام المالي. ويرى محللون أنه يأبى أن يغامر بإزعاج الأسواق باتجاه رفع الفائدة، أو بالتخفيف من شراء الأصول، على الأقل ليس الآن. لكنه في المقابل لا يريد أن تصبح أسعار الفائدة في السوق سلبية. وهذا هو السبب في أنه حدد سعر سياسته الرئيسي، أي معدل الأموال الفدرالية، في نطاق مستهدف بين صفر و0.25 في المئة. وهو يحوم حالياً بالقرب من الطرف السفلي للنطاق عند 0.07 في المئة. ولكن الى متى سيبقي على مستويات الصفر التي ستزيد من التشوهات في الاسواق؟

معلوم أن تحديد معدلات الفائدة يتم من قبل الاحتياطي الفدرالي. لكن تصريحات وزيرة الخزانة جانيت يلين في هذا الشأن كانت كفيلة بهز الأسواق. فهي اعتُبرت خرقاً لاستقلالية المؤسسة النقدية حيال السلطة السياسية وصدرت من الرئيسة السابقة للاحتياطي الفدرالي التي تدرك الصلاحيات المناطة بهذه المؤسسة.

فيلين قالت إنه سيكون من الضروري على الأرجح رفع معدلات الفائدة قليلاً لتجنب ارتفاع نشاط مفرط للاقتصاد مرتبط بخطط الاستثمار التي قدمها بايدن. لتستدرك لاحقاً تداعيات هذا التصريح فتؤكد أن ما قالته “ليس توقعات ولا توصية”، وأنها تولي شخصيا أهمية لهذه الاستقلالية.

في الواقع، إن خطة بايدن لخلق وظائف جديدة سيصار الى تمويلها جزئياً عن طريق ضرائب أعلى على الشركات والأفراد الأثرياء. وهو أمر قد يفرض ضغوطاً على الاحتياطي الفدرالي وعلى رئيسه جيروم باول حول مدى  تأثير هذا الاجراء على نظرة المصرف المركزي وعلى مسار السياسة النقدية. فالزيادات الضريبية على الشركات قد تعيق السوق، وبالتالي قد لا يكون التضخم منتعشاً كما يعتقد البعض. من هنا، اتبع الاحتياطي الفدرالي نهج المصرف المركزي الأوروبي بالإبقاء على الفائدة والسياسة النقدية من دون تغيير، ولم يحذُ حذو مصرف كندا الذي فاجأ الاسواق في تقليص حجم مشتريات السندات وتعديل الجدول الزمني لرفع معدلات الفائدة.

ختاماً، صحيح أن إن الاقتصاد الأميركي بات عند “نقطة انعطاف”، لكن الوباء لم ينته بعد، والحياة لم تعد لطبيعتها الكاملة. من هنا، ربط الاحتياطي الفدرالي مساره بمسار آليات مواجهة كورونا. فـ”أحد المخاطر الرئيسية التي تواجهنا أننا نعيد فتح أبوابنا بسرعة كبيرة”، يقول باول.

العدد 117 / حزيران2021