أنْ تُنير شمعةً في الظلام

نسرين الرجب- للبنان

الشاعرة والناقدة والباحثة الرائدة “سلمى الخضراء الجيوسي”.

في قصيدة “المدينة والفجر” للشاعرة سلمى خضراء الجيوسي، والتي جاء في مطلعها: “لكُل مدينةٍ في الكون ساعة طهرها الساحر/ فلو ضجّت لياليها/ ولو ضجّت مقاهيها/ ولو سالت دنان الخمرِ رجسًا من سواقيها/ فعند الفجر تلقاها/ وثوب الطهر يغشاها/ كأنّ الليل لم يرقص على مصباحها الساكر/ ولم يسكب إله اللهو ذوْب جنونه فيها” انطبعت في ذهني مشهديّة الحياة بشرّها وخيرها، وصورة المدينة العابثة والمصطنعة والتي مهما طال ليلُ مجونها تصلُ إلى الفجر وهي في حالة تطهُّر من رِجسها.

لم تكن الدكتورة سلمى شاعرة فقط، بل هي تاريخ من العلم والثقافة والبحث الموسوعي، تشبّثت بجذورها العربيّة واتخذت من التراث قارب نجاة للتمكّن من ثقافتها العربيّة الأصيلة وتقديمها للغرب عبر ترجماتٍ أثيرة، وللتنظير للحداثة الشعريّة والأدبيّة.

يُسلطُ هذا المقال الضوء على نقاطٍ من سيرة حياة الرائدة سلمى الشمعة المنيرة التي توهجّ نور عقلها وأضاء الكثير من الظُلمة في تاريخ أدبنا المُعاصر، ويُشير إلى بعض إنجازاتها وأرائها في الشعر والثقافة العربية، ولا يتسّع المقام للإحاطة بكلّ جوانب سيرتها العلميّة وإنجازاتها الثقافيّة العظيمة.

البدايات

وُلدت سلمى الخضراء الجيوسي في العام 1926، لأبٍ فلسطينيّ الجنسيّة وهو المحامي والمُناضل “صبحي سعيد الخضراء” وأُمٍّ لبنانيّة الجنسيّة “أنيسة يوسف سليم” والتي كانت ذات ثقافة وأدب وحبّ اطّلاع. عاشت طفولتها في عكّا، شكّلت مكتبة الوالد معينًا ثقافيًا لعقل سلمى الغض، إضافة إلى تشجيع عائلتها على العلم والتعلم، أُرسلت إلى القدس لتُتابع دراستها الثانوية في كلية شميدت الألمانية في القسم الداخلي، حيث لم يكن هناك ثانوية في عكا، وكما تقول في إحدى المقابلات أنّ والدها كان يستدين لكي تتعلم، عاش والدها حياة نضال ومقاومة أثرّت في شخصيتها وفي تعزيز الروح العربيّة وحبّ التراث، بعد نكبة فلسطين 1948 انتقلت العائلة للعيش في الأردن، تزوّجت من زميل لها في الجامعة الأميركية هو “برهان كمال الجيوسي” وكان دبلوماسيًا ماسمح لها بالتنقل بين عدّة بلدان ودُوَل، أنجبت ثلاثة أبناء: (أسامة، لين، ميْ).

درست الأدبين العربي والإنكليزي في الجامعة الأميركيّة في بيروت، حصلت على درجة الدكتوراه في الأدب العربيّ من جامعة لندن في العام 1970، كانت الدراسة حول الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث، درّست الشعر الحديث في خطواته الأولى في معهد الدراسات الأفريقية الأسيوية في لندن، قامت بالتدريس في جامعات الخرطوم وقسنطينة، ودرّست الأدب الأموي. قامت بالتدريس في عدة جامعات عربية وأجنبية ومنها جامعة يوتا في الولايات المتحدة الأميركية.

عملت على ترجمة عدد من الكتب عن الإنكليزية منها كتاب لويز بوجان “انجازات الشعر الأميركي في نصف قرن”. وكتاب رالف بارتون باري “إنسانية الإنسان”.  بدأت النشر في مجلة اللآداب البيروتية قبل العام 1960.

الشاعرة والناقدة

في بداية مشوارها قدّمت نفسها كشاعرة  من خلال ديوانها “العودة من النبع الحالم” في العام 1960.  وانخرطت في موجة الشعراء المجددين، كتبت في مجلتي الآداب وشعر، لمس الصحفي والأديب غسان كنفاني في مقال له (نُشر في مجلة الآداب العدد 6، في 1 حزيران 1960 ) عن ديوانها: “انفتاحًا غير محدود على الإنسان في قوته وضعفه، في إيمانه وجحوده، وفي كل لحظة يتعرض لها إحساس هذا الإنسان الذي لا يستطيع أن يكون فوق المنبر كل لحظات حياته، ولا بد له من أن يعيش مع الناس.. ويفهم كيف يعيشون”

تُعد من جيل روّاد الحداثة الشعرية  (بدر شاكر السياب، أدونيس، محمد الماغوط، نازك الملائكة، بدوي الجبل، جورج صيدح وغيرهم)، وساهمت في حركة مجلة شعر، والتي كانت مكرّسة للشعر ولا علاقة لها بالسياسة، وكان شعارها الحداثة والحُريّة. ولكن هذا لم يمنع من قيام بعض الجدالات السياسية وخاصة في تلك المرحلة الحرجة من تاريخ العرب السياسي، كانت تصرّ على ضرورة البقاء في وجه ثقافة التهديم الشامل، فهي نشأت على احترام كبير للتراث العربي فكانت ترى أنّ الاهتمام بالتجديد والوصول إلى المعاصرة لا يمنع من اتباع سياق التعافي، وهذا ما انتقده بعض الشعراء في المجلة الذي كانوا  يرون أنه لا بد من طوفان يهدم القديم ليقوم عليه الجديد.

فهي كانت ترى أن البلاء العربي -كما وصّفته- في إحدى مقابلاتها أعمق وأقوى من كل هدم.

وكان موقفها من الشعر الحديث أنّ “الشكل ليس معيارًا للحكم على جدارة نص، لأن أي شكل سيصبح يومًا شكلاً قديمًا لأن كل شيء يتغير”..

و رأت أن الشعر الحر توقّف إزاء شعر الشطرين حاملاً الثورة ضدّه، فالشعر الحر هو شعر موزون لا يلتزم بشكل الشطرين وبالقافية الموحّدة، وقصيدة النثر على العكس خالية من الوزن وصعب تقبلها للإيقاع الشاعري. ترى الدكتورة سلمى أن الوزن الشعري داخلها، فقد وعت على والدها الذي كان يغني الشعر، وتؤكد أنها ليست ضد الشعر اللاموزون إذا حافظ على ثراء الإيقاع، فجماليّة الشعر في معناه وصوره وإيقاعه، لكنها تعترض على أن يتحوّل الشعر العربي إلى شعور لا يصلح إلّا إذا خلا من أيّ وزن. وتؤكد على دور دور النشر في وضع شروط القبول بعيدًا عن الطمع التجاريّ.

وعلى خلاف المتداول من أن الحداثة الشعرية بدأت مع بدر شاكر السيّاب ونازك الملائكة، صرّحت إلى أنّ التفعيلة جاءت مع الشاعر والمسرحي “علي أحمد  باكثير” الذي كتب المسرح الشعري وفق نظام التفعيلة، وأخرج الشعر العربي من ديمومة الشكل المتوازن وكسر التفعيلة، وعنه قام السياب والملائكة بإرساء نظام التفعيلة في الشعر الحديث.

كانت قريبة من شعراء تلك المرحلة، وأرخّت في كتابها “حركات الشعر المعاصر” عن دورهم الأدبي والنقدي، ومن هؤلاء نازك الملائكة ودورها في النقد، وبدر شاكر السيّاب الذي كان صديقا مقربًا منها، ورأت أنّ خلود شعره يعود إلى “أنه عبّر عن وضع الإنسان ومعاناته وتجربته، أي عن الأمور التي تتجاوز عصر الشاعر لتحيط بالتجربة الإنسانية كلّ مرّة..”

إنجازاتها ومساهماتها الثقافية

في ربيع 1985 دعتها الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم لإعداد دراسة حول وضع الأدب العربي واستحقاقه لجائزة نوبل، فاز على إثرها الكاتب نجيب محفوظ 1988 بجائزة نوبل للآداب. دعتها الأكاديمية إلى ستوكهولم لحضور حفل توزيع الجوائز تقديرًا لجهودها.

أصدرت أوّل موسوعة لها حول الشعر العربي الحديث في الأدب العربي بتمويل من وزارة الإعلام العراقيّة، في أوائل الثمانينيات ضمّت 93 شاعرًا عربيا، واستغرقت فكرة النشر حوالي سبع سنوات، آمنت بالشعر لأنّه برأيها يُبرز الوحدة العربية،  فهي ترى أنّ لغة الشعر موحّدة  كونه لا يتحدث عن عادات وطنيّة إجمالًا ويتحدث عن العواطف والرؤى العربية.

مشروع بروتا

كانت في غذاء عمل مع طلابها حيث كانت تُدرِّس في جامعة تكساس، فانبرى أحد الطلبة الأجانب ليقول لها أن الأدب العربي لا وجود له ولا أثر للثقافة العربيّة، فردّت عليه بما معناه: “سأُريك ما لدينا”، استعرّ شيء في داخلها، وآلمتها غفلة العالم العربي الذي لا يدرس أوضاع الأدب فيه، ولا يعرف قيمة نقص ثقافته للعالم. في العام 1979 تلقّت دعوة لإلقاء المحاضرة السنوية  في كلية بارنارد في جامعة كولومبيا عن وضع الكاتب العربي، وفي نهاية المحاضرة اقترح عليها مدير دار جامعة كولومبيا للنشر التعاون من أجل تحرير مجموعة كبيرة للأدب العربي. فقرّرت التفرغ لأداء هذا العمل، وأسّست في العام 1980 بالتعاون مع عدد من أساتذة جامعة بميشغان مشروع بروتا، من خلال ترجمة نصوص عربية مختارة من العربية إلى الإنكليزية، تعاونت مع جامعة كولمبيا الأميركية ونشرت مجموعة من المؤلفات عن الأدب العربي وتاريخه في العصر الحديث. استطاعت إصدار أكثر من 40 مؤلفًا ثقافيا، و 11 موسوعة وكثير من الترجمات لأعمال شعرية ونثرية، إضافة إلى ترجمة رواية المتشائل للكاتب الفلسطيني إيميل حبيبي.

 وعن هذا المشروع قالت شعرا:  “حلمٌ على ورق/ أنجزته بيدي ولم يضن عليه الحبر والورق/ حلمٌ على أرق/ ألقمته جسدي/ .. حلمٌ ورثته رفيع الشأن دان له صبري الشحيح/ وقلبي ذلك النزقِ”

رابطة الشرق والغرب

كانت سلمى مأخوذةً بالعمل من أجل إحياء أمجاد الثقافة العربيّة، لذا عملت، وقبل سنوات من العام 1992  ذكرى مرور 500 سنة على سقوط الحكم الإسلامي في الأندلس، على البحث بجدّ عن تعاون عربيّ من أجل الكتابة عن تاريخ العرب في الأندلس ويومها لم تجد أيّ تعاون عربيّ، فلم تفقد الأمل وتمكّنت في العام  1988، من التعاون مع أستاذ في جامعة هارفرد من أجل إعداد كتاب عن الحضارة الإسلاميّة في الأندلس وقد ساند المشروع الأغا خان الذي أقام له مؤتمراً افتتحه ملك إسبانيا خوان كارلوس في العام 1991 في غرناطة، وتوج هذا التكريم بترحيب وإقبال كبيرين من القراء والباحثين في أنحاء العالم، ضمّ الكتاب 49 حقلا من حقول الحضارة الإسلاميّة بمشاركة أكثر من 40 باحثًا معظمهم من الأجانب.

أطلقت مشروعها “رابطة الشرق والغرب” في العام 1990، هدفت إلى تقديم الحضارة العربية الإسلاميّة قديمًا وحديثًا باللغة الانكليزية عبر مؤتمرات أكاديمية شاملة ومتخصصة من أجل إزالة المفاهيم الخاطئة والآراء النمطيّة عن ثقافات العالم العربي الإسلامي.  صدر عن المشروع كتابها الآنف الذكر حول “الحضارة العربيّة والاسلامية في الأندلس” 1992، وكتابها الموسوعي “حقوق الانسان في الفكر العربي: دراسات في النصوص”  وفيه دلائل على أسبقية العرب في الاهتمام بحقوق الإنسان.

واجهت معوّقات لنشر “موسوعة الأدب الفلسطيني الحديث” في جامعة كولومبيا، حيث ادّعى أحد أعضاء اللجنة الأكاديمية وكان صهيونيًا أنّ الموسوعة ليست أدبية كفاية، وبعد محاولات كثيرة تواصلت مع المفكّر الفلسطيني إدوارد سعيد الذي بعد أخذٍ وردّ اقترح على اللجنة إعطائها لقارئٍ آخر، وعلى هذا تمّ نشر الموسوعة بعد شهرين، في جامعة كولومبيا في الأدب الفلسطيني الحديث، منشورات جامعة كولومبيا، نيويورك 1992.

إضافة إلى عدّة ترجمات من العربية إلى الإنكليزيّة لروايات ودواوين شعر.

أثبتت الدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي حضورها العلميّ والثقافيّ بقوّة في العالميْن العربي والأجنبي، فهي واجهت العديد من العقبات والتحديّات كامرأة فاعلة في مجتمع عربيّ قليلا ما يُعترف بإنجازات النساء فيه، وكمواطنة في عالم عربيّ تتخبطهُ السياسة والصراعات من كُلّ جانب ويُعاني من أزمة معرفة وأزمة وجود، يُصاحب ذلك قلّة اهتمام المسؤولين العرب بالثقافة والأدب، كان ضعف التمويل –أحيانا- يقفُ حائلا أمام استكمال مشاريعها، ولكن إرادتها وإيمانها بأهميّة الأدب والثقافة العربيّة في العروج الحضاري، مكنّاها من المُضي قدماً وطرق عدّة أبواب عوضًا عن الاستسلام.  صدر لها أكثر من 22 كتابا هامًا تُعتبر معظمها مصادر رئيسيّة في الثقافة الغربيّة،  حصلت على عدد من الزمالات من الجامعات الأميركيّة، وكذلك زمالة الفولبرايت في سوريا والأردن وفلسطين. واستحقّت التكريم من عدّة جهات عربيّة وأجنبيّة تقديرًا لجهودها في مدّ جسر التواصل بين العرب والغرب نذكر منها: وسام القدس للإنجاز الأدبي 1990، ووسام اتحاد المرأة الفلسطينية الأميركية للخدمة الوطنية المتفوقة 1991، وجائزة الشيخ زايد للكتاب، في دورتها الـ 14 لعام 2019-2020.

العدد 115 / نيسان 2021